موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الأوَّلُ: تَعريفُ الجَمعِ


أولا: تَعريفُ الجَمعِ لُغةً:
الجَمعُ لُغةً: يُطلَقُ على تَأليفِ الشَّيءِ المُتَفرِّقِ، وعلى ضَمِّ الشَّيءِ بتَقريبِ بَعضِه مِن بَعضٍ، ومِنه تَجَمَّعَ القَومُ: اجتَمَعوا مِن هنا وهنا، والجَمعُ أيضًا: اسمٌ لجَماعةِ النَّاسِ [59] يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 60)، ((لسان العرب)) لابن منظور (8/53)، ((القاموس المحيط)) للفيروزابادي (ص: 710). .
ثانيًا: تَعريفُ الجَمعِ اصطِلاحًا:
الجَمعُ في اصطلاحِ الأُصُوليينَ هو التَّأليفُ بَينَ الدَّليلَينِ المُتَعارِضَينِ في مَدلولٍ واحِدٍ على وجهٍ لا تَعطيلَ فيه لأحَدِهما بالكُلِّيَّةِ [60] يُنظر: ((صور الجمع بين الأدلة عند الأصوليين)) لخالد الحربي (ص: 223). .
وقيلَ: الجَمعُ هو بَيانُ التَّوافُقِ والِائتِلافِ بَينَ الأدِلَّةِ الشَّرعيَّةِ، سَواءٌ كانت عَقليَّةً أو نَقليَّةً، وإظهارُ أنَّ الِاختِلافَ غَيرُ مَوجودٍ بَينَهما حَقيقةً، اختِلافًا يُؤَدِّي إلى النَّقضِ أوِ النَّقصِ فيها، وسَواءٌ كان ذلك البَيانُ بتَأويلِ الطَّرَفينِ أو أحَدِهما [61] يُنظر: ((التعارض والترجيح)) (1/211). .
شَرحُ التَّعريفِ المُختارِ وبَيانُ مُحتَرَزاتِه [62] يُنظر: ((صور الجمع بين الأدلة عند الأصوليين)) لخالد الحربي (ص: 223). :
- "الدَّليلَينِ": المُرادُ أن يَكونَ كُلٌّ مِنهما ثابِتَ الحُجِّيَّةِ، فخَرَجَ ما كان فاسِدًا أو ضَعيفًا.
- "المُتَعارِضَينِ": أي: يَكونُ التَّعارُضُ واقِعًا مُشاهَدًا، فخَرَجَ ما كان وهمًا أو تَخَيُّلًا.
- "مَدلولٍ واحِدٍ": يَخرُجُ بهذه العِبارةِ ما كان التَّعارُضُ في الدَّلالةِ على مَدلولَينِ مُختَلِفينِ.
- "لا تَعطيلَ فيه لأحَدِهما بالكُلِّيَّةِ": يَخرُجُ بهذه العِبارةِ النَّسخُ والتَّرجيحُ.
فالجَمعُ عِندَ الأصوليِّينَ يُطلَقُ على طَريقةٍ مِن طُرُقِ دَفعِ التَّعارُضِ بَينَ الأدِلَّةِ الشَّرعيَّةِ، وذلك بحَملِ كُلِّ دَليلٍ مِنَ الأدِلَّةِ المُتَعارِضةِ على مَحمَلٍ صحيحٍ يَرتَفِعُ به التَّعارُضُ الظَّاهِرُ، كأن يُنَزَّلَ أحَدُ الدَّليلَينِ المُتَعارِضَينِ على بَعضِ الأفرادِ أوِ الأحوالِ، والآخَرُ على الأخرى، أو يُؤَوَّلَ أحَدُهما بما يوافِقُ مَعنى الآخَرِ، فيَنجَلي التَّعارُضُ ويَرتَفِعُ الِاختِلافُ، وتَعودُ الأدِلَّةُ مُتَوافِقةً مُتَآلِفةً، ويُستَعمَلُ جَميعُها كُلٌّ في مَحَلِّه [63] يُنظر: ((منهج الإمام الطحاوي في دفع التعارض بين الأدلة الشرعية)) لحسن بخاري (ص: 113). .
والعَمَلُ بكُلِّ واحِدٍ مِنَ الدَّليلَينِ مِن وجهٍ دونَ وجهٍ يَكونُ على ثَلاثةِ أنواعٍ [64] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/407)، ((نفائس الأصول)) للقرافي (8/3682)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/ 3663: 3665)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (7/ 2729). :
الأوَّلُ: أن يَتَبَعَّضَ حُكمُ كُلِّ واحِدٍ مِنَ الدَّليلَينِ، فيَكونَ قابِلًا للتَّبعيضِ، ويَثبُتَ بَعضُه دونَ بَعضٍ، وعُبِّرَ عن هذا النَّوعِ بالِاشتِراكِ والتَّوزيعِ.
ومِثالُه: دارٌ بَينَ اثنَينِ تَداعَياها وهيَ في يَدِهما، فإنَّها تُقسَمُ بَينَهما نِصفينِ؛ لأنَّ ثُبوتَ المِلْكِ قابِلٌ للتَّبعيضِ، فيَتَبَعَّضُ.
الثَّاني: أن يَتَعَدَّدَ حُكمُ كُلِّ واحِدٍ مِنَ الدَّليلَينِ، فيَقتَضي كُلُّ واحِدٍ مِنَ الدَّليلَينِ أحكامًا مُتَعَدِّدةً، فيُحمَلُ كُلُّ واحِدٍ مِنهما على بَعضِ تلك الأحكامِ.
ومِثالُه: قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الغُسلُ يَومَ الجُمُعةِ واجِبٌ على كُلِّ مُحتَلِمٍ)) [65] أخرجه البخاري (858)، ومسلم (846) من حديثِ أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن تَوضَّأ يَومَ الجُمُعةِ فبِها ونِعمَت، ومَنِ اغتَسَلَ فالغُسلُ أفضَلُ)) [66] أخرجه أبو داود (354) باختلافٍ يسيرٍ، والترمذي (497)، والنسائي (1380) واللَّفظُ لهما من حديثِ سَمُرةَ بنِ جُندُبٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه ابنُ خُزَيمة في ((الصحيح)) (3/238)، وابن المُلَقِّنِ على شرط البخاري في ((خلاصة البدر المنير)) (1/218)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (497). ، فيُحمَلُ الأوَّلُ على النَّدبِ، والثَّاني على نَفيِ الحَرَجِ الذي لا يُمكِنُ اجتِماعُه مَعَ النَّدبِ؛ فإنَّ المَندوبَ لا حَرَجَ في تَركِه.
الثَّالِثُ: أن يَكونَ كُلُّ واحِدٍ مِنَ الدَّليلَينِ عامًّا، أي: مُثبِتًا لحُكمٍ في مَوارِدَ مُتَعَدِّدةٍ، فتوزَّعُ، ويُحمَلُ كُلُّ واحِدٍ مِنهما على بَعضِ أفرادِه.
ومِثالُه: ما جاءَ عن زَيدِ بنِ خالِدٍ الجُهَنيِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ألا أخبِرُكُم بخَيرِ الشُّهَداءِ؟ الذي يَأتي بشَهادَتِه قَبلَ أن يُسألَها)) [67] أخرجه مسلم (1719). ، مَعَ ما رَواه عِمرانُ بنُ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((خَيرُ أمَّتي قَرني، ثُمَّ الذينَ يَلونَهم، ثُمَّ الذينَ يَلونَهم... ثُمَّ إنَّ بَعدَكُم قَومًا يَشهَدونَ ولا يُستَشهَدونَ)) [68] أخرجه البخاري (3650) واللفظ له، ومسلم (2535). ، فيُحمَلُ الأوَّلُ على حُقوقِ اللهِ تعالى، والثَّاني على حُقوقِ العِبادِ.

انظر أيضا: