موسوعة أصول الفقه

الفرعُ الثَّاني: حُكمُ التَّلفيقِ في التَّقليدِ


اختَلَف العُلَماءُ في حُكمِ التَّلفيقِ؛ فمِنهم مَن قال: التَّلفيقُ في التَّقليدِ غَيرُ جائِزٍ مُطلَقًا. ومِمَّنِ اختارَه مِنَ الحَنَفيَّةِ: ابنُ عابِدينَ [461] يُنظَر: ((حاشية ابن عابدين)) (3/ 417). ، وعَبدُ الغَنيِّ النَّابلُسيُّ [462] خلاصة التحقيق (ص:18، 26). ، وبَعضُ المالِكيَّةِ المِصريِّينَ مِنهم خاصَّةً [463] يُنظَر: ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (1/ 20). ، وبَعضُ الحَنابِلةِ، ومِنهمُ السَّفَّارينيُّ [464] ((التحقيق)) (ص: 171). ، وهو الأصَحُّ عِندَ مُتَأخِّري الشَّافِعيَّةِ [465] يُنظَر: ((الفتاوى الفقهية الكبرى)) للهيتمي (4/ 325، 329)، ((إعانة الطالبين)) للدمياطي (1/ 25). . وقال مَرعي الكَرميُّ: (اعلَمْ أنَّه قد ذَهَبَ كَثيرٌ مِنَ العُلَماءِ إلى مَنعِ جَوازِ التَّقليدِ؛ حَيثُ أدَّى إلى التَّلفيقِ مِن كُلِّ مَذهَبٍ) [466] ((رسالة في التلفيق)) ضمن ((مجموع رسائل العلامة مرعي الكرمي الحنبلي)) (3/ 443). .
وحَكى الحَصكَفيُّ الحَنَفيُّ [467] ((الدر المختار)) مع حاشية رد المحتار (1/ 75). وابنُ حَجَرٍ الهَيتميُّ [468] قال: (إنَّ كَثيرينَ يُقَلِّدونَ الأئِمَّةَ في بَعضِ المَسائِلِ، ولا يُراعونَ ذلك -أي: سائِرَ ما يَقولُ به المُجتَهِدُ الذي قَلَّدَه- فيَقَعونَ في وَرطةِ التَّلفيقِ، فتَبطُلُ أفعالُهم بالإجماعِ). ((الفتاوى الكبرى)) (4/ 76). وقال أيضًا: (فيَجوزُ تَقليدُه لغَيرِ الأربَعةِ مِمَّن يَجوزُ تَقليدُه، لا كالشِّيعةِ وبَعضِ الظَّاهريَّةِ، ويُشتَرَطُ مَعرِفتُه بمَذهَبِ المُقَلِّدِ بنَقلِ العَدلِ عن مِثلِه، وتَفاصيلِ تلك المَسألةِ أوِ المَسائِلِ المُقَلَّدِ فيها، وما يَتَعَلَّقُ بها على مَذهَبِ ذلك المُقَلَّدِ، وعَدَمُ التَّلفيقِ لو أرادَ أن يَضُمَّ إليها أو إلى بَعضِها تَقليدَ غَيرِ ذلك الإمامِ؛ لِما تَقَرَّرَ أنَّ تَلفيقَ التَّقليدِ، كتَقليدِ مالِكٍ -رَحِمَه اللهُ تعالى- في عَدَمِ نَجاسةِ الكَلبِ. والشَّافِعيِّ -رَضيَ اللهُ تَبارَكَ وتعالى عنه- في مَسحِ بَعضِ الرَّأسِ، فمُمتَنِعٌ اتِّفاقًا، بَل قيلَ: إجماعًا). ((الفتاوى الفقهية الكبرى)) (4/ 325- 326). وغَيرُهما [469] يُنظَر: ((التصحيح والترجيح)) لقاسم بن قلطوبغا (ص: 122- 124). الإجماعَ على أنَّ الحُكمَ المُلَفَّقَ باطِلٌ.
واستَدَلُّوا بأدِلَّةٍ، منها:
1- إذا جَمَعَ المُكَلَّفُ بَينَ قَولَي مُجتَهِدَينِ في مَسألةٍ واحِدةٍ، كالطَّهارةِ مَثَلًا، فإنَّ كِلا المُجتَهِدَينِ اللَّذَينِ قَلَّدَهما المُكَلَّفُ لو سُئِلَ أحَدُهما عن صَلاةِ المُلَفِّقِ التي أدَّاها فسَيَقولُ ببُطلانِها [470] يُنظَر: ((الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام)) للقرافي (ص: 233- 234)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (6/ 52)، ((التمذهب)) للرويتع (2/ 1077). .
2- لو قُلْنا بجَوازِ التَّلفيقِ في التَّقليدِ لأدَّى ذلك إلى إفسادِ الشَّريعةِ، والتَّلاعُبِ فيها، واستِباحةِ جُلِّ المُحَرَّماتِ [471] يُنظَر: ((التحقيق في بطلان التلفيق)) للسفاريني (ص: 171 - 172)، ((التمذهب)) للرويتع (2/ 1079). .
قال السَّفَّارينيُّ: (والقاعِدةُ: أنَّ كُلَّ ما أدَّى إلى مَحظورٍ فهو مَحظورٌ، وكُلُّ قَولٍ يَلزَمُ منه إباحةُ مُحَرَّمٍ فهو مَردودٌ) [472] ((التحقيق)) (ص: 172). .
ومِنهم مَن قال: يَجوزُ التَّلفيقُ مطلقًا: ونَقَلَه الدُّسوقيُّ عنِ المَغارِبةِ مِنَ المالِكيَّةِ، ورَجَّحَه [473] ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (1/ 20). .
ومِنهم مَن قال: يَجوزُ بشُروطٍ، ومِن ذلك:
أ- أنَّه يُشتَرَطُ عَدَمُ تَتَبُّعِ الرُّخَصِ قَصدًا، وهو رَأيُ بَعضِ الحَنابِلةِ، ومِنهم مَرعي الكَرميُّ [474] ((رسالة في التلفيق)) ضمن ((مجموع رسائل العلامة مرعي الكرمي الحنبلي)) (3/ 444). ، والرُّحَيبانيُّ [475] ((مطالب أولي النهى)) (1/ 391). فقد قال: (والذي أذهَبُ إليه وأختارُه: القَولُ بجَوازِ التَّقليدِ في التَّلفيقِ، لا بقَصدِ تَتَبُّعِ ذلك؛ لأنَّ مَن تَتَبَّع الرُّخَصَ فَسَق، بَل حَيثُ وقَعَ ذلك اتِّفاقًا، خُصوصًا مِنَ العَوامِّ الذينَ لا يَسَعُهم غَيرُ ذلك). .
ب- أنَّه يُشتَرَطُ فيه عَدَمُ خَرقِ الإجماعِ، واختارَه بَعضُ الشَّافِعيَّةِ، ومِنهمُ ابنُ دَقيقِ العيدِ [476] يُنظَر: ((البحر المحيط)) للزركشي (8/ 377). ، والقَرافيُّ [477] ((نفائس الأصول)) (4/ 622). ، والشَّاطِبيُّ [478] يُنظَر: ((الموافقات)) (5/ 103). ، والهَيتَميُّ [479] ((الفتاوى الفقهية الكبرى)) (4/ 306). .
ج- أن يَكونَ التَّلفيقُ في غَيرِ ما عمِلَ به تقليدًا، وهو رَأيُ بَعضِ الحَنَفيَّةِ، واختارَه ابنُ الهُمامِ [480] ((التحرير)) لابن الهمام (ص: 551). ، وابنُ أميرِ الحاجِّ [481] ((التقرير والتحبير)) (3/ 351). ، وأميرُ بادشاه [482] ((تيسير التحرير)) (4/ 253- 255). .
وجاءَ في " قَراراتِ مَجمَعِ الفِقهِ الإسلاميِّ [483] يُنظَر: ((قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي الدولي))، الدورات (2-24)، القرارات (1-238) (ص: 225). في دَورةِ مُؤتَمَرِه الثَّامِنِ المُنعَقِدِ مِن (1) إلى (7) مُحَرَّم (1414هـ):
يَكونُ التَّلفيقُ مَمنوعًا في الأحوالِ التَّاليةِ:
أ- إذا أدَّى إلى الأخذِ بالرُّخَصِ لمُجَرَّدِ الهَوى، أوِ الإخلالِ بأحَدِ الضَّوابِطِ المُبَيَّنةِ في مَسألةِ الأخذِ بالرُّخَصِ [484] سيأتي ذِكرُها. .
ب- إذا أدَّى إلى نَقضِ حُكمِ القَضاءِ.
ج- إذا أدَّى إلى نَقضِ ما عمِلَ به تَقليدًا في واقِعةٍ واحِدةٍ.
د- إذا أدَّى إلى مُخالَفةِ الإجماعِ أو ما يَستَلزِمُه.
هـ- إذا أدَّى إلى حالةٍ مُرَكَّبةٍ لا يُقِرُّها أحَدٌ مِنَ المُجتَهِدينَ.

انظر أيضا: