موسوعة أصول الفقه

المسألةُ الأولى: الجُنونُ


الجُنونُ: اختِلالُ العَقلِ بحيثُ يَمنَعُ مِن صُدورِ الأفعالِ والأقوالِ على نَهجِ العَقلِ إلَّا نادِرًا [672] يُنظر: ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 79)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (2/259)، ((دستور العلماء)) للأحمد نكري (1/282). .
والمَجنونُ غيرُ مُكَلَّفٍ [673] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/ 154)، ((الضروري في أصول الفقه)) لابن رشد الحفيد (ص: 51)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (1/ 37). .
الأدِلَّةُ:
1- قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((رُفِع القَلَمُ عن ثَلاثةٍ: عنِ النَّائِمِ حَتَّى يَستيقِظَ، وعنِ الصَّغيرِ حَتَّى يَكبَرَ، وعنِ المَجنونِ حَتَّى يَعقِلَ أو يُفيقَ)) [674] أخرجه النسائي (3432) واللَّفظُ له، وابن ماجه (2041)، وأحمد (24694).  وأخرجه أبو داود (4398) بلفظ: (وعن المُبتلَى حتى يبرَأَ) بدَلَ المجنون، والحاكم (2350)، والبيهقي (11453) بلفظ: (وعن المعتوهِ حتى يُفيقَ). من حديث عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. صحَّحه الحاكمُ وقال: على شرط مسلم، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (3/392)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (3432). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
قَولُه: ((رُفِعَ القَلَمُ)) مَعناه امتِناعُ التَّكليفِ لا أنَّه رُفِعَ بَعدَ وَضعِه [675] يُنظر: ((المجموع)) للنووي (6/ 253). .
2- الإجماعُ: ومِمَّن حَكى الإجماعَ على ذلك: ابنُ قُدامةَ [676] قال ابنُ قُدامةَ: (المَجنونُ غيرُ مُكلَّفٍ، ولا يَلزَمُه قَضاءُ ما تَرَك في حالِ جُنونِه، إلَّا أن يُفيقَ في وقتِ الصَّلاةِ، فيَصيرَ كالصَّبيِّ يَبلُغُ. ولا نَعلَمُ في ذلك خِلافًا). ((المغني)) (2/50). ، وابنُ تَيميَّةَ [677] قال ابنُ تَيميَّةَ: (أمَّا المَجنونُ الذي رُفعَ عنه القَلَمُ فلا يَصِحُّ شيءٌ مِن عِباداتِه باتِّفاقِ العُلَماءِ، ولا يَصحُّ مِنه إيمانٌ ولا كُفرٌ ولا صَلاةٌ ولا غيرُ ذلك مِنَ العِباداتِ، ولا يَصلُحُ هو عِندَ عامَّةِ العُقَلاءِ لأُمورِ الدُّنيا، كالتِّجارةِ والصِّناعةِ، فلا يَصلُحُ أن يَكونَ بَزَّازًا ولا عَطَّارًا ولا حَدَّادًا ولا نَجَّارًا، ولا تَصِحُّ عُقودُه باتِّفاقِ العُلَماءِ، فلا يَصِحُّ بيعُه ولا شِراؤُه ولا نِكاحُه ولا طَلاقُه ولا إقرارُه ولا شَهادَتُه، ولا غيرُ ذلك مِن أقوالِه، بَل أقوالُه كُلُّها لَغوٌ لا يَتَعَلَّقُ بها حُكمٌ شَرعيٌّ، ولا ثَوابٌ ولا عِقابٌ). ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) (ص: 48). ويُنظر: ((روضة المستبين)) لابن بزيزة (2/1274). ، والزَّركَشيُّ [678] قال الزَّركشيُّ: (...المَجنونُ ليس بمُكلَّفٍ إجماعًا). ((البحر المحيط)) (1/ 281). لكن جاء في ((المسودة في أصول الفقه)) (ص: 35): (الصَّبيُّ والمَجنونُ ليسا بمُكلَّفينِ في قَولِ الجُمهورِ، واختارَ قَومٌ تَكليفَهما). ويُنظر: ((المحصول)) لابن العربي (ص: 26). .
3- أنَّ مُقتَضى التَّكليفِ الامتِثالُ والطَّاعةُ ولا يَتِمَّانِ إلَّا بالقَصدِ إليهما، ولا يُتَصَوَّرُ ذلك في حَقِّ المَجنونِ؛ لأنَّ القَصدَ إنَّما يَكونُ بَعدَ الفهمِ، والمَجنونُ لا يَفهَمُ [679] يُنظر: ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 37)، ((مجموع الفتاوى)) (10/431) و (14/115)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/499). .
وأمَّا وُجوبُ الزَّكاةِ والغَراماتِ في مالِ المَجنونِ فمِن أحكامِ الوَضعِ، لا مِن أحكامِ التَّكليفِ؛ فليس وُجوبُ مِثلِ ذلك في مالِه مِن بابِ التَّكليفِ الخِطابيِّ لَه، إنَّما هو مِن قَبيلِ رَبطِ الأحكامِ بأسبابِها، كما أنَّ البَهيمةَ إذا أتلَفَت زَرعًا باللَّيلِ أو بالنَّهارِ بتَفريطِ صاحِبِها، أو غيرِ ذلك مِن صُوَرِ الضَّمانِ بأفعالِ البَهائِمِ، ضَمِنَ صاحِبُها، مَعَ أنَّ البَهيمةَ ليست مُخاطَبةً ولا مُكلَّفةً بالإجماعِ.
ومَعنى رَبطِ الحُكمِ بالسَّبَبِ: أنَّ الشَّرعَ وضَعَ أسبابًا تَقتَضي أحكامًا تَتَرَتَّبُ عليها؛ تَحقيقًا للعَدلِ في خَلقِه، ولمُراعاةِ مَصالحِهم، لا يُعتَبَرُ فيها تَكليفٌ ولا عِلمٌ، حَتَّى كأنَّ الشَّرعَ قال: إذا وقَعَ الشَّيءُ الفُلانيُّ في الوُجودِ، فاعلَموا أنِّي حَكمتُ بكذا، كالمَوتِ مَثَلًا؛ إذ هو سَبَبُ انتِقالِ مالِ الميِّتِ إلى وارِثِه، سَواءٌ كان عاقِلًا أو غيرَ عاقِلٍ، عالِمًا أو غيرَ عالمٍ، مُختارًا أو غيرَ مُختارٍ [680] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/181)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (1/ 37). ويُنظر أيضًا: ((الإحكام)) للآمدي (1/151). والغَضَبُ شُعبةٌ مِنَ الجُنونِ يَغتالُ العَقلَ، كما يَغتالُه الخَمرُ بَل أشَدُّ. وقد ذَكرَ ابنُ القَيِّمِ في سياقِ كلامِه عن طَلاقِ الغَضبانِ أنَّ الغَضَبَ على ثَلاثةِ أقسامٍ: أحَدُها: ما يُزيلُ العَقلَ، فلا يَشعُرُ صاحِبُه بما قال، وهذا لا يَقَعُ طَلاقُه بلا نِزاعٍ. الثَّاني: ما يَكونُ في مَبادِئِه بحيثُ لا يَمنَعُ صاحِبَه مِن تَصَوُّرِ ما يَقولُ وقَصدِه، فهذا يَقَعُ طَلاقُه. الثَّالثُ: أن يَستَحكِمَ ويَشتَدَّ به، فلا يُزيلَ عَقلَه بالكُلِّيَّةِ، ولَكِن يَحولُ بينَه وبينَ نيَّتِه، بحيثُ يَندَمُ على ما فرَطَ مِنه إذا زالَ، فهذا مَحَلُّ نَظَرٍ، وعَدَمُ الوُقوعِ في هذه الحالةِ قَويٌّ مُتَوجِّهٌ، واللهُ أعلَمُ. يُنظر: ((زاد المعاد)) (5/308)، ((إعلام الموقعين)) (3/512) (4/476). وقد نَهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَقضيَ القاضي وهو غَضبانُ. أخرَجَه البُخاريُّ (7158)، ومُسلم (1717) مِن حَديثِ أبي بَكرةَ نُفَيعِ بنِ الحارِثِ رَضِيَ اللهُ عنه، ولَفظُ البُخاريِّ: ((لا يَقضيَنَّ حَكَمٌ بينَ اثنينِ وهو غَضبانُ)) والغَضَبُ ليس سَبَبًا لعَينِه، ولا عِلَّةً لذاتِه، بَل هو سَبَبٌ لِما يَتَضَمَّنُه مِن ضَعفِ العَقلِ ودَهشَتِه المانِعةِ مِنِ استيفاءِ الفِكرِ، وأُلحِقَ بالغَضَبِ ما كان فيه تَشويشُ الذِّهنِ، كالجوعِ والعَطَشِ، والمَرَضِ، والحُزنِ والفرَحِ، وغيرِ ذلك. يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) للباقلاني (1/344)، ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص305)، ((العدة)) للقاضي أبي يعلى (5/1430)، ((شفاء الغليل)) (ص274)، ((المستصفى)) (ص309) كلاهما للغزالي، ((الموافقات)) للشاطبي (1/320). .

انظر أيضا: