المَطلَبُ الأوَّلُ: رأيُ العلَّافِ في الصِّفاتِ ومُناقَشتُه
جُمهورُ
المُعتَزِلةِ يرَونَ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ عالِمٌ بذاتِه لا بعِلمٍ زائِدٍ على ذاتِه، وهكذا في سائِرِ الصِّفاتِ.
إلَّا أنَّ أبا الهُذَيلِ العلَّافَ خالَفهم وأتى برأيٍ آخَر، فقال: (إنَّ اللهَ عالِمٌ بعِلمٍ وعِلمُه ذاتُه، قادِرٌ بقُدرةٍ، وقُدرتُه ذاتُه، حيٌّ بحياةٍ وحياتُه ذاتُه...)
[612] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) (1/53)، ((نهاية الإقدام)) (ص: 180) كلاهما للشَّهْرَسْتانيِّ. .
مِن هذه الأقوالِ نستطيعُ أن نعرِف مذهَبَ أبي الهُذَيلِ في الصِّفاتِ، وهو أنَّه أثبَت صفاتٍ هي بعَينِها ذاتٌ، والفَرقُ بَينَ هذا الرَّأيِ ورأيِ جُمهورِ
المُعتَزِلةِ قد بيَّنه الشَّهْرَسْتانيُّ، فقال: (إنَّ الذين قالوا: إنَّ اللهَ عالِمٌ بذاتِه لا بعِلْمٍ، قد نفَوا الصِّفةَ، أمَّا أبو الهُذَيلِ فإنَّه أثبَت صفةً هي بعَينِها ذاتٌ)
[613] ((المِلَل والنِّحَل)) (1/53) بتصَرُّفٍ. .
والذي يظهَرُ أنَّ هذا الفَرقَ إنَّما هو فَرقٌ في الطَّريقةِ لإثباتِ غايةٍ واحِدةٍ، وهي نَفيُ الصِّفاتِ حقيقةً في الذَّاتِ ومُتميِّزةً عنها، وهو ما يتَّفِقُ فيه أبو الهُذَيلِ معَ الجُمهورِ
[614] يُنظر: ((فلسفة المُعتزِلة)) لنادر (ص: 46)، ((المُعتزِلة)) لجار الله (ص: 69). .
مصدَرُ رأيِ أبي الهُذَيلِ:قال
أبو الحَسنِ الأشعَريُّ: (إنَّ أبا الهُذَيلِ أخَذ قولَه في الصِّفاتِ مِن أَرِسْطاليسَ؛ وذلك أنَّ أَرِسْطاليسَ قال في بعضِ كُتبِه: "إنَّ الباريَ عِلمٌ كُلُّه، قُدرةٌ كُلُّه، حياةٌ كُلُّه، سَمعٌ كُلُّه، بَصرٌ كُلُّه، فحَسَّنَ اللَّفظَ عندَ نَفسِه، وقال: عِلمُه هو هو، وقُدرتُه هي هو")
[615] ((مقالات الإسلاميين)) (2/158). .
وقال الشَّهْرَسْتانيُّ: (إنَّ أبا الهُذَيلِ إنَّما اقتبَس رأيَه في الصِّفاتِ مِن الفلاسِفةِ الذين اعتقَدوا أنَّ ذاتَه واحِدةٌ لا كثرةَ فيها بوَجهٍ، وإنَّما الصِّفاتُ ليست وراءَ الذَّاتِ معانٍ قائِمةٌ بها، بل هي ذاتُه)
[616] ((المِلَل والنِّحَل)) (1/52). .
المُناقَشةُ:أنكَر عبَّادُ بنُ سُلَيمانَ -وهو مِن مشايخِ
المُعتَزِلةِ- على أبي الهُذَيلِ قولَه هذا في الصِّفاتِ
[617] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/225). .
وردَّ عليه عبدُ الجبَّارِ -وهو مِن مشايخِ
المُعتَزِلةِ المُتأخِّرينَ- فقال: (إنَّ في قولِ أبي الهُذَيلِ تناقُضًا: كيف يكونُ تعالى عالِمًا بعِلمٍ، ثُمَّ يكونُ عِلمًا ذاتَه؟!)
[618] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 183). .
وقد انتصَر جلال موسى لأبي الهُذَيلِ، فقال: (إنَّ أبا الهُذَيلِ يُسايِرُ سائِرَ
المُعتَزِلةِ في قولِه: إنَّ اللهَ عالِمٌ بعِلمٍ، يُسايِرُهم في أنَّ العِلمَ صفةٌ ذاتيَّةٌ، وإذا لم يقُلْ: إنَّه عالِمٌ بذاتِه، فقد قال: إنَّ عِلمَه هو ذاتُه، ولا فرقَ بَينَ القولَينِ حتَّى يقولَ القاضي عبدُ الجبَّارِ: إنَّ في قولِ أبي الهُذَيلِ نوعًا مِن التَّناقُضِ، وإنَّما ينشَأُ التَّناقُضُ إذا كانت الصِّفاتُ شيئًا غَيرَ الذَّاتِ)
[619] ((نشأة الأشعرية وتطورها)) (ص: 133). .
وعليه: فإن وافَق أبو الهُذَيلِ جُمهورَ
المُعتَزِلةِ فقد لزِمه ما لزِمهم مِن ردٍّ، وقد سبَق الرَّدُّ عليهم عندَ إبطالِ شُبَهِهم، وإن لم يُوافِقْهم فقد لزِمه ردُّ القاضي عبدِ الجبَّارِ، وكذلك ردُّ البغداديِّ؛ حيثُ قال رادًّا على أبي الهُذَيلِ: (إذا كان عِلمُ اللهِ هو اللهَ، وقُدرتُه هي هو؛ كان اللهُ عِلمًا وقُدرةً، ولو كان كذلك لاستحال أن يكونَ عالِمًا قادِرًا؛ لأنَّ العِلمَ لا يكونُ عالِمًا، والقُدرةَ لا تكونُ قادِرةً، ثُمَّ يلزَمُ أن يكونَ عِلمُ اللهِ هو قُدرتَه، وبالعكسِ، وعندَ ذلك يكونُ المعلومُ للهِ تعالى مقدورًا له أيضًا، وهذا يوجِبُ كونَ ذاتِه مقدورًا له كما كانت معلومًا له؛ فانقطَع أبو الهُذَيلِ في هذا الإلزامِ)
[620] ((أصول الدين)) (ص: 91) بتصَرُّفٍ. .