موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الرَّابِعُ: العَمَلُ بالرَّاجِحِ مِنَ الدَّليلَينِ


إذا ظَهَرَ رُجحانُ أحَدِ الأدِلَّةِ وجَبَ العَمَلُ به وإهمالُ الآخَرِ، وهو اختيارُ جُمهورِ الأصوليِّينَ [570] قال عَلاءُ الدِّينِ البُخاريُّ: (ذَهَبَ الجُمهورُ إلى صِحَّةِ التَّرجيحِ ووُجوبِ العَمَلِ بالرَّاجِحِ). ((كشف الأسرار)) (4/76). وقال الرَّازيُّ: (الأكثَرونَ اتَّفقوا على جَوازِ التَّمَسُّكِ بالتَّرجيحِ، وأنكَرَه بَعضُهم وقال: عِندَ التَّعارُضِ يَلزَمُ التَّخييرُ أوِ التَّوقُّفُ). ((المَحصول)) (5/398،397). وقال البِرْماويُّ: (اعلَمْ أنَّ العَمَلَ بالرَّاجِحِ فيما له مُرَجِّحٌ هو قَولُ الأكثَرِ، سَواءٌ كان المُرَجِّحُ مَعلومًا أو مَظنونًا. حتَّى إنَّ المُنكِرينَ للقياسِ عَمِلوا بالتَّرجيحِ في ظَواهِرِ الأخبارِ). ((الفوائد السنية)) (5/227). وقال المَرداويُّ: (اعلَمْ أنَّ العَمَلَ بالرَّاجِحِ فيما له مُرَجِّحٌ هو قَولُ جَماهيرِ العُلَماءِ). ((التحبير)) (8/4142). ويُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/1019)، ((المستصفى)) للغزالي (ص: 376،375)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 420)، ((الكافي)) للسغناقي (3/1379)، ((الفائق)) (2/343)، ((نهاية الوصول)) (8/3649) كلاهما لصفي الدين الهندي، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (3/371،370)، ((الردود والنقود)) للبابرتي (2/734،733)، ((نشر البنود)) لعبد الله الشنقيطي (2/279). ، وحَكى الآمِديُّ إجماعَ الصَّحابةِ والسَّلَفِ في الوقائِعِ المُختَلِفةِ على وُجوبِ تَقديمِ الرَّاجِحِ مِنَ الظَّنَّينِ [571] قال: (وأمَّا أنَّ العَمَلَ بالدَّليلِ الرَّاجِحِ واجِبٌ، فيَدُلُّ عليه ما نُقِلَ وعُلِمَ مِن إجماعِ الصَّحابةِ والسَّلَفِ في الوقائِعِ المُختَلِفةِ على وُجوبِ تَقديمِ الرَّاجِحِ مِنَ الظَّنَّينِ). ((الإحكام)) (4/239). ، وحَكى الرَّازيُّ إجماعَ الصَّحابةِ [572] قال: (إجماعُ الصَّحابةِ على العَمَلِ بالتَّرجيحِ). ((المحصول)) (5/398،397). ، ومَحَلُّ التَّرجيحِ عِندَ الجُمهورِ عِندَ تَعَذُّرِ الجَمعِ والنَّسخِ، ومَحَلُّه عِندَ الحَنَفيَّةِ إن لم يُمكِنِ النَّسخُ [573] يُنظر: ((منهج الإمام الطحاوي في دفع التعارض بين النصوص الشرعية)) لحسن بخاري (ص: 118). .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّ دَأبَ الشَّرعِ العَمَلُ بالأرجَحِ؛ فقد قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يَؤُمُّ القَومَ أقرَؤُهم لكِتابِ اللهِ...)) الحَديثَ [574] أخرجه مسلم (673) من حديثِ أبي مَسعودٍ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. ، فهذا تَقديمٌ للأئِمَّةِ في الصَّلاةِ بالتَّرجيحِ، وغَيرِ ذلك مِمَّا عُمِلَ فيه بالأرجَحِ [575] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/680). .
2- إجماعُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم على العَمَلِ بما ترَجَّح عِندَهم مِنَ الأخبارِ [576] ومِمَّن نَقَل الإجماعَ الطُّوفيُّ وغَيرُه. قال الطُّوفيُّ: (..."وقد عَمِلَ الصَّحابةُ بالتَّرجيحِ" مُجمِعينَ عليه). ((شرح مختصر الروضة)) (3/679). ويُنظر: ((البرهان)) لإمام الحرمين (2/175)، ((البحر المحيط)) للزركشي (8/ 145). ، ومِن ذلك [577] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/398)، ((الإحكام)) للآمدي (4/239،240)، ((الفائق)) (2/344)، ((نهاية الوصول)) كلاهما لصفي الدين الهندي (8/3651)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/76)، ((التحبير)) للمرداوي (8/4144)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/620)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (2/429،428). أنَّ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه عَمِلَ بخَبَرِ أبي موسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه في الِاستِئذانِ عِندَما وافقَه أبو سَعيدٍ الخُدريُّ رَضِيَ اللهُ عنه، وقَوَّى رِوايَتَه [578] عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ، قال: كُنتُ في مَجلِسٍ مِن مَجالِسِ الأنصارِ، إذ جاءَ أبو موسى كَأنَّه مَذعورٌ، فقال: استَأذَنتُ على عُمَرَ ثَلاثًا، فلم يُؤذَنْ لي فرَجَعتُ، فقال: ما مَنَعَكَ؟ قُلتُ: استَأذَنتُ ثَلاثًا فلم يُؤذَنْ لي فرَجَعتُ، وقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إذا استَأذَنَ أحَدُكُم ثَلاثًا فلم يُؤذَنْ له فليَرجِعْ، فقال: واللهِ لَتُقيمَنَّ عليه ببَيِّنةٍ، أمِنكُم أحَدٌ سَمِعَه مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فقال أُبَيُّ بنُ كَعبٍ: واللهِ لا يَقومُ مَعَكَ إلَّا أصغَرُ القَومِ، فكُنتُ أصغَرَ القَومِ فقُمتُ مَعَه، فأخبَرتُ عُمَرَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال ذلك. أخرجه البخاري (6245) واللَّفظُ له، ومسلم (2153). .
3- أنَّ الظَّنَّينِ إذا تَعارَضا ثُمَّ ترَجَّح أحَدُهما على الآخَرِ، كان العَمَلُ بالرَّاجِحِ مُتَعَيِّنًا عُرفًا، فالعُقَلاءُ يوجِبونَ بعُقولِهمُ العَمَلَ بالرَّاجِحِ، وإذ يُعَدُّ العادِلُ عنه سَفيهًا فكذا في الشَّرعِ [579] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/398)، ((الإحكام)) للآمدي (4/240)، ((الفائق)) (2/344)، ((نهاية الوصول)) (8/3652) كلاهما لصفي الدين الهندي، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/77). ، كما قال عبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه: (ما رَآه المُسلِمونَ حَسَنًا فهو عِندَ اللهِ حَسَنٌ) [580] أخرجه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (3602)، والبيهقي في ((المدخل إلى السنن)) (49) حسنه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (2/435)، والسخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (431)، وحسن إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح السنة)) (105). وأخرجه مِن طَريقٍ آخَرَ: أحمد (3600)، والحاكم (4465) بلَفظ: ((ما رَأى المُسلِمونَ حَسَنًا فهو عِندَ اللهِ حَسَنٌ)). حَسَّنه ابنُ حَجَرٍ في ((الأمالي المطلقة)) (65)، والألباني في ((شرح الطحاوية)) (469)، وصَحَّحَ إسناده الحاكِم، وأحمد شاكِر في تَخريج ((مسند أحمد)) (5/211)، وحَسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (3600). .
4- أنَّ الدَّليلَينِ إذا تَعَذَّرَ الجَمعُ بَينَهما، فإمَّا أن يُترَكا مَعًا، أو يُترَكَ الرَّاجِحُ مِنهما، أو يُترَكَ المَرجوحُ.
فالأوَّلُ باطِلٌ؛ لِما فيه مِنَ الإعراضِ عنِ الدَّليلَينِ، والتَّسويةِ بَينَ الرَّاجِحِ والمَرجوحِ، وهما لا يَستَويانِ عِندَ العُقَلاءِ.
والثَّاني باطِلٌ؛ لِما فيه مِن تَقديمِ الضَّعيفِ على القَويِّ، وهو خِلافُ مُقتَضى الشَّرعِ والعَقلِ، فلم يَبقَ إلَّا الثَّالِثُ، وهو المَطلوبُ إثباتُه [581] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3652)، ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 431). .
وأنكَرَ بَعضُهمُ التَّرجيحَ في الأدِلَّةِ، وقالوا: عِندَ التَّعارُضِ يَلزَمُ التَّخييرُ أوِ الوقفُ، ونُسِب هذا القَولُ لأبي عبدِ اللهِ البَصريِّ، لَكِنَّ إمامَ الحَرَمَينِ ذَكَرَ أنَّه لم يَجِدْه في مُصَنَّفاتِه، قال: (وقد حَكاه القاضي عنِ البَصريِّ المُلَقَّبِ ب "جُعلٍ"، قال: ولم أرَ ذلك في شَيءٍ مِن مُصَنَّفاتِه مَعَ بَحثي عنها) [582] ((البرهان)) (2/175). وقال الزَّركَشيُّ: (لَعَلَّ القاضيَ ألزَمَه إنكارَ الرَّاجِحِ إلزامًا، على مَذهَبِه في إنكارِ التَّرجيحِ في البَيِّناتِ، واستبعَدَ الأبياريُّ وُقوعَ القاضي في مِثلِ ذلك، وقال ابنُ المُنَيِّرِ: ليس ببَعيدٍ؛ للخِلافِ في أنَّ لازِمَ المَذهَبِ هَل هو مَذهَبٌ؟ فإن كان القاضي وَجَد له نَصًّا فذاكَ، وإن لم يَجِدْه بَل ألزَمَه بجَعلِه مَذهَبًا له فصحيحٌ عِندَ مَن يَرى ذلك، وإن ثَبَتَ فهو قَولٌ باطِلٌ، وهو مَسبوقٌ بالإجماعِ على استِعمالِه التَّرجيحَ). ((البحر المحيط)) (8/ 145). ، واختارَه أيضًا الباقِلَّانيُّ فيما إذا كان المُرَجِّحُ مَظنونًا غَيرَ مُستَقِلٍّ بنَفسِه دَليلًا [583] قال الزَّركَشيُّ: (قال القاضي: لا يَجوزُ العَمَلُ بالتَّرجيحِ المَظنونِ؛ لأنَّ الأصلَ امتِناعُ العَمَلِ بشَيءٍ مِنَ المَظنونِ، وخَرَجَ مِن ذلك الظُّنونُ المُستَقِلَّةُ بأنفُسِها؛ لانعِقادِ إجماعِ الصَّحابةِ عليها، وما وراءَ ذلك يَبقى على الأصلِ، والتَّرجيحُ عَمَل نَظَرٍ لا يَستَقِلُّ بنَفسِه دَليلًا، وأجيبَ بأنَّ الإجماعَ انعَقدَ على وُجوبِ العَمَلِ بالظَّنِّ الذي لا يَستَقِلُّ، كما انعَقدَ على المُستَقِلِّ). ((البحر المحيط)) (8/146). وقال المَرداويُّ: (خالَف القاضي أبو بَكرِ ابنُ الباقِلَّانيِّ في جَوازِ العَمَلِ بالمُرَجَّحِ بالمَظنونِ، وقال: إنَّما أقبَلُ التَّرجيحَ بالمَقطوعِ به، كتَقديمِ النَّصِّ على القياسِ، لا بالأوصافِ ولا الأحوالِ، ولا كَثرةِ الأدِلَّةِ ونَحوِها، فلا يَجِبُ العَمَلُ به؛ فإنَّ الأصلَ امتِناعُ العَمَلِ بالظَّنِّ). ((التحبير)) (8/4143). ويُنظر: ((البرهان)) لإمام الحرمين (2/176،175)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/486)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3650). وقال الطُّوفيُّ: (أحسَبُ أنَّ هذا قَولٌ قال به الباقِلَّانيُّ ثُمَّ تَرَكَه؛ إذ لا يُظَنُّ بمِثلِه الإصرارُ على مِثلِ هذا القَولِ مَعَ ظُهورِ ضَعفِه). ((شرح مختصر الروضة)) (3/682). .

انظر أيضا: