موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الثَّالِثُ: الاحتِجاجُ بالخِلافِ ومُراعاتُه


المُرادُ بالاحتِجاجِ بالخِلافِ: التَّمَسُّكُ بصورةِ الخِلافِ ووُجودِه، والاستِدلالُ به، واعتِبارُه حُجَّةً على جَوازِ الأخذِ بأيِّ قَولٍ قيلَ في المَسألةِ، أيًّا كان مَأخَذُه، ومِن غَيرِ تَرجيحٍ أو نَظَرٍ في الأدِلَّةِ.
وبَيانُ ذلك أن يَعتَمِدَ المُكَلَّفُ في جَوازِ الفِعلِ على كَونِه مُختَلَفًا فيه بَينَ الفُقَهاءِ، ويَعتَبِرَ الخِلافَ مِن حُجَجِ الإباحةِ، فيَعمِدَ إلى قَولٍ ضَعيفٍ أو شاذٍّ أو بِدعةٍ ونَحوِ ذلك مِنَ الأقوالِ في مَسألةٍ فِقهيَّةٍ، ويَأخُذَ به، ويَعمَلَ بموجِبِه، ويَدَعَ ما عليه الفتوى، ويَكونَ مُتَمَسَّكُه في تلك المَسألةِ أنَّها مِنَ المَسائِلِ الخِلافيَّةِ، مِن غَيرِ نَظَرٍ في مَأخَذِ هذا القَولِ الذي اختارَه ودَليلِه، ودونَ نَظَرٍ في التَّرجيحِ، ظَنًّا منه بأنَّ كُلَّ ما وقَعَ الخِلافُ فيه فلا تَثريبَ فيه، وأنَّه مَشروعٌ؛ لأنَّه مُستَنِدٌ إلى قَولٍ قيلَ في تلك المَسألةِ، وإن كان ضَعيفًا أو شاذًّا أو مِن قَبيلِ زَلَّةِ العالِمِ، ونَحوِ ذلك مِنَ الخِلافِ غَيرِ السَّائِغِ، فجَعَلَ الخِلافَ في المَسألةِ بمَجرَّدِه دَليلًا له على الأخذِ بأيِّ الأقوالِ فيها، لمُجَرَّدِ كَونِها مُختَلَفًا فيها، لا لأجلِ دَليلٍ يَدُلُّ على صِحَّةِ ما ذَهَبَ إليه [235] يُنظَر: ((الاحتجاج بالخلاف)) لاسامة الشيبان (ص: 43- 44). .
حُكمُ الاحتِجاجِ بالخِلافِ:
الاحتِجاجُ بالخِلافِ لا يَجوزُ، ويُمنَعُ اعتِبارُه دليلًا أو حُجَّةً.
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ القُرآنِ الكَريمِ
قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59] .
قال الشَّاطِبيُّ: (إنَّ في مَسائِلِ الخِلافِ ضابِطًا قُرآنيًّا يَنفي اتِّباعَ الهَوى جُملةً، وهو قَولُه تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59] ، وهذا المُقَلِّدُ قد تَنازَعَ في مَسألَتِه مُجتَهِدانِ؛ فوجَبَ رَدُّها إلى اللهِ والرَّسولِ، وهو الرُّجوعُ إلى الأدِلَّةِ الشَّرعيَّةِ، وهو أبعَدُ مِن مُتابَعةِ الهَوى والشَّهوةِ؛ فاختيارُه أحَدَ المَذهَبَينِ بالهَوى والشَّهوةِ مُضادٌّ للرُّجوعِ إلى اللهِ والرَّسولِ) [236] ((الموافقات)) (5/ 82). .
ثانيًا: إجماعُ العُلَماءِ
ومِمَّن نَقَلَه في الجُملةِ: ابنُ حَزمٍ [237] قال: (اتَّفَقوا على أنَّه لا يَحِلُّ لِمُفتٍ ولا لِقاضٍ أن يَحكُمَ بما يَشتَهي مِمَّا ذَكَرنا في قِصَّةٍ، وبِما اشتَهى مِمَّا يُخالِفُ ذلك الحُكمَ في أُخرى مِثلِها، وإن كان كِلا القَولَينِ مِمَّا قال به جَماعةٌ مِنَ العُلَماءِ، ما لَم يَكُنْ ذلك لِرُجوعٍ عن خَطَأٍ لاحَ له إلى صَوابٍ بانَ له). ((مراتب الإجماع)) (ص: 51). ، وابنُ عبدِ البَرِّ [238] قال: (الاختِلافُ ليس بحُجَّةٍ عِندَ أحَدٍ عَلِمتُه مِن فُقَهاءِ الأُمَّةِ، إلَّا مَن لا بَصَرَ له ولا مَعرِفةَ عِندَه، ولا حُجَّةَ في قَولِه). ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 922). ، وابنُ الصَّلاحِ [239] قال: (اعلَمْ أنَّ مَن يَكتَفي بأن يَكونَ في فُتياه أو عَمَلِه موافِقًا لِقَولٍ أو وَجهٍ في المَسألةِ، ويَعمَلُ بما يَشاءُ مِنَ الأقوالِ أوِ الوُجوهِ مِن غَيرِ نَظَرٍ في التَّرجيحِ، ولا تَقَيُّدٍ به، فقد جَهِلَ وخَرَقَ الإجماعَ). ((أدب المفتي والمستفتي)) (ص: 125). ، وابنُ تيميَّةَ [240] قال: (أجمَعَ العُلَماءُ على تَحريمِ الحُكمِ والفُتيا بالهَوى، وبقولٍ أو وَجهٍ مِن غَيرِ نَظَرٍ في التَّرجيحِ، ويَجِبُ العَمَلُ بموجِبِ اعتِقادِه فيما لَه وعليه إجماعًا). ((الفتاوى الكبرى)) (5/ 555)، ويُنظَر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (5/ 95). .
ثالِثًا: أنَّ الاحتِجاجَ بالخِلافِ يُفضي إلى مُصادَمةِ مَقاصِدِ الشَّريعةِ؛ فهو مُخالِفٌ لِما تقَرَّر مِن كَونِ مَقصودِ الشَّارِعِ مِنَ التَّكليفِ إخراجَ المُكَلَّفِ مِن داعيةِ الهَوى إلى داعيةِ الشَّرعِ، وأنَّ الشَّريعةَ إنَّما جاءَت لكَفِّ المُكَلَّفينَ ومَنعِهم مِنَ الاستِجابةِ لأهوائِهم وشَهَواتِهم؛ ليَكونوا عِبادًا للهِ تعالى اختيارًا كَما أنَّهم عِبادُ اللهِ اضطِرارًا، فهذا المَعنى لا يَجتَمِعُ مَعَ تَخييرِ المُكَلَّفِ بَينَ الآراءِ والأقوالِ في المَسائِلِ الخِلافيَّةِ، فتَكونُ الشَّريعةُ وَفقَ أهواءِ النُّفوسِ ومَنافِعِها كيف كانت، وقد قال اللهُ تعالى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [المؤمنون: 71] ، فالاحتِجاجُ بالخِلافِ فيه هَدمٌ لهذا الأصلِ الشَّرعيِّ المَقاصِديِّ العَظيمِ؛ إذ هو عَينُ اتِّباعِ الهَوى الذي تَواتَرَتِ النُّصوصُ الشَّرعيَّةُ وتَضافرَت في النَّهيِ عنه والتَّحذيرِ منه، وبسَبَبِه تهدَّم كَثيرٌ مِن أصولِ الإسلامِ ومَصادِرِ التَّشريعِ، وتَتَقَوَّضُ دَعائِمُها وأحكامُها، فلَيسَتِ الشَّريعةُ مَوضوعةً على وَفقِ أهواءِ النُّفوسِ، ولا يَجوزُ أن تَكونَ تابِعةً للشَّهَواتِ؛ إذ لو كان الشَّرعُ تابِعًا للهَوى والشَّهوةِ لكان في الطِّباعِ ما يُغني عنه، وكانت شَهوةُ كُلِّ أحَدٍ وهَواه شَرعًا له [241] يُنظَر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (4/ 1562)، ((الاحتجاج بالخلاف)) لأسامة الشيبان (ص: 85- 86). .
وعليه، فالمُحتَجُّ بمُجَرَّدِ الخِلافِ مُتَّبِعٌ لِما يَهواه ويَشتَهيه، فهو قد أخَذَ القَولَ واحتَجَّ بالخِلافِ وسيلةً إلى اتِّباعِ هَواه، لا وسيلةً إلى تَقواه، فلم يَكُنْ مُمتَثِلًا لأمرِ الشَّارِعِ [242] يُنظَر: ((الموافقات)) للشاطبي (5/ 94). .

انظر أيضا: