المَطلَبُ الأوَّلُ: بُذورُ الاعتِزالِ
ظهَر الفِكرُ الاعتِزاليُّ قَبلَ ظُهورِ الفِرقةِ نَفسِها ككِيانٍ مُستقِلٍّ؛ حيثُ بدأت بُذورُه تظهَرُ بصورةٍ فرديَّةٍ؛ فقد تكلَّم الجَعدُ بنُ دِرهَمٍ، ومِن بعدِه
الجَهمُ بنُ صفوانَ في نَفيِ الصِّفاتِ الإلهيَّةِ.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (أصلُ هذه المقالةِ -مقالةِ
التَّعطيلِ للصِّفاتِ- إنَّما هو مأخوذٌ عن تلامذةِ اليهودِ والمُشرِكينَ وضُلَّالِ الصَّابِئينَ؛ فإنَّ أوَّلَ مَن حُفِظ عنه أنَّه قال هذه المقالةَ في الإسلامِ -أعني أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى ليس على العرشِ حقيقةً، وأنَّ معنى استوى بمعنى استولى، ونَحوَ ذلك- هو الجَعدُ بنُ دِرهَمٍ، وأخَذها عنه
الجَهمُ بنُ صفوانَ وأظهَرها؛ فنُسِبَت مقالةُ
الجَهميَّةِ إليه)
[376] ((مجموع الفتاوى)) (5/20). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (قد قيل: إنَّ الجَعدَ أخَذ مقالتَه عن أبانَ بنِ سمعانَ، وأخَذها أبانُ عن طالوتَ ابنِ أختِ لَبيدِ بنِ الأعصَمِ، وأخذَها طالوتُ مِن لَبيدِ بنِ الأعصَمِ: اليهوديِّ السَّاحِرِ الذي سحَر النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
[377] ((مجموع الفتاوى)) (5/20). .
وقد تقدَّم أنَّ
الجَهمَ أخَذ تلك المقالةَ مِن الجَعدِ، كما قيل أيضًا: إنَّ مناقشاتِه معَ فِرقةِ السُّمَنِيَّةِ قد أدَّت إلى تشكيكِه في دينِه، وابتِداعِه لنَفيِ الصِّفاتِ الإلهيَّةِ
[378] يُنظر: ((الرد على الجهمية)) لأحمد بن حنبل (ص: 93). .
قال المَلَطيُّ: (
الجَهمُ بنُ صفوانَ كان أوَّلَ مَن اشتقَّ هذا الكلامَ مِن كلامِ السُّمَنيَّةِ -صِنفٍ مِن العَجَمِ بناحيةِ خُراسانَ- وكانوا شكَّكوه في دينِه حتَّى ترَك الصَّلاةَ أربعينَ يومًا، وقال: لا أُصلِّي لمَن لا أعرِفُه، ثُمَّ اشتقَّ هذا الكلامَ، وبنى عليه مَن بَعدَه)
[379] ((التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع)) (ص: 99). .
ومِن جهةٍ أخرى فقد كان ليُوحنَّا (أو يحيى) النَّصرانيِّ الدِّمَشقيِّ وأقوالِه أثرٌ كبيرٌ على الفِكرِ الاعتِزاليِّ؛ إذ إنَّه كان يقولُ بالأصلَحِ في فِعلِ اللهِ تعالى، ويرى نَفيَ الصِّفاتِ الأزليَّةِ، وحرِّيَّةَ الإرادةِ الإنسانيَّةِ
[380] يُنظر: ((المُعتزِلة)) لجار الله (ص: 26- 32). .
أمَّا القولُ بخَلقِ القرآنِ فكان أوَّلَ مَن قال به الجَعدُ بنُ دِرهَمٍ سنةَ نيِّفٍ وعِشرينَ ومائةٍ في خلافةِ هشامٍ، وأخَذها عنه
بِشرٌ المِرِّيسيُّ، وكان صبَّاغًا يهوديًّا
[381] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للَّالَكَائي (3/425). .
وأمَّا القولُ بنَفيِ القَدَرِ فقد ظهَر على يحيى الدِّمَشقيِّ ومَعبَدٍ الجُهَنيِّ وغَيْلانَ الدِّمَشقيِّ، وقد قيل: إنَّ مَعبَدًا تلقَّى هذا القولَ عن نصرانيٍّ يُدعى سُوسَنُ
[382] يُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (12/ 303). ، ثُمَّ أخَذه عن مَعبَدٍ
عَمرُو بنُ عُبَيدٍ صاحِبُ
واصِلِ بنِ عطاءٍ رأسِ
المُعتَزِلةِ [383] يُنظر: ((المُعتزِلة)) لجار الله (ص: 34). .
قال
الأوزاعيُّ: (أوَّلُ مَن نطَق في القَدَرِ رجُلٌ مِن أهلِ العراقِ، يُقالُ له: سُوسَنُ، كان نصرانيًّا، فأسلَم، ثُمَّ تنصَّر، وأخَذ عنه مَعبَدٌ الجُهَنيُّ، وأخَذ غَيْلانُ عن مَعبَدٍ)
[384] يُنظر: ((القدر)) للفريابي (ص: 206). .
وقد كان القولُ بالقَدَرِ في أوَّلِ أمرِه يذهَبُ إلى اعتِقادِ أنَّ اللهَ سُبحانَه لا يُقدِّرُ شيئًا مُسبَقًا على الإنسانِ، وأنَّ الإنسانَ هو فاعِلُ أفعالِه بمحضِ مشيئتِه دونَ تدخُّلٍ مِن مشيئةِ اللهِ.
أمَّا القولُ بالمنزِلةِ بَينَ المنزِلتَينِ فإنَّ أوَّلَ مَن ابتدَعه
واصِلُ بنُ عطاءٍ، وهي أوَّلُ مسألةٍ نُسِبَت للمُعتَزِلةِ بحيثُ لم يسبِقْهم إليها أحدٌ!
[385] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 98)، ((التبصير في الدين)) للإسْفِرايِيني (ص: 68). .