المسألةُ الثَّانيةُ: هل معرفةُ اللهِ واجِبةٌ بالشَّرعِ أم بالعَقلِ؟
ها هنا أمران:
الأول: حصولُ معرفةِ اللهِ بالعَقلِ.
الثَّاني: وجوبُ معرفةِ اللهِ بالعَقلِ شَرعًا ينوطُ به التَّكليفَ، ويترتَّبُ عليه الثَّوابُ والعقابُ.
فالأمرُ الأوَّل: لم يختَلِفْ فيها
الماتُريديَّةُ و
الأشْعَريَّةُ؛ لأنَّ معرفةَ اللهِ تعالى أمرٌ فِطريٌّ وعقليٌّ في الجملةِ، وشَرعيٌّ في التَّفصيلِ.
وأمَّا الأمرُ الثَّاني: فاختلف فيها
الأشْعَريَّةُ و
الماتُريديَّةُ.
فقالت
الأشْعَريَّةُ: معرفةُ اللهِ واجِبةٌ بالشَّرعِ لا بالعقلِ.
وقالت
الماتُريديَّةُ: معرفةُ اللهِ واجِبةٌ بالعقلِ ولو لم يوجَدِ الشَّرعُ، وهو مَذهَبُ جُمهورِ
المُعتزِلةِ، حتى صرَّح
أبو منصورٍ الماتُريديُّ وكثيرٌ من مشايخِ العِراقِ من الحَنَفيَّةِ أنَّه يجِبُ على الصَّبيِّ العاقِلِ مَعرفةُ اللهِ وإن لم يبلُغِ الحِنثَ، واختار أئمَّةُ بخارى من الحَنَفيَّةِ مَذهَبَ
الأشْعَريَّةِ، فقالوا: لا يجِبُ إيمانٌ، ولا يَحرُمُ كُفرٌ قَبلَ البَعثةِ.
وثمرةُ الخلافِ تظهَرُ فيمن نشأ على شاهِقِ جَبَلٍ ولم تبلُغْه الدَّعوةُ، ولم يؤمِنْ باللهِ، ومات؛ فهو غيرُ مُعَذَّبٍ عِندَ
الأشْعَريَّةِ، ومُعَذَّبٌ عِندَ
الماتُريديَّةِ.
وقولُ
الأشْعَريَّةِ أصوَبُ، ولكنَّهم ناقضوا أنفُسَهم في جعلِ العَقلِ مَصدَرًا لتلقِّي العقيدةِ، وقدَّموا العقولَ على النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ في كثيرٍ من أبوابِ العقيدةِ، كالصِّفاتِ وغيرِها.
وأمَّا قولُ
الماتُريديَّةِ فباطِلٌ، وسلفُهم في ذلك
المُعتزِلةُ، والحقُّ أنَّ الوجوبَ الشَّرعيَّ لمعرفةِ اللهِ تعالى بالشَّرعِ لا بالعقلِ، فالعَقلُ وَحدَه -وإن كان مُدرِكًا لمعرفةِ اللهِ- غيرُ كافٍ في الوجوبِ؛ لأنَّه لا تتِمُّ الحُجَّةُ على العبدِ بمجَرَّدِ عَقلِه ما لم يبلُغْه الشَّرعُ، وهذا من كمالِ رَحمةِ اللهِ، ووافِرِ فَضلِه، ونهايةِ عَدلِه، ومقتضى حكمتِه سُبحانَه وتعالى.
غيرَ أنَّ العقلَ شَرطٌ في صحَّةِ التَّكليفِ لا موجِبٌ له، فالعَقلُ لا يُطرَحُ بالكُليَّةِ، ولا يستقِلُّ بالكليَّةِ، والشَّرعُ هو الذي يُعتمدُ عليه في أصولِ الدِّينِ، والعقلُ عاضِدٌ له ومعاوِنٌ، بل نفسُ معرفةِ اللهِ تعالى أمرٌ فِطريٌّ جِبِلِّيٌّ فطر اللهُ النَّاسَ عليه، لا ينحَرِفُ عنه إلَّا من فسَدت فِطرتُه، غيرَ أنَّ الذي يُدرَكُ بالعقلِ ومركوزٌ في الفطرةِ هو معرفةُ اللهِ الإجماليَّةُ، أمَّا معرفةُ اللهِ التَّفصيليَّةُ بأسمائِه وصفاتِه فلا تحصُلُ إلَّا بالشَّرعِ.
فالفِطرةُ لها وظيفةٌ، والعقلُ له وظيفةٌ، وللشَّرعِ وظيفةٌ؛ فالفِطرةُ قابلةٌ للحَقِّ، والعَقلُ مُزكٍّ، والشَّرعُ مبصِرٌ مُفَصِّلٌ لِما هو مركوزٌ في الفطرةِ، فالعقلُ وسيلةٌ لمعرفةِ النَّقلِ، ولا تعارُضَ بينهما.
ومن وظيفةِ الشَّرعِ أنَّ اللهَ تعالى أوجب به معرفَتَه على العبدِ، وبه مناطُ التَّكليفِ، وعليه يترتَّبُ العقابُ والثَّوابُ، وبذلك تتمُّ حُجَّةُ اللهِ على عبادِه، وهذا مَذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ.
ومن الأدِلَّةِ على ذلك:1- قَولُ اللهِ تعالى:
رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 165] .
2- قول الله سُبحانَه:
وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] .
3- قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ:
لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى [طـه: 134].
فهذه الآياتُ صريحةٌ في عَدَمِ تعذيبِ من لم تبلُغْه دعوةُ الرُّسُلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، ودلَّت هذه الآياتُ على أنَّ وجوبَ المعرفةِ والتَّكليفِ والثَّوابِ والعقابِ، بالشَّرعِ لا بالعَقلِ.
وبوَّب
اللَّالَكائيُّ فقال: (سياقُ ما يدُلُّ من كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وما رُوِي عن النَّبيِّ على أنَّ وجوبَ مَعرفةِ اللهِ تعالى وصفاتِه بالسَّمعِ لا بالعَقلِ)، ثمَّ قال:... وهذا مَذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ)
[678] ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (2/193). .
وقال
أبو المظَفَّرِ السَّمعانيُّ: (إنَّ العَقلَ لا يوجبُ شيئًا، ولا يحَرِّمُ شيئًا، ولا حَظَّ له في شيءٍ من ذلك، ولو لم يَرِدِ الشَّرعُ بحُكمٍ ما وَجَب على أحدٍ شَيءٌ... ونحن لا نُنكِرُ أنَّ العقلَ يُرشِدُ إلى التَّوحيدِ، وإنما نُنكِرُ أنَّه يستقِلُّ بإيجابِ ذلك)
[679] ((فتح الباري)) لابن حجر (13/353). ويُنظر: ((رسالة في الكلام على الفطرة)) ضمن مجموعة الرسائل الكبرى (2/344)، ((النبوات)) (ص: 239، 240) كلاهما لابن تيمية، ((لوامع الأنوار البهية)) للسفاريني (1/113). .