الفَرعُ الثَّاني: رأيُ المُعتَزِلةِ في اللُّطفِ
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (اعلَمْ أنَّ شُيوخَنا المُتقدِّمينَ كانوا يُطلِقونَ القولَ بوُجوبِ الألطافِ إطلاقًا، ولا وَجهَ لذلك، بل يجِبُ أن يُقسَمَ الكلامُ فيه ويُفصَّلَ؛ فنقولُ: إنَّ اللُّطفَ؛ إمَّا أن يكونَ مُتقدِّمًا للتَّكليفِ، أو مُقارِنًا له، أو مُتأخِّرًا عنه.
فإن كان مُتقدِّمًا فلا شكَّ في أنَّه لا يجِبُ؛ لأنَّه لا يجِبُ إلَّا لتضمُّنِه إزاحةَ عِلَّةِ المُكلَّفِ، ولا تكليفَ هناك حتَّى يجِبَ هذا اللُّطفُ، وأيضًا فإنَّه جرى مجرى التَّمكينِ، ومعلومٌ أنَّ التَّمكينَ قَبلَ التَّكليفِ لا يجِبُ؛ فكذلك اللُّطفُ، وإن كان مُقارِنًا له فلا شُبهةَ أيضًا في أنَّه لا يجِبُ؛ لأنَّ أصلَ التَّكليفِ إذا كان لا يجِبُ، بل القديمُ تعالى مُتفضِّلٌ به مُبتِدئًا؛ فلأن لا يجِبَ ما هو تابِعٌ له أَولى، ثُمَّ لا يفترِقُ الحالُ بَينَ ما إذا كان لُطفًا في الواجِباتِ، وبَينَ ما إذا كان لُطفًا في النَّوافِلِ؛ فإنَّه تعالى كما كلَّفَنا الواجِباتِ فقد كلَّفَنا النَّوافِلَ أيضًا، فكان يجِبُ عليه اللُّطفُ، سواءٌ كان لُطفًا في فريضةٍ أو في نافِلةٍ، خِلافَ الواحِدِ منَّا)
[927] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 520، 521). .
وقال أيضًا: (قد بيَّنَّا أنَّ ما وُجِد معَ التَّكليفِ لا يكونُ واجِبًا، وإنَّما يجِبُ ما يتأخَّرُ عن حالِ التَّكليفِ مِن التَّمكينِ والألطافِ، وما لا يصِحَّانِ إلَّا به)
[928] ((المغني في أبواب العدل)) (14/53). .
وقال أيضًا وهو يتكلَّمُ عن رأيِ
المُعتَزِلةِ في اللُّطفِ: (منهم مَن يقولُ: إنَّه يجِبُ على اللهِ أن يفعَلَ بالمُكلَّفِ الألطافَ، وهو الذي يذهَبُ إليه أهلُ العدلِ، حتَّى منَعوا أن يكونَ خِلافُ هذا قولًا لأحدٍ مِن مشايِخِهم، فذكروا أنَّ بِشرَ بنَ المُعتمِرِ رجَع إلى هذه المقالةِ، حكاه عنه أبو الحُسَينِ الخيَّاطُ، وغَيرُه، وقد كان جَعفَرُ بنُ حربٍ يذهَبُ إلى أنَّ المُكلَّفَ إذا كان ما يفعَلُه مِن الإيمانِ معَ عَدمِ اللُّطفِ أعظَمَ ثوابًا، فاللُّطفُ غَيرُ واجِبٍ، ومتى لم تكنِ الحالُ هذه فاللُّطفُ واجِبٌ. وقد حُكِي عنه الرُّجوعُ عن هذا المذهَبِ)
[929] ((المغني في أبواب العدل)) (3/4، 5). .
مِن كلامِ القاضي عبدِ الجبَّارِ يظهَرُ أنَّ شُيوخَه المُتقدِّمينَ كانوا يُطلِقونَ القولَ بوُجوبِ الألطافِ، وأنَّه يرى أنَّه لا وَجهَ لذلك، بل لا بُدَّ مِن تقسيمِ اللُّطفِ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
الأوَّلُ: أن يكونَ اللُّطفُ مُتقدِّمًا على التَّكليفِ، وهذا القِسمُ لا يجِبُ، ويُعلِّلُ ذلك بأنَّ اللُّطفَ يتضمَّنُ إزاحةَ علَّةِ المُكلَّفِ، ولا تكليفَ هناك، ولأنَّ اللُّطفَ يجري مجرى التَّمكينِ، والتَّمكينُ قَبلَ التَّكليفِ لا يجِبُ؛ فكذلك اللُّطفُ.
الثَّاني: أن يكونَ اللُّطفُ مُقارِنًا للتَّكليفِ، وهذا القِسمُ أيضًا لا يجِبُ؛ لأنَّ أصلَ التَّكليفِ إذا كان لا يجِبُ، واللهُ مُتفضِّلٌ به ابتداءً؛ فما هو تابِعٌ له أَولى.
الثَّالثُ: أن يكونَ اللُّطفُ مُتأخِّرًا عن التَّكليفِ، وهذا القِسمُ واجِبٌ، سواءٌ كان لُطفًا في فريضةٍ أو نافِلةٍ خِلافَ الواحِدِ منَّا، وعلى ذلك: فالذي يجِبُ مِن أقسامِ اللُّطفِ القِسمُ الثَّالثُ، وهو ما إذا كان اللُّطفُ مُتأخِّرًا عن التَّكليفِ، سواءٌ كان لُطفًا في فريضةٍ أو نافِلةٍ، أمَّا إذا كان سابِقًا للتَّكليفِ أو مُقارِنًا له؛ فلا يجِبُ.
كما يُمكِنُ استِنتاجُ أنَّ هذا الرَّأيَ لم يختلِفْ فيه
المُعتَزِلةُ؛ إذ إنَّ مَن كان مِن مشايِخِهم له رأيٌ خاصٌّ؛ كبِشرِ بنِ المُعتمِرِ الذي يرى عَدمَ وُجوبِ اللُّطفِ
[930] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 520). ، وجَعفَرِ بنِ حربٍ الذي يرى وُجوبَه في حالةٍ، وعَدمَ وُجوبِه في أخرى؛ قد رجَعوا عن أقوالِهم إلى قولِ عامَّةِ
المُعتَزِلةِ.
فإذًا القولُ بوُجوبِ اللُّطفِ قد اتَّفَقت عليه
المُعتَزِلةُ، وقيَّده القاضي باللُّطفِ المُتأخِّرِ عن التَّكليفِ
[931] يُنظر: ((المغني في أبواب العدل)) لعبد الجبار (14/53). .