الفَرعُ الأوَّلُ: عَرضُ شُبهةِ التَّعدُّدِ والتَّركيبِ عندَ المُعتَزِلةِ
أوَّلُ مَن عُرِف عنه الإشارةُ إلى هذه الشُّبهةِ مِن
المُعتَزِلةِ هو
واصِلُ بنُ عطاءٍ؛ فإنَّه كان ينفي الصِّفاتِ بدعوى أنَّ إثباتَها يُؤدِّي إلى تعدُّدِ القُدماءِ، وكان يقولُ في ذلك: (إنَّ مَن أثبَت للهِ معنًى وصفةً قديمةً فقد أثبَت إلهَينِ)
[479] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/46- 49)، ويُنظر أيضًا: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 96- 97)، ((التبصير في الدين)) للإسْفِرايِيني (ص: 67- 69)، ((اعتقادات فرق المسلمين والمشركين)) للرازي (ص: 40). .
ثُمَّ جاء مَن بعدَه فخاض فيها بأكثَرَ مِن ذلك، ومنهم أبو الهُذَيلِ العلَّافُ الذي قال: (إنَّ اللهَ عالِمٌ بعِلمٍ، وعِلمُه ذاتُه، قادِرٌ بقُدرةٍ، وقُدرتُه ذاتُه، حيٌّ بحياةٍ، وحياتُه ذاتُه...)
[480] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) (1/44)، ((نهاية الإقدام)) (ص: 180) كلاهما للشَّهْرَسْتانيِّ. .
وقال أبو الحُسَينِ الخيَّاطُ: (إنَّ اللهَ تعالى لو كان عالِمًا بعِلمٍ، فإمَّا أن يكونَ ذلك العِلمُ قديمًا أو يكونَ مُحدَثًا، ولا يُمكِنُ أن يكونَ قديمًا؛ لأنَّ هذا يوجِبُ وُجودَ اثنَينِ قديمَينِ، وهو تعدُّدٌ، وهو قولٌ فاسِدٌ)
[481] ((الانتصار والرد على ابن الرَّاوَنْدي)) (ص: 82). .
وقال عبدُ الجبَّارِ الهَمَذانيُّ: (اعلَمْ أنَّ الواحِدَ قد يُستعمَلُ في الشَّيءِ ويُرادُ به أنَّه لا يتجزَّأُ ولا يتبعَّضُ، على مِثلِ ما نقولُه في الجُزءِ المُنفرِدِ: إنَّه جُزءٌ واحِدٌ، وفي جُزءٍ مِن السَّوادِ والبياضِ: إنَّه واحِدٌ.
وقد يُستعمَلُ ويُرادُ به أن يَختصَّ بصفةٍ لا يُشارِكُه فيها غَيرُه، كما يُقالُ: فلانٌ واحِدُ زمانِه.
وغَرضُنا إذا وصفْنا اللهَ تعالى بأنَّه واحِدٌ إنَّما هو القِسمُ الثَّاني؛ لأنَّ مقصودَنا مَدحُ اللهِ تعالى بذلك، ولا مَدحَ في أنَّه لا يتجزَّأُ ولا يتبعَّضُ، وإن كان كذلك؛ لأنَّ غَيرَه يُشارِكُه فيه.
إذا ثبَت هذا فالمُخالِفُ في المسألةِ لا يخلو إمَّا أن يقولَ: إنَّ معَ اللهِ قديمًا ثانيًا يُشارِكُه في صفاتِه، ولا قائِلَ بهذا...)
[482] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 277). .
وممَّن خاض في هذه المسألةِ مِن
المُعتَزِلةِ يحيى بنُ الحُسَينِ؛ حيثُ قال: (... أمَّا ما ذُكِر مِن العِلمِ فإنَّه لا يخلو مِن أن يكونَ اللهُ العالِمَ بنَفسِه، ويكونَ العِلمُ مِن صفاتِه في ذاتِه لا صِفتَه لغَيرِه، فقد جعَل معَ اللهِ سِواه، ولو كان معَ اللهِ سِواه لكان أحدُهما قديمًا والآخَرُ مُحدَثًا...)
[483] ((رسائل العدل والتوحيد)) لمجموعة مؤلفين (2/130). .
وقد ذكَر أصحابُ المقالاتِ أنَّ
المُعتَزِلةَ لم يُشارِكوا الفلاسِفةَ إلَّا في القولِ بنوعٍ واحِدٍ مِن أنواعِ التَّركيبِ الخمسةِ التي قالوا بها، ورتَّبوا عليه نَفسَ النَّتيجةِ التي رتَّبها عليه الفلاسِفةُ؛ وهي تعطيلُ اللهِ عزَّ وجلَّ عن صفاتِه جميعًا، وهذا النَّوعُ مِن التَّركيبِ المنفيِّ عن اللهِ عزَّ وجلَّ هو تركيبُ الموجودِ في الذَّاتِ والصِّفاتِ
[484] للمزيدِ حولَ أنواعِ التركيبِ الخمسةِ: يُنظر: ((النفي في باب صفات الله عز وجل)) لسعيداني (ص: 435) وما بعدَها. .
وقد بنى
المُعتَزِلةُ هذه الشُّبهةَ على أنَّ أخَصَّ وصفٍ للهِ عزَّ وجلَّ هو: القِدَمُ، وهو إجماعٌ عندَهم،
قال الشَّهْرَسْتانيُّ: (الذي يعُمُّ طائِفةَ
المُعتَزِلةِ مِن الاعتِقادِ القولُ بأنَّ اللهَ تعالى قديمٌ، والقِدَمُ أخَصُّ وصفِ ذاتِه)
[485] ((المِلَل والنِّحَل)) (1/38). ويُنظر: ((الشامل في أصول الدين)) للجُوَيني (ص: 251). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (مقصودُ
المُعتَزِلةِ مِن قولِهم: إنَّ أخَصَّ وصفِ الرَّبِّ القِدَمُ: ألَّا يُثبِتوا له صفةً قديمةً؛ لامتِناعِ المُشارَكةِ في أخَصِّ وَصفِه)
[486] ((تلخيص كتاب الاستغاثة)) (1/315) بتصَرُّفٍ يسيرٍ. .
ونَفيُ هذا النَّوعِ مِن التَّركيبِ في نظرِ
المُعتَزِلةِ مِن جهةِ أنَّه يوجِبُ كثرةً في القديمِ، وهذا يتنافى معَ أخَصِّ وصفٍ للهِ عزَّ وجلَّ: وهو: القِدَمُ.
وإثباتُ صفةٍ قديمةٍ يجعَلُ القديمَ أكثَرَ مِن واحِدٍ، أي: يكونُ مُركَّبًا؛ فـ (لو كان موصوفًا بصفاتٍ قائِمةٍ بذاتِه لكانت حقيقةُ الإلهيَّةِ مُركَّبةً مِن تلك الذَّاتِ والصِّفاتِ)
[487] ((شرح المقاصد)) للتفتازاني (4/83). .
فإنَّ الصِّفاتِ لو شارَكَته في القِدَمِ الذي هو أخَصُّ وصفِه جلَّ وعلا لشارَكَته في الإلهيَّةِ، ولكانت آلهةً مِثلَه بزَعمِهم
[488] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/38)، ((شرح المقاصد)) للتفتازاني (4/83). .
والتَّركيبُ يستلزِمُ الافتِقارَ في نظرِ
المُعتَزِلةِ، كما أنَّه يدُلُّ على الحُدوثِ بزَعمِهم
[489] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) للشَّهْرَسْتانيِّ (1/38)، ((شرح المقاصد)) للتفتازاني (4/83). .
و
المُعتَزِلةُ -كما سبقَت الإشارةُ إليه- قد استقَوا هذه الشُّبهةَ مِن الفلاسِفةِ، وقد أشار العديدُ مِن أهلِ العِلمِ إلى هذه الحقيقةِ، ومِن أولئك:
1- الأشعَريُّ، حينَ حكى مذهَبَ أبي الهُذَيلِ العلَّافِ في الصِّفاتِ، فقال: (قولُه: إنَّ عِلمَ اللهِ هو اللهُ، وإن قُدرتَه هي هو؛ لأنَّه إذا كان عِلمُه هو هو، وقُدرتُه هي هو فواجِبٌ أن يكونَ عِلمُه هو قُدرتَه، وإلَّا لزِم التَّناقُضُ كما لزِم أصحابَ الاثنَينِ.
وهذا أخَذه أبو الهُذَيلِ عن أَرِسْطاطاليسَ؛ وذلك أنَّ أَرِسْطاطاليسَ قال في بعضِ كُتبِه: "إنَّ الباريَ عِلمٌ كُلُّه، قُدرةٌ كُلُّه، حياةٌ كُلُّه، سَمعٌ كُلُّه، بَصرٌ كُلُّه، فحَسَّن اللَّفظَ عندَ نَفسِه، وقال: عِلمُه هو هو، وقُدرتُه هي هو")
[490] ((مقالات الإسلاميين)) (1/485). .
2- أبو حامِدٍ الغَزاليُّ، الذي فصَّل القولَ في حُجَّةِ التَّركيبِ عندَ الفلاسِفةِ وبيَّن حقيقةَ مذهَبِهم في الصِّفاتِ، وقال: (إنَّ
المُعتَزِلةَ وافَقوا الفلاسِفةَ على قولِهم في الصِّفاتِ)
[491] ((المنقذ من الضلال)) (ص: 107). .
3- الشَّهْرَسْتانيُّ، الذي بيَّن أنَّ أبا الهُذَيلِ العلَّافَ إنَّما اقتبَس قولَه المُتقدِّمَ ذِكرُه مِن الفلاسِفةِ الذين اعتقَدوا أنَّ الصِّفاتِ الإلهيَّةَ ليست معانيَ قائِمةً بذاتِها، بل هي ذاتُه سُبحانَه
[492] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) (1/44). .