المَطلَبُ الرَّابِعُ: اجتِهادُ الصَّحابةِ في زَمَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
ذَهَب جُمهورُ الأصوليِّينَ إلى جَوازِ اجتِهادِ الصَّحابةِ في زَمَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
[111] قال ابنُ الهُمامِ: (والأكثَرُ يَجوزُ). ((التحرير)) (ص: 528). وقال ابنُ السُّبكيِّ: (وهو المُختارُ عِندَ الأكثَرينَ) ((الإبهاج)) (7/ 2890). ويُنظَر: ((البحر المحيط)) للزركشي (8/255)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (2/ 221)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/ 2333)، ((أصول الفقه الإسلامي)) لوهبة الزحيلي (2/1066). ، واختَلَفوا في وُقوعِ ذلك:
فذَهَبَ بَعضُهم إلى وُقوعِه في حُضورِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وغَيبَتِه، ظَنًّا لا قَطعًا
[112] يُنظَر: ((مختصر ابن الحاجب)) (2/1211)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (3/ 299)، ((البحر المحيط)) للزركشي (8/ 257). . ومِمَّنِ اختارَه الآمِديُّ
[113] يُنظَر: ((الإحكام)) (4/ 175). ، وابنُ الحاجِبِ
[114] يُنظَر: ((مختصر ابن الحاجب)) (2/ 1211). ، وابنُ السُّبكيِّ
[115] يُنظَر: ((جمع الجوامع)) (ص: 119)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (4/ 582). .
واستَدَلُّوا بأدِلَّةٍ؛ منها [116] يُنظَر: ((الإحكام)) للآمدي (4/ 176)، ((شرح العضد على مختصر ابن الحاجب)) (3/ 588)، ((تحفة المسؤول)) للرهوني (4/ 250). : 1- عن أبي قتادةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال:
((خَرَجْنا معَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عامَ حُنَينٍ، فلمَّا التَقَينا كانَت للمُسلِمينَ جَولةٌ، فرَأيتُ رَجُلًا مِن المُشرِكينَ عَلا رَجُلًا مِن المُسلِمينَ، فاستَدَرتُ حتَّى أتيتُه مِن وَرائِه حتَّى ضَرَبتُه بالسَّيفِ على حَبلِ عاتِقِه، فأَقبَلَ علَيَّ فضَمَّني ضَمَّةً وَجَدتُ مِنها ريحَ المَوتِ، ثُمَّ أَدرَكَه المَوتُ فأَرسَلني، فلَحِقتُ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ فقُلتُ: ما بالُ النَّاسِ؟ قالَ: أمرُ اللهِ! ثُمَّ إنَّ النَّاسَ رَجَعوا وجَلَسَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ: مَن قَتَلَ قَتيلًا له عليه بَيِّنةٌ فله سَلَبُه، فقُمتُ فقُلتُ: مَن يَشهَدُ لي؟ ثُمَّ جَلَستُ، ثُمَّ قالَ: مَن قَتَلَ قَتيلًا له عليه بَيِّنةٌ فله سَلَبُه، فقُمتُ فقُلتُ: مَن يَشهَدُ لي؟ ثُمَّ جَلَستُ، ثُمَّ قالَ الثَّالِثةَ مِثلَه، فقالَ رَجُلٌ: صَدَقَ يا رَسولَ اللهِ، وسَلَبُه عِندي، فأَرضِه عَنِّي، فقال أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنه: لاها اللهِ إذًا! لا يَعمِدُ إلى أسَدٍ مِن أُسدِ اللَّهِ، يُقاتِلُ عنِ اللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يُعطيك سَلَبَه! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: صَدَقَ! فأعطاه)) [117] أخرجه البخاري (3142) واللفظ له، ومسلم (1751). .
فالظَّاهرُ أنَّ أبا بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه إنَّما قاله عنِ اجتِهادٍ، وقَرَّرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على ذلك، وإذا جازَ الاجتِهادُ في حَقِّ الحاضِرِ جازَ بطَريقٍ أَولى في حَقِّ الغائِبِ
[118] يُنظَر: ((رفع الحاجب)) (4/ 538)، ((الإبهاج)) (7/ 2896) كلاهما لابن السبكي. .
2- عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه:
((أنَّ أُناسًا نَزَلوا على حُكمِ سَعدِ بنِ مُعاذٍ، فأرسَلَ إليه فجاءَ على حِمارٍ، فلَمَّا بَلَغَ قَريبًا مِنَ المَسجِدِ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قوموا إلى خَيرِكُم -أو سَيِّدِكُم- فقال: يا سَعدُ، إنَّ هؤلاء نَزَلوا على حُكمِك، قال: فإنِّي أحكُمُ فيهم أن تُقتَلَ مُقاتِلَتُهم وتُسبى ذَراريُّهم، قال: حَكَمتَ بحُكمِ اللهِ، أو: بحُكمِ المَلِكِ!)) [119] أخرجه البخاري (3804) واللفظ له، ومسلم (1768). فالظَّاهِرُ أنَّ حُكمَ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عنه كان بالاجتِهادِ
[120] يُنظَر: ((تحفة المسؤول)) للرهوني (4/ 252). .
3- اجتِهادُ الصَّحابةِ الذينَ بَعَثَهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى بَني قُرَيظةَ، وقال لهم:
((لا يُصَلِّيَنَّ أحَدٌ العَصرَ إلَّا في بَني قُرَيظةَ)) ؛ فعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومَ الأحزابِ:
((لا يُصَلِّيَنَّ أحَدٌ العَصرَ إلَّا في بَني قُرَيظةَ، فأدرَكَ بَعضُهمُ العَصرَ في الطَّريقِ، فقال بَعضُهم: لا نُصَلِّي حتَّى نَأتيَها، وقال بَعضُهم: بَل نُصَلِّي، لم يُرِدْ مِنَّا ذلك، فذُكِرَ ذلك للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلَم يُعنِّفْ واحِدًا مِنهم)) [121] أخرجه البخاري (4119) واللفظ له، ومسلم (1770). .
4- اجتِهادُ عَمَّارِ بنِ ياسِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه في التَّيَمُّمِ للجَنابةِ، فقال:
((بَعَثَني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حاجةٍ، فأجنَبتُ فلَم أجِدِ الماءَ، فتَمَرَّغتُ في الصَّعيدِ كَما تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، فذَكَرتُ ذلك للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: إنَّما كان يَكفيك أن تَصنَعَ هكذا...)) [122] أخرجه البخاري (347) واللفظ له، ومسلم (368). .
وذَهَبَ بَعضُ الأصوليِّينَ إلى وُقوعِه للغائِبِ مِنهم دونَ الحاضِرِ. ومِمَّن ذَهَبَ إلى ذلك: الغَزاليُّ، فقال: (أمَّا وُقوعُه فالصَّحيحُ أنَّه قامَ الدَّليلُ على وُقوعِه في غَيبَتِه بدَليلِ قِصَّةِ مُعاذٍ
[123] لَفظُه: عن أُناسٍ مِن أهلِ حِمص مِن أصحابِ مُعاذِ بنِ جَبَلٍ: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا أرادَ أن يَبعَثَ مُعاذًا إلى اليَمَنِ قال: كَيف تَقضي إذا عَرَضَ لَك قَضاءٌ؟ قال: أقضي بكِتابِ اللهِ، قال: فإن لَم تَجِدْ في كِتابِ اللهِ؟ قال: فبِسُنَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: فإن لَم تَجِدْ في سُنَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولا في كِتابِ اللهِ؟ قال: أجتَهدُ رَأيي ولا آلو. فضَرَبَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَدرَه وقال: الحَمدُ للهِ الذي وفَّقَ رَسولَ رَسولِ اللهِ لِما يُرضي رَسولَ اللهِ)). والحَديثِ لا يَصِحُّ، أخرجه أبو داود (3592) واللَّفظُ له، والترمذي (1327)، وأحمد (22061). قال ابنُ حَزمٍ في ((الإحكام)) (2/204): باطِلٌ لا أصلُ لَه، وقال ابنُ الجَوزيِّ في ((العلل المتناهية)) (2/758): لا يَصِحُّ، وضَعَّفه الألبانيُّ في ((ضعيف سنن أبي داود)) (3592)، وقال عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الوُسطى)) (3/342): لا يُسنَدُ ولا يوجَدُ مِن وجهٍ صحيحٍ، وقال الترمذيُّ: لا نَعرِفُه إلَّا مِن هذا الوَجهِ، ولَيسَ إسنادُه عِندي بمُتَّصِلٍ. ، فأمَّا في حَضرَتِه فلَم يَقُمْ فيه دَليلٌ)
[124] ((المستصفى)) (ص: 346). ، وهذا الرَّأيُ مَنسوبٌ إلى جَماعةٍ مِنَ الأصوليِّينَ، وعُزِي إلى أكثَرِ الفُقَهاءِ
[125] يُنظَر: ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (3/ 302). .
وذَهَبَ آخَرونَ إلى أنَّ اجتِهادَ الصَّحابةِ جائِزٌ وواقِعٌ، سَواءٌ في غيابِهم عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو في حُضورِه، ولَكِنْ بحَضرَتِه أو بإذنِه
[126] يُنظَر: ((التحرير)) لابن الهمام (ص: 528)، ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 459). .
والدَّليلُ على مَنعِ الحاضِرِ إذا لم يُؤذَنْ له: عُمومُ قَولِ اللهِ تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات: 1] ، فالاجتِهادُ في مَسألةٍ شَرعيَّةٍ بحَضرَتِه بلا إذنٍ مِنَ التَّقدُّمِ بَينَ يَدَيه.
وقيلَ غَيرُ ذلك
[127] يُنظَر: ((مختصر ابن الحاجب)) (2/1211)، ((البحر المحيط)) للزركشي (8/ 257). وقال الشَّوكانيُّ: (قال الفَخرُ الرَّازيُّ في "المَحصولِ": الخِلافُ في هذه المَسألةِ لا ثَمَرةَ لَه في الفِقهِ. وقدِ اعتُرِضَ عليه في ذلك، ولا وجهَ لِلاعتِراضِ؛ لأنَّ الاجتِهادَ الواقِعَ مِنَ الصَّحابيِّ إن قَرَّرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان حُجَّةً وشَرعًا بالتَّقريرِ، لا باجتِهادِ الصَّحابيِّ، وإن لَم يَبلُغْه كان اجتِهادُ الصَّحابيِّ فيه الخِلافُ المُتَقدِّمُ في قَولِ الصَّحابيِّ، عِندَ مَن قال بجَوازِه في عَصرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا عِندَ مَن مَنَعَ منه، وإن بَلَغَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنكَرَه، أو قال بخِلافِه، فلَيسَ في ذلك الاجتِهادِ فائِدةٌ؛ لأنَّه قد بَطَلَ بالشَّرعِ). ((إرشاد الفحول)) (2/ 224). .
انظر أيضا:
عرض الهوامش