موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الأوَّلُ: شُروطُ المُفتي


اعتَنى العُلَماءُ بشُروطِ المُفتي، وذَكَر بَعضُ الأصوليِّينَ أنَّ الإفتاءَ كالاجتِهادِ، والمُفتي هو المُجتَهِدُ [560] يُنظَر: ((فتح القدير)) (7/ 256). ، فلا بُدَّ له مِن شُروطٍ يَجِبُ تَحَقُّقُها فيه، وهذه الشُّروطُ هيَ:
1- الإسلامُ:
يُشتَرَطُ في المُفتي أن يَكونَ مُسلِمًا، فلا تُقبَلُ الفتوى مِن كافِرٍ أو مُشرِكٍ؛ وذلك أنَّ المُفتيَ يُخبِرُ عنِ اللهِ، ويَنوبُ عن رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويَتَلَقَّى النَّاسُ ما يَقولُه على أنَّه دينُ اللهِ تعالى، ولا يَتَّصِفُ بذلك إلَّا مَن كان مُسلِمًا. وهذا الشَّرطُ أُجمِع عليه، ومِمَّن نَقَل الإجماعَ ابنُ حمدانَ [561] قال: (أمَّا اشتِراطُ إسلامِه... فبِالإجماعِ؛ لأنَّه يُخبِرُ عنِ اللهِ تعالى بحُكمِه، فاعتُبِرَ إسلامُه). ((صفة المفتي والمستفتي) (ص: 147). .
2- التَّكليفُ:
أي: يَكونُ بالِغًا عاقِلًا؛ فإنَّ الصَّبيَّ لا حُكمَ لقَولِه في مِثلِ هذا، والمَجنونُ مَرفوعٌ عنه القَلَمُ [562] يُنظَر: ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (2/ 330). . وهذا الشَّرطُ أُجمِع عليه، ومِمَّن نَقَل الإجماعَ على ذلك ابنُ حمدانَ [563] قال ابنُ حمدانَ: (أمَّا اشتِراطُ إسلامِه وتَكليفِه... فبِالإجماعِ؛ لأنَّه يُخبِرُ عنِ اللهِ تعالى بحُكمِه، فاعتُبِرَ إسلامُه وتَكليفُه)). ((صفة المفتي والمستفتي) (ص: 147). .
3- الأهليَّةُ العِلميَّةُ وفِقهُ النَّفسِ:
فالمُفتي مُبَلِّغٌ عنِ اللهِ تعالى أحكامَه، ولا يُبَلِّغُ عنه مَن جَهِلَ أحكامَه. والمُرادُ أن يَكونَ عالِمًا بالفِقهِ [564] يُنظَر: ((الورقات)) للجويني (ص: 29). .
قال الجُوَينيُّ: (يُشتَرَطُ وراءَ ذلك كُلِّه فِقهُ النَّفسِ؛ فهو رَأسُ مالِ المُجتَهِدِ، ولا يَتَأتَّى كَسبُه؛ فإن جُبِلَ على ذلك فهو المُرادُ، وإلَّا فلا يَتَأتَّى تَحصيلُه بحِفظِ الكُتُبِ، وعَبَّروا عن ذلك بأنَّ المُفتيَ مَن يَستَقِلُّ بمَعرِفةِ أحكامِ الشَّريعةِ نَصًّا واستِنباطًا؛ فقَولُهم: "نَصًّا" يُشيرُ إلى مَعرِفةِ اللُّغةِ، والتَّفسيرِ، والحَديثِ، وقَولُهم: "استنباطًا" يُشيرُ إلى مَعرِفةِ الأصولِ والأقيِسةِ وطُرُقِها، وفِقهِ النَّفسِ، والمُختارُ عِندَنا أنَّ المُفتيَ مَن يَسهُلُ عليه دَركُ أحكامِ الشَّريعةِ، وهذا لا بُدَّ فيه مِن مَعرِفةِ اللُّغةِ والتَّفسيرِ، وأمَّا الحَديثُ فيُكتَفى فيه بالتَّقليدِ وتَيَسُّرِ الوُصولِ إلى دَركِه بمُراجَعةِ الكُتُبِ المُرَتَّبةِ المُهَذَّبةِ. ومَعرِفةُ الأصولِ لا بُدَّ منه، وفِقهُ النَّفسِ هو الدُّستورُ، والفِقهُ لا بُدَّ منه، فهو المُستَنَدُ، ولَكِن لا يُشتَرَطُ أن تَكونَ جَميعُ الأحكامِ على ذِهنِه في حالةٍ واحِدةٍ، ولَكِن إذا تَمَكَّنَ مِن دَركِه فهو كافٍ) [565] ((البرهان)) (2/ 1332- 1333). ويُنظَر أيضًا: ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (2/ 330). .
ويَحرُمُ التَّصَدُّرُ للإفتاءِ لمَن ليسَ أهلًا للفتوى.
عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ اللَّهَ لا يَقبِضُ العِلمَ انتِزاعًا يَنتَزِعُه مِن صُدورِ الرِّجالِ، ولَكِن يَقبِضُ العِلمَ بقَبضِ العُلَماءِ، فإذا لم يَبقَ عالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَساءَ جُهَّالًا، فسُئِلوا فأفتَوا بغَيرِ عِلمٍ، فضَلُّوا وأضَلُّوا)) [566] أخرجه البخاري (100)، ومسلم (2673) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُ البخاريِّ: عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إنَّ اللَّهَ لا يَقبِضُ العِلمَ انتِزاعًا يَنتَزِعُه مِنَ العِبادِ، ولَكِن يَقبِضُ العِلمَ بقَبضِ العُلَماءِ، حتَّى إذا لَم يُبقِ عالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالًا، فسُئِلوا فأفتَوا بغَيرِ عِلمٍ، فضَلُّوا وأضَلُّوا)). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (مَن أفتى النَّاسَ وليس بأهلٍ للفتوى فهو آثِمٌ عاصٍ، ومَن أقَرَّه مِن وُلاةِ الأمورِ على ذلك فهو آثِمٌ أيضًا) [567] ((إعلام الموقعين)) (5/ 103). .
4- العَدالةُ في الأقوالِ والأفعالِ:
وذلك بأن يَكونَ مُستَقيمًا في أحوالِه، مُحافِظًا على مُروءَتِه، صادِقًا فيها بقَولِه، مَوثوقًا به [568] يُنظَر: ((قواعد الفقه)) للبركتي (ص: 566). ، وهو شَرطٌ بالإجماعِ كما نَقَل ذلك الخَطيبُ البَغداديُّ [569] قال: (... يَكونُ عَدلًا ثِقةً؛ لأنَّ عُلَماءَ المُسلِمينَ لَم يَختَلِفوا في أنَّ الفاسِقَ غَيرُ مَقبولِ الفتوى في أحكامِ الدِّينِ، وإن كان بَصيرًا بها، وسَواءٌ كان حُرًّا أو عبدًا). ((الفقيه والمتفقه)) (2/ 330). ، وابنُ حمدانَ [570] قال: (أمَّا اشتِراطُ إسلامِه وتَكليفِه وعَدالتِه فبالإجماعِ؛ لأنَّه يُخبِرُ عنِ اللهِ تعالى بحُكمِه، فاعتُبِرَ إسلامُه وتَكليفُه وعَدالتُه). ((صفة المفتي والمستفتي)) (ص: 147). .
فمِن شُروطِ المُفتي: (أن يَستَكمِلَ أوصافَ العَدالةِ في الدِّينِ حتَّى يَثِقَ بنَفسِه في التِزامِ حُقوقِه، ويُوثَقَ به في القيامِ بشُروطٍ) [571] ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/ 353). . و(لأنَّ الفاسِقَ وإن أدرَكَ فلا يَصلُحُ قَولُه للاعتِمادِ، كقَولِ الصَّبيِّ) [572] ((البرهان)) للجويني (2/ 1333). .
5- أن يَكونَ مِن أهلِ الاجتِهادِ [573] يُنظَر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/ 353). :
مُستَكمِلًا لأدَواتِه، عارِفًا بما يَحتاجُ إليه في استِنباطِ الأحكامِ وتَفسيرِ الآياتِ الوارِدةِ في الأحكامِ [574] يُنظَر: ((الورقات)) للجويني (ص: 29). .
قال الماوَرديُّ: (والمُعتَبَرُ في المُفتي... الشَّرطُ الثَّاني: أن يَكونَ مِن أهلِ الاجتِهادِ في النَّوازِلِ والأحكامِ) [575] ((الحاوي الكبير)) (16/ 50). . وهذا الشَّرطُ استَقَرَّ عليه عَمَلُ الأصوليِّينَ؛ قال ابنُ الهُمامِ: (قدِ استَقَرَّ رَأيُ الأصوليِّينَ على أنَّ المُفتيَ هو المُجتَهِدُ، وأمَّا غَيرُ المُجتَهِدِ مِمَّن يَحفظُ أقوالَ المُجتَهِدِ فليس بمُفتٍ) [576] ((فتح القدير)) (7/ 256). . ونَقَلَ البَزدَويُّ [577] قال: (أجمَعَ الفُقَهاءُ والعُلَماءُ أنَّ المُفتيَ يَجِبُ أن يَكونُ مِن أهلِ الاجتِهادِ؛ فإنَّه لا يَقدِرُ أن يُفتيَ النَّاسَ إذا لَم يَكُنْ مِن أهلِ الاجتِهادِ؛ فإنَّه يَحتاجُ إلى الاجتِهادِ لا مَحالةَ، وإن لَم يَكُنْ مِن أهلِ الاجتِهادِ لا يَحِلُّ له أن يُفتيَ إلَّا بطَريقِ الحِكايةِ، فيَحكي ما يَحفَظُ مِن أقوالِ الفُقَهاءِ، ولا يَحِلُّ لَه أن يُفتيَ فيما لا يَحفَظُ فيه قَولًا مِن أقوالِ المُتَقدِّمينَ). نَقَلَه عنه العَينيُّ في ((البناية شرح الهداية)) (9/ 5). ، وابنُ الشِّحنةِ [578] قال: (أجمَعَ الفُقَهاءُ أنَّ المُفتيَ يَجِبُ أن يَكونَ مِن أهلِ الاجتِهادِ). ((لسان الحكام)) (ص: 218). الإجماعَ على ذلك.
6- مُراعاةُ أحوالِ النَّاسِ وعَوائِدِهم:
يَنبَغي على المُفتي أن يُراعيَ أحوالَ النَّاسِ، وأن يَكونَ عارِفًا بالأعرافِ والعَوائِدِ، وألَّا يَجمُدَ على حُكمٍ واحِدٍ على الرَّغمِ مِن تَغَيُّرِ العَوائِدِ واختِلافِ الأعرافِ؛ فـ (إجراءُ الأحكامِ التي مُدرَكُها العَوائِدُ مَعَ تَغَيُّرِ تلك العَوائِدِ خِلافُ الإجماعِ، وجَهالةٌ في الدِّينِ، بَل كُلُّ ما هو في الشَّريعةِ يَتبَعُ العَوائِدَ يَتَغَيَّرُ الحُكمُ فيه عِندَ تَغَيُّرِ العادةِ إلى ما تَقتَضيه العادةُ المُتَجَدِّدةُ) [579] ((الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام)) (ص: 218). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (ومَن أفتى النَّاسَ بمُجَرَّدِ المَنقولِ في الكُتُبِ على اختِلافِ عُرفِهم وعَوائِدِهم وأزمِنَتِهم وأمكِنَتِهم وأحوالِهم وقَرائِنِ أحوالِهم، فقد ضَلَّ وأضَلَّ، وكانت جِنايَتُه على الدِّينِ أعظَمَ مِن جِنايةِ مَن طَبَّبَ النَّاسَ كُلَّهم على اختِلافِ بلادِهم وعَوائِدِهم وأزمِنَتِهم وطَبائِعِهم بما في كِتابٍ مِن كُتُبِ الطِّبِّ على أبدانِهم، بَل هذا الطَّبيبُ الجاهلُ وهذا المُفتي الجاهِلُ أضَرُّ ما على أديانِ النَّاسِ وأبدانِهم) [580] ((إعلام الموقعين)) (3/ 549). .
وقال الخَطيبُ البَغداديُّ: (الفقيهُ يَحتاجُ أن يَتَعَلَّقَ بطَرَفٍ مِن مَعرِفةِ كُلِّ شَيءٍ مِن أمورِ الدُّنيا والآخِرةِ، وإلى مَعرِفةِ الجِدِّ والهَزلِ، والخِلافِ والضِّدِّ، والنَّفعِ والضُّرِّ، وأمورِ النَّاسِ الجاريةِ بَينَهم، والعاداتِ المَعروفةِ مِنهم؛ فمِن شَرطِ المُفتي النَّظَرُ في جَميعِ ما ذَكَرناه...) [581] ((الفقيه والمتفقه)) (2/ 334). .
حُكمُ فتوى المُقَلِّدِ:
المُختارُ أنَّه لا يَجوزُ للمُقَلِّدِ الإفتاءُ إلَّا عِندَ الحاجةِ، وعَدَمِ وُجودِ العالمِ المُجتَهِدِ.
وهو مَذهَبُ بَعضِ الحَنابِلةِ، ومِنهمُ ابنُ القَيِّمِ، وقال: (وعليه العَمَلُ) [582] ((إعلام الموقعين)) (1/ 96). ، والمَرداويُّ [583] يُنظَر: ((الإنصاف)) (28/ 302). ، وبَعضُ الشَّافِعيَّةِ، ومِنهمُ ابنُ حَجَرٍ الهَيتميُّ [584] يُنظَر: ((الفتاوى الفقهية الكبرى)) لابن حجر الهيتمي (4/ 303). .
وذلك لأنَّه إذا حَدَثَت حادِثةٌ للإنسانِ، وفُقِدَ العالمُ المُجتَهِدُ، ولم يوجَدْ إلَّا فتوى المُقَلِّدِ؛ فالعَمَلُ بها أَولى مِنَ التَّوقُّفِ أوِ العَمَلِ بالتَّشَهِّي وما تَهوى الأنفُسُ؛ لأنَّ التَّوقُّفَ يُؤَدِّي إلى تَعطيلِ الأحكامِ [585] يُنظَر: ((التقليد والفتوى)) للبصيري (ص: 238). ويُنظَر أيضًا: ((الفتاوى الفقهية الكبرى)) لابن حجر الهيتمي (4/ 303). .
وأيضًا فإنَّ ما يُجيبُ به المُقَلِّدُ مِن حُكمٍ فهو إخبارٌ عن مَذهَبِ إمامِه لا فُتيا، ويعمَلُ بخَبَرِه إن كان عَدلًا؛ لأنَّه ناقِلٌ كالرَّاوي [586] يُنظَر: ((حكم التقليد)) لحمد بن معمر (ص: 52). .
وقيلَ: لا يَجوزُ الفتوى بالتَّقليدِ مطلقًا، والتَّقليدُ ليسَ بعِلمٍ، والمُقَلِّدُ لا يُطلَقُ عليه اسمُ عالِمٍ [587] يُنظَر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/ 95). .
وهذا قَولُ أكثَرِ الحَنابِلةِ [588] يُنظَر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/ 95). ، واختارَه مِنَ الشَّافِعيَّةِ أبو عَبدِ اللَّهِ الحَليميُّ، وأبو مُحَمَّدٍ الجُوَينيُّ، وأبو المَحاسِنِ الرُّويانيُّ [589] يُنظَر: ((المجموع)) للنووي (1/ 45). .
وقيلَ: يَجوزُ فيما يَتَعَلَّقُ بنَفسِه، فيَجوزُ له أن يُقَلِّدَ غَيرَه مِنَ العُلَماءِ إذا كانتِ الفتوى لنَفسِه، ولا يَجوزُ أن يُقَلِّدَ العالِمَ فيما يُفتي به غَيرَه؛ قال ابنُ القَيِّمِ: (وهذا قَولُ ابنِ بَطَّةَ وغَيرِه مِن أصحابِنا) [590] ((إعلام الموقعين)) (1/ 96). .

انظر أيضا: