الفصلُ الأوَّلُ: حقيقةُ الإيمانِ عندَ المُعتَزِلةِ
يرى
المُعتَزِلةُ أنَّ الإيمانَ الشَّرعيَّ المُعتبَرَ مُركَّبٌ مِن أجزاءٍ ثلاثةٍ: اعتِقادٍ بالقلبِ، وتصديقٍ باللِّسانِ، وعَملٍ بالجوارِحِ، وهُم بهذا يُوافِقونَ السَّلفَ الذين قالوا بهذا القولِ، واستدلُّوا له مِن الكتابِ والسُّنَّةِ، وإنَّما الخِلافُ بَينَ الفَريقينِ يكمُنُ في حُكمِ العُصاةِ مِن المُؤمِنينَ.
وقد حكى
ابنُ حَزمٍ عن
المُعتَزِلةِ قولَهم: إنَّ الإيمانَ هو المعرفةُ بالقلبِ بالدِّينِ، والإقرارُ به باللِّسانِ، والعَملُ بالجوارِحِ، وإنَّ كُلَّ طاعةٍ وعَملِ خَيرٍ فَرْضًا كان أو نافِلةً، فهي إيمانٌ
[1155] يُنظر: ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (3/188). .
وحكى البغداديُّ عنهم قولَهم برُجوعِ الإيمانِ إلى جميعِ الفرائِضِ معَ تَركِ الكبائِرِ
[1156] يُنظر: ((أصول الدين)) (ص: 249). .
أمَّا
ابنُ تيميَّةَ فحكى عنهم قولَهم: إنَّ الإيمانَ جِماعُ الطَّاعاتِ
[1157] يُنظر: ((الإيمان)) (ص: 280). .
أمَّا
أبو الحَسنِ الأشعَريُّ فقد ذكَر عنهم أقوالًا ستَّةً، فقال: (اختلَف
المُعتَزِلةُ في الإيمانِ: ما هو؟ على ستَّةِ أقاويلَ:
1- فقال قائِلونَ: (الإيمانُ هو جميعُ الطَّاعاتِ فَرضِها ونَفلِها، وإنَّ المعاصيَ ضربانِ: منها ما هو صغائِرُ، ومنها ما هو كبائِرُ، وإنَّ الكبائِرَ على ضربَينِ؛ منها ما هو كُفرٌ، ومنها ما ليس بكُفرٍ... إلخ)، وإلى هذا القولِ كان يذهَبُ أبو الهُذَيلِ وأصحابُه.
2- وقال هشامٌ الفُوَطيُّ: (الإيمانُ جميعُ الطَّاعاتِ فَرْضِها ونَفلِها، والإيمانُ على ضَربَينِ؛ إيمانٌ باللهِ، وإيمانٌ للهِ، ولا يُقالُ: إنَّه إيمانٌ باللهِ؛ فالإيمانُ باللهِ ما كان تَركُه كُفرًا باللهِ، والإيمانُ للهِ يكونُ تَركُه كُفرًا، ويكونُ تَركُه فِسقًا ليس بكُفرٍ، نَحوُ: الصَّلاةِ والزَّكاةِ، فذلك إيمانٌ للهِ).
3- وقال عبَّادُ بنُ سُلَيمانَ: (الإيمانُ هو جميعُ ما أمَر اللهُ سُبحانَه به مِن الفَرضِ، وما رَغَّب فيه مِن النَّفلِ، والإيمانُ على وَجهَينِ: إيمانٌ باللهِ، وهو ما كان تارِكُه أو تارِكُ شيءٍ منه كافِرًا، كالملَّةِ والتَّوحيدِ، والإيمانُ للهِ إذا ترَكه تارِكٌ لم يكفُرْ).
4- وقال إبراهيمُ النَّظَّامُ: (الإيمانُ اجتِنابُ الكبائِرِ).
5- وقال آخَرونَ: (الإيمانُ اجتِنابُ ما فيه الوعيدُ عندَنا وعندَ اللهِ).
6- وكان
مُحمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ الجُبَّائيُّ يزعُمُ أنَّ الإيمانَ للهِ هو جميعُ ما افترَضه اللهُ سُبحانَه على عِبادِه، وأنَّ النَّوافِلَ ليست بإيمانٍ، وأنَّ كُلَّ خَصلةٍ مِن الخِصالِ التي افترَضها اللهُ سُبحانَه فهي بعضُ إيمانٍ للهِ)
[1158] ((مقالات الإسلاميين)) (1/329). .
وهكذا، فإنَّ أغلَبَ مُؤرِّخي الفِرَقِ يحكي عن
المُعتَزِلةِ اتِّفاقَهم على قولٍ واحِدٍ، أمَّا
أبو الحَسنِ الأشعَريُّ فجعَل آراءَهم ستَّةً، لكنَّها ترجِعُ في جُملتِها إلى رأيَينِ اثنَينِ فحسْبُ؛ فالخِلافُ في تعدُّدِ الآراءِ إنَّما يرجِعُ إلى اللَّفظِ لا إلى الحقيقةِ، وهذانِ الرَّأيانِ هما:
1- أنَّ الإيمانَ هو جميعُ الطَّاعاتِ فَرضِها ونَفلِها، واجتِنابُ الكبائِرِ.
2- أنَّ الإيمانَ هو جميعُ الطَّاعاتِ الفَرضِ منها دونَ النَّفلِ، واجتِنابُ الكبائِرِ.
وقد ذكَر هذَينِ الرَّأيَينِ القاضي عبدُ الجبَّارِ؛ حيثُ قال: (الإيمانُ عندَ أبي عليٍّ وأبي هاشِمٍ: عِبارةٌ عن أداءِ الطَّاعاتِ الفرائِضِ دونَ النَّوافِلِ، واجتِنابِ المُقبَّحاتِ، وعند أبي الهُذَيلِ: عِبارةٌ عن أداءِ الطَّاعاتِ الفرائِضِ منها والنَّوافِلِ، واجتِنابِ المُقبَّحاتِ)
[1159] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 707). .
ورأيُ
المُعتَزِلةِ الذي تتَّفِقُ عليه والذي يبدو واضِحًا مِن التَّعريفَينِ السَّالِفَينِ: هو جَعلُ الطَّاعاتِ المفروضةِ مِن الإيمانِ، وهذا هو بعَينِه مذهَبُ الزَّيديَّةِ الذين يُوافِقونَهم في هذا البابِ
[1160] يُنظر: ((العقد الثمين في معرفة رب العالمين)) للحسين بن بدر الدين، عن ((الإيمان بين السلف والمتكلمين)) للغامدي (ص 123). .
والخلافُ -كما هو واضِحٌ- ينحصِرُ بَينَهم في النَّوافِلِ: هل هي داخِلةٌ في الإيمانِ أم لا؟ وحينَما يُعبِّرونَ بالطَّاعاتِ فإنَّهم يقصِدونَ الطَّاعاتِ التي تصدُرُ عن القلبِ، فطاعتُه: اعتِقادُه وتصديقُه. وعن اللِّسانِ، وطاعتُه: قولُه الخيرَ وتعبيرُه عمَّا في قلبِه. والعَملَ ببقيَّةِ الجوارِحِ، سواءٌ كان ذلك مفروضًا أو نافِلةً، وقد ذكَر أحمَدُ بنُ يحيى بنِ المُرتَضى إجماعَهم على هذا المعنى؛ حيثُ قال: (أجمعَت
المُعتَزِلةُ على أنَّ الإيمانَ قولٌ ومعرفةٌ وعَملٌ)
[1161] ((طبقات المُعتزِلة)) (ص: 8). .
إذًا ف
المُعتَزِلةُ قد عوَّلوا على العَملِ كثيرًا، والعَملُ عندَهم له شأنٌ؛ لأنَّه لا قيمةَ للتَّكاليفِ إذا لم يقُمْ بها مَن كُلِّفوا بأدائِها؛ ولهذا جعَلوا الإيمانَ قولًا ومعرِفةً وعَملًا؛ فالقولُ لا بُدَّ منه حتَّى يكونَ كالبيانِ والإظهارِ لِما في القلبِ، ولا يُمكِنُ أن نُميِّزَ المُؤمِنَ مِن غَيرِه إلَّا بالنُّطقِ باللِّسانِ، ولا يقِلُّ العَملُ عندَهم في تحقيقِ الإيمانِ عن الرُّكنَينِ الآخَرَينِ، وهذا الأمرُ موضِعُ اتِّفاقٍ بَينَ
المُعتَزِلةِ والسَّلفِ.
أمَّا أدلَّةُ
المُعتَزِلةِ على ما ذهَبوا إليه في حقيقةِ الإيمانِ فهي بعَينِها أدلَّةُ السَّلفِ في هذا البابِ، ويُكتَفى هنا ببيانِ مِثالٍ منها لتتبيَّنَ المُوافَقةُ في طريقةِ الاستِدلالِ.
فمِن أدلَّةِ
المُعتَزِلةِ مِن القرآنِ الكريمِ قولُ اللهِ تعالى:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [ الأنفال: 2] .
فهذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ الإيمانَ ليس هو القولَ باللِّسانِ، أو اعتِقادَ القلبِ، على ما ذهَب المُخالِفُ إليه، ولكنَّه كُلُّ واجِبٍ وطاعةٍ؛ لأنَّه تعالى ذكَر في صفةِ المُؤمِنينَ ما يختصُّ بالقلبِ، وما يختصُّ بالجوارِحِ، لمَّا اشترَك الكُلُّ في أنَّه مِن الطَّاعاتِ والفرائِضِ.
وممَّا استدلُّوا به مِن الأحاديثِ النَّبويَّةِ الشَّريفةِ: حديثُ شُعَبِ الإيمانِ
[1162] لفظُ الحديثِ: عن أبي هُريرةَ قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الإيمانُ بِضعٌ وسَبعونَ أو بِضعٌ وسِتُّونَ شُعبةً، فأفضَلُها قولُ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطَّريقِ، والحياءُ شُعبةٌ من الإيمانِ)). أخرجه البُخاريُّ (9) مختصَرًا، ومُسلمٌ (35) واللَّفظُ له. ؛ فقد ذكَره دليلًا للمُعتَزِلةِ على هذا الرَّأيِ جَعفَرُ بنُ أحمَدَ بنِ عبدِ السَّلامِ الزَّيديُّ في كتابِه: (أمالي القاضي عبدِ الجبَّارِ المُعتَزِليِّ)، وعقَّب عليه بذِكرِ كلامِ القاضي عبدِ الجبَّارِ على هذا الحديثِ، فقال: (إنَّما أراد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يأتيَ بالشَّهادةِ على معرِفةٍ وبصيرةٍ، لا كما ينطِقُ بها المُنافِقُ، ودلَّ بذلك على أنَّ الإيمانَ كما يدخُلُ فيه القولُ، كذلك يدخُلُ فيه الفِعلُ بالجوارِحِ)
[1163] ((متشابه القرآن)) (1/312). .