المطلَبُ الثَّاني: من عوامِلِ أُفولِ المَدرَسةِ الاعتِزاليَّةِ القديمةِ: كَثرةُ اختِلافاتِهم
لعَلَّ ممَّا عَجَّل بانقراضِهم كثرةَ اختلافاتِهم، وهذا يرجِعُ إلى تنوُّعِ مَصادِرِهم وتضارُبِها، وإلى تعويلِهم على العَقلِ الذي قدَّموه على القرآنِ والسُّنَّةِ، وجعَلوا منه رائِدَهم وإمامَهم، وقد ثبت في محَكِّ الواقِعِ أنَّ العُقولَ والأفهامَ كثيرًا ما تختَلِفُ، بل إنَّ العقلَ الواحِدَ كثيرًا ما يحبِّذُ اليومَ أمرًا قد يَكفُرُ به غدًا ويلعَنُه، والخطيرُ في اختِلافاتِهم أنَّها شَمِلت قضايا العقيدةِ نَفْسِها.
قال
ابنُ قُتَيبةَ في مَعرِضِ تصويرِ ما اعترى القومَ من الانقِساماتِ رَغمَ صُدورِهم عن الرَّأيِ والنَّظَرِ: (قد كان يجِبُ مع ما يدَّعونَه من مَعرفةِ القياسِ وإعدادِ آلاتِ النَّظَرِ ألَّا يختَلِفوا كما لا يختَلِفُ الحُسَّابُ والـمـُسَّاحُ والمُهَندِسون؛ لأنَّ آلتَهم لا تدُلُّ إلَّا على عَدَدٍ، وإلَّا على شَكلٍ واحدٍ، وكما لا يختَلِفُ حُذَّاقُ الأطبَّاءِ في الماءِ وفي نَبضِ العُروقِ... فما بالُهم أكثَرَ أهلِ النَّاسِ اختِلافًا، لا يجتَمِعُ اثنانِ من رُؤَسائِهم على أمرٍ واحدٍ في الدِّينِ؟! فأبو الهُذَيلِ العَلَّافُ يخالِفُ النَّظَّامَ، والنَّجَّارُ يخالِفُهما، وهِشامُ بنُ الحَكَمِ يخالِفُهم، وكذلك ثُمامةُ ومُوَيسٌ وهاشِمٌ الأوقَصُ... ليس منهم واحِدٌ إلَّا وله مَذهَبٌ في الدِّينِ، يُدانُ برأيِه، وله عليه تُبَّعٌ)
[1616] ((تأويل مختلف الحديث)) (ص: 14). .
وقلَّما تمُرُّ بهم مسألةٌ ولا تختَلِفُ حولَها أنظارُهم، حتَّى إنَّ عبارةَ (اختلَفَت
المُعتَزِلةُ) تكادُ تتصَدَّرُ كلَّ المسائِلِ التي تناولَها
المُعتَزِلةُ بالبَحثِ!
وقد يبلُغُ الاختلافُ والتَّنافُرُ بينَهم إلى درَجةٍ يُكَفِّرُ فيها بعضُهم بعضًا
[1617] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 197). .
وليس حتمًا أن يكونَ هذا التَّناقُضُ والاختلافُ بَينَ الفِرَقِ والأفرادِ، وإنَّما قد يُصيبُ التَّناقُضُ الفَردَ الواحِدَ منهم، فيرى الرَّأيَ ثمَّ يتراجِعُ ويتوبُ عنه؛ لِما يبدو له من سقَمِه وعُقمِه
[1618] يُنظر: ((فضل الاعتزال)) للبلخي وعبد الجبار والجشمي (ص: 72). .
وقد صَوَّرَت انقِسامَهم واختِلافاتِهم الشَّديدةَ مُؤَلَّفاتُهم التي انبرى فيها كُلُّ طَرَفٍ يُسَفِّهُ الثَّانيَ ويَكشِفُ عَوارَه.
فقد ألَّف بِشرُ بنُ المُعتَمِرِ كِتابًا في الرَّدِّ على ضِرارِ بنِ عَمرٍو المُعتَزليِّ سمَّاه: (الرَّدَّ على ضِرارٍ)
[1619] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/246) هامش رقم و(1/339) هامش 1. .
ثمَّ إنَّ بِشرًا هذا يُكَفِّرُه تلميذُه المُرْدارُ (عيسى بنُ صَبيحٍ) الملقَّبُ براهِبِ
المُعتَزِلةِ، بل ويُكفِّرُ معه أبا الهُذَيلِ العَلَّافَ، والنَّظَّامَ، وعَددًا من شيوخِه، وقد بادله هؤلاء تكفيرًا بتكفيرٍ
[1620] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 166). !
ولعبَّادِ بنِ سُلَيمانَ الضَّمْريِّ -وهو من أصحابِ هِشامٍ الفُوطيِّ- كِتابٌ يُسَمَّى (الأبوابَ) نقَضَه أبو هاشِمٌ الجُبَّائيُّ، وقال عنه أبو الحُسَينِ المَلَطيُّ: (ملأ الأرضَ كُتُبًا وخِلافًا، وخرج عن حديثِ الاعتزالِ إلى الكُفرِ والزَّندَقةِ)
[1621] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 161) هامش 1. .
وكَتَب ابنُ الرَّاوَنْديِّ الذي نكَص عن الاعتِزالِ بَعدَ أن كان من مُتكَلِّمي
المُعتَزِلةِ وانغمَس في الإلحادِ والزَّندَقةِ كِتابًا سمَّاه (فضيحةَ
المُعتَزِلةِ) نقَضَه أبو الحُسَينِ بنُ الخَيَّاطِ بكتابٍ سَمَّاه (الانتِصارَ)
[1622] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/240) هامش رقم 2، ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 123) هامش رقم 1. .
هذا فَضلًا عمَّا ألَّفه أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ في بيانِ زَيغِ
المُعتَزِلةِ جميعِهم وفسادِ نِحلَتِهم.