موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الثَّالثةُ: النِّسيانُ والسَّهوُ والغَفلةُ


النِّسيانُ والسَّهوُ والغَفلةُ مُصطَلَحاتٌ مُتَقارِبةٌ في المَعنى [688] يُنظر: ((تيسير التحرير)) لبادشاه (2/263)، ((حاشية ابن عابدين)) (1/614)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 302). . ومِمَّا ذُكرَ في تَعريفِ كُلٍّ مِنها:
النِّسيانُ: ضِدُّ الذُّكرِ والحِفظِ [689] يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 310)، ((لسان العرب)) لابن منظور (15/322). . وهو: مَعنًى يَعتَري الإنسانَ بدونِ اختيارِه، فيوجِبُ الغَفلةَ عنِ الحِفظِ [690] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/276). . وحَقيقةُ النِّسيانِ عَدَمُ استِحضارِ الشَّيءِ وقتَ حاجَتِه [691] يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/291). ويُنظر أيضا: ((الشامل)) لعبدالكريم النملة (1/214). .
أمَّا السَّهوُ: فهو أخَفُّ مِنَ النِّسيانِ؛ لأنَّ النِّسيانَ هو: زَوالُ الصُّورةِ عنِ المُدرِكةِ والحافِظةِ مَعًا، فيَحتاجُ حينَئِذٍ إلى سَبَبٍ جَديدٍ بخِلافِ السَّهوِ؛ فإنَّه زَوالُ الصُّورةِ عنِ المُدرِكةِ مَعَ بَقائِها في الحافِظةِ، فيَتَنَبَّهُ بأدنى تَنَبُّهٍ [692] يُنظر: ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (2/ 177)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (2/ 263)، ((غمز عيون البصائر)) للحموي (3/ 289). . وقيلَ: النِّسيانُ عَدَمُ ذِكرِ ما كان مَذكورًا، والسَّهوُ غَفلةٌ عَمَّا كان مَذكورًا، وما لَم يَكُنْ مَذكورًا [693] يُنظر: ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (2/ 263)، ((غمز عيون البصائر)) للحموي (3/ 289). .
والغَفلةُ: سَهوٌ يَعتَري الإنسانَ مِن قِلَّةِ التَّحَفُّظِ والتَّيَقُّظِ، أو فَقدُ الشُّعورِ بما يَنبَغي أن يَشعُرَ به، يُقالُ: غَفلَ فهو غافِلٌ [694] يُنظر: ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 609). .
والغَفلةُ: قَريبةٌ مِنَ السَّهوِ؛ يُقالُ: سَها الرَّجُلُ في صَلاتِه: إذا غَفلَ عن شيءٍ مِنها [695] يُنظر: ((العين)) للخليل (4/ 71)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (6/ 194). ، وقيلَ: الغَفلةُ عنِ الشَّيءِ: هي ألَّا يَخطُرَ ذلك ببالِه [696] يُنظر: ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 162). .
وقد اختُلِف في تَكليفِ الغافِلِ والنَّاسي والسَّاهي، والرَّاجِحُ أنَّهم غيرُ مُكلَّفينَ في حالةِ الغَفلةِ والنِّسيانِ والسَّهوِ. وهو مَذهَبُ جُمهورِ العُلَماءِ [697] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) للباقلاني (1/ 241- 242)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/ 117). . ومِمَّن ذَهَبَ إليه: الباقِلَّانيُّ [698] ((التقريب والإرشاد)) (1/ 241- 243). ، وأبو المُظَفَّرِ السَّمعانيُّ [699] ((قواطع الأدلة)) (1/ 117). ، والزَّركَشيُّ [700] ((البحر المحيط)) (2/ 64). .
الأدِلَّةُ:
1- عمومُ قَولِ اللهِ تعالى: لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا ‌إِلَّا ‌وُسۡعَهَاۚ [البقرة: 286] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ التَّكليفَ حالَ النِّسيانِ ونَحوِه تَكليفٌ بأمرِ خارِجٍ عن قُدرةِ الإنسانِ، والتَّكليفُ في الشَّرعِ مَشروطٌ بالقُدرةِ على العِلمِ والعَمَلِ [701] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (21/ 634). .
2- عن عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((لمَّا نَزَلَت هذه الآيةُ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البَقَرة: 284] ، قال: دَخَلَ قُلوبَهم مِنها شيءٌ لَم يَدخُلْ قُلوبَهم مِن شيءٍ! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قولوا: سَمِعْنا وأطَعْنا وسَلَّمْنا، قال: فألقى اللهُ الإيمانَ في قُلوبِهم، فأنزَلَ اللهُ تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا قال: قَد فعَلتُ. رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا قال: قَد فعَلتُ. وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا قال: قَد فعَلتُ)) [702] أخرجه مسلم (126). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّه نَصٌّ صَريحٌ في ارتِفاعِ المُؤاخَذةِ عنِ النَّاسي، وفي ذلك دَليلٌ على ارتِفاعِ التَّكليفِ عنه في هذه الحالِ؛ لأنَّ ارتِفاعَ المُؤاخَذةِ أثَرٌ مِن آثارِ ارتِفاعِ التَّكليفِ [703] يُنظر: ((أصول الفقه على منهج أهل السنة)) للسعيدان (1/381). .
3- عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مِن نَسِيَ صَلاةً فليُصَلِّ إذا ذَكرَها، لا كفَّارةَ لَها إلَّا ذلك)) [704] أخرجه البخاري (597) واللفظ له، ومسلم (684).
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الإنسانَ ليس بمُكلَّفٍ بأداءِ الصَّلاةِ حالَ نِسيانِه لَها حَتَّى وإنِ استَمَرَّ نِسيانُه إلى خُروجِ وقتِها؛ مِمَّا يَدُلُّ على أنَّ النِّسيانَ رافِعٌ للتَّكليفِ [705] يُنظر: ((أصول الفقه على منهج أهل السنة)) للسعيدان (1/382). .
4- عُلِّلَ عَدَمُ تَكليفِهم (لعَدَمِ فَهمِهم للخِطابِ، كالصَّبيِّ والمَجنونِ بجامِعِ عَدَمِ الفَهمِ، وإنِ افتَرَقوا في بَعضِ الأحكامِ) [706] ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/ 188). .
أي: أنَّهم قَد فقَدوا شَرطَ التَّكليفِ، وهو: الفهمُ؛ فالغافِلُ في حالةِ غَفلَتِه، والنَّاسي في حالةِ نِسيانِه، والسَّاهي في حالةِ سَهوِه، لا يُدرِكونَ مَعنى الخِطابِ، فكيف يُخاطَبونَ ويُقالُ للواحِدِ مِنهم "افهَمْ"، مَعَ أنَّ الفهمَ مُنعَدِمٌ وهم في حالَتِهم تلك؟ فلَو كُلِّفوا الامتِثالَ وهم لا يَفهَمونَ الخِطابَ، لَكان تَكليفًا بالمُحالِ [707] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (2/ 64). ويُنظر أيضا: ((التقريب والإرشاد)) للباقلاني (1/ 243). .
وقيلَ: الغافِلُ، والنَّاسي، والسَّاهي مُكلَّفونَ. وذَهَبَ إلى ذلك بَعضُ الأُصوليِّينَ، وذَكر الباقِلَّانيُّ أنَّ القائِلينَ بهذا القَولِ (شُذوذٌ مِنَ الفُقَهاءِ) [708] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) (1/ 242). . وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [709] يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 188)، و((شف الأسرار)) للبخاري (4/276)، ((التوضيح لمتن التنقيح)) لصدر الشريعة (2/353)، ((التحرير)) لابن الهمام (ص273)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (2/263). ، وأحدُ القَولَينِ للأشعَريِّ [710] يُنظر: ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (1/358). ، وحكاه ابنُ عَقيلٍ عن جماعةٍ مِنَ الفُقَهاءِ [711] يُنظر: ((الواضح)) لابن عقيل (1/70). قال ابنُ العَرَبيِّ: (لا يُظَنُّ بمَن جَوَّزَ ذلك مِن عُلَمائِنا التِزامُ مَعرِفةِ الأوامِرِ والتَّكليفاتِ مَعَ قيامِ هذه المَوانِعِ، وإنَّما يُتَصَوَّرُ الخِلافُ بينَهم إذا ارتَفعَتِ المَوانِعُ، وقد ذَهَبَت عِباداتٌ مُؤَقَّتةٌ أو وقَعَت أسبابٌ فائِتةٌ؛ فمِنهم مَن ألزَمَ الأحكامَ كُلَّها بَعدَ الزَّوالِ لهذه المَوانِعِ، ومِنهم مَن رَدَّها، ومِنهم مَن قَسَّمَ الحالَ وفرَّقَ الأحكامَ بحَسَبِ النَّوازِلِ على ما انتَهى إليه اجتِهادُ كُلِّ فريقٍ في طَلَبِ الأدِلَّةِ، وتَتَبُّعِ مَدارِكِ الأحكامِ). ((المحصول)) (ص: 26). وقال ابنُ حَجَرٍ: (وإنَّما قال الفُقَهاءُ بتَكليفِه [أيِ: الغافِلِ، كالنَّائِمِ والنَّاسي] على مَعنى ثُبوتِ الفِعلِ في ذِمَّتِه، أو مِن جِهةِ رَبطِ الأحكامِ بالأسبابِ). ((فتح الباري)) (12/312). .
دَليلُهم: استَدَلُّوا بأنَّ حَقيقةَ العِلمِ ليست بشَرطٍ لتوجُّهِ الخِطابِ، وسَبَبُ العِلمِ كافٍ عِندَنا، وهو مَوجودٌ في حَقِّ النَّاسي والخاطِئِ؛ لأنَّ لَهما قُدرةً على حِفظِ النَّفسِ عنِ الوُقوعِ في الفِعلِ ناسيًا وخاطِئًا في الجُملةِ، لَكِنَّ فيه نَوعَ حَرَجٍ، فيَكونُ فِعلُ النَّاسي والخاطِئِ جائِزَ المُؤاخَذةِ لنَوعِ تَقصيرٍ مِنهما، إلَّا أنَّ اللَّهَ تعالى رَفع المُؤاخَذةَ عنهما ببَرَكةِ دُعاءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ دَفعًا للحَرَجِ عنهما مَعَ جَوازِ المُؤاخَذةِ عَقلًا. والدَّليلُ عليه قَولُ اللهِ تعالى: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا ‌إِنْ ‌نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286] [712] يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 188). .
القَولُ الرَّاجِحُ:
يُمكِنُ الجَمعُ بينَ القَولينِ مِن وَجهَينِ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أن يُحمَلَ قَولُ مَن قال: (ليس بمُكلَّفٍ حالَ نِسيانِه) على أنَّه لا إثمَ عليه في تلك الحالِ في فِعلٍ أو تَركٍ، وأنَّ الخِطابَ لَم يَتَوجَّهْ إليه، وما ثَبَتَ لَه مِنَ الأحكامِ المُعَلَّقةِ به فبدَليلٍ خارِجٍ. ويُحمَلُ قَولُ مَن قال: (هو مُكَلَّفٌ) على أنَّ الخِطابَ تَوجَّه إليه وتَناوَلَه، وتَأخَّر الفِعلُ إلى حالِ ذِكرِه، وامتَنَعَ تَأثيمُه لعَدَمِ تَركِ قَصدِه لهذا [713] يُنظر: ((القواعد)) لابن اللحام (ص: 52). .
قال ابنُ بَرْهانَ: (المُرادُ بالخِطابِ عِندَ الفُقَهاءِ: ثُبوتُ الفِعلِ في الذِّمَّةِ، ولمَّا لَم يَتَصَوَّرِ المُتَكلِّمونَ هذا مَنَعوه) [714] نقله الزركشي في ((البحر المحيط)) (2/66). .
وبهذا الوَجهِ مِنَ الجَمعِ بينَ القَولينِ نَخلُصُ إلى أنَّ القَولينِ مُتَّفِقانِ على أنَّه لا إثمَ عليه، ولا يُؤاخَذُ بما فعَلَه حالَ غَفلَتِه، ومِن هنا يَتَّضِحُ لَنا تَوجيهُ قَولِ مَن نَقَلَ الاتِّفاقَ على عَدَمِ تَكليفِه؛ فقَد نَقَلَ بَعضُ العُلَماءِ الاتِّفاقَ على عَدَمِ تَكليفِه، فنَقَلَ القاضي عِياضٌ الاتِّفاقَ على عَدَمِ تَكليفِ النَّاسي والسَّاهي، فقال في مَعرِضِ ذِكرِ أقوالِ العُلَماءِ في مَعنى قَولِ اللهِ تعالى: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ ‌لَهُ ‌عَزْمًا [طه: 115] : فإذا كان ناسيًا لَم تَكُنْ مَعصيةً، وكذلك إن كان مُلَبَّسًا عليه غالطًا؛ إذِ الاتِّفاقُ على خُروجِ النَّاسي والسَّاهي عن حُكمِ التَّكليفِ [715] ((الشفا)) (2/162). .
ونقل الآمِديُّ [716] قال في ((الإحكام)) (1/154): (وأمَّا الخاطئُ فغيرُ مُكَلَّفٍ إجماعًا فيما هو مُخطِئٌ). - وتَبِعَه ابنُ الحاجِبِ [717] قال في ((منتهى الوصول والأمل)) (ص: 32): (المُخطِئُ غيرُ مُكَلَّفٍ باتِّفاقٍ). - الإجماعَ على عدمِ تكليفِ المُخطئِ.
والمُرادُ: الاتِّفاقُ على عَدَمِ المُؤاخَذةِ بما فعَلَه حالَ نِسيانِه وسَهوِه. وهذا ما نَبَّهَ عليه الشَّاطِبيُّ بقَولِه: (الخَطَأُ والنِّسيانُ مُتَّفَقٌ على عَدَمِ المُؤاخَذةِ به، فكُلُّ فِعلٍ صَدَرَ عن غافِلٍ أو ناسٍ أو مُخطِئٍ؛ فهو مِمَّا عُفيَ عنه، وسَواءٌ علينا أفرَضْنا تلك الأفعالَ مَأمورًا بها أو مَنهيًّا عنها أم لا؛ لأنَّها إن لَم تَكُنْ مَنهيًّا عنها ولا مَأمورًا بها ولا مُخيَّرًا فيها؛ فقَد رَجَعَت إلى قِسمٍ ما لا حُكمَ لَه في الشَّرعِ، وهو مَعنى العَفوِ، وإن تَعَلَّقَ بها الأمرُ والنَّهيُ؛ فمِن شَرطِ المُؤاخَذةِ به ذِكرُ الأمرِ والنَّهيِ، والقُدرةُ على الامتِثالِ، وذلك في المُخطِئِ والنَّاسي والغافِلِ مُحالٌ، ومِثلُ ذلك النَّائِمُ والمَجنونُ والحائِضُ، وأشباهُ ذلك) [718] ((الموافقات)) (1/259). .
الوَجهُ الثَّاني: التَّفصيلُ في أحكامِ الغافِلِ، كما ذَكرَه الأبياريُّ؛ حيثُ قال: (وأمَّا الواقِعُ مِنَ التَّكليفِ في حَقِّ النَّاسي والغافِلِ، ففي الشَّرعِ انقِسامٌ في أحوالِهما:
فرُبَّ مَوضِعٍ يَسقُطُ عنهما فيه التَّكليفُ والمُؤاخَذاتُ، وهذا بمَثابةِ ما إذا أفطَرَ في رَمَضانَ ناسيًا، أو تَكلَّمَ في الصَّلاةِ ساهيًا، أو كان نَذَرَ صَلاةً أو صَومًا فنَسيَه؛ فإنَّه لا مُؤاخَذةَ عليهما في هذه الجِهاتِ بإجماعٍ مِنَ العُلَماءِ.
وأمَّا المَواضِعُ التي تَثبُتُ فيها المُؤاخَذاتُ فهي المَواضِعُ التي لا يَكونُ فيها امتِلاءُ القَلبِ بحُبِّ المَعصيةِ، فيَمنَعُه مِن فَهمِ حُكمِها، كمَن رَأى امرَأةً جَميلةً، وهو يَعلَمُ تَحريمَ النَّظَرِ، فنَظَرَ إليها غافِلًا عن تَحريمِ النَّظَرِ؛ فإنَّ ذلك لا يُسقِطُ التَّكليفَ عنه، ولا يوجِبُ العَفوَ عن هذه الجَريمةِ. وكذلك في الغِيبةِ، والنَّميمةِ، والكِبرِ، والحَسَدِ، والرِّياءِ، والكذِبِ، وغيرِه مِن مُحَرَّماتِ الشَّريعةِ؛ فإنَّ نِسيانَ الأحكامِ بسَبَبِ قوَّةِ الشَّهوةِ لا يُسقِطُ التَّكليفَ.
وقد حَكمَ العُلَماءُ أجمَعونَ بصِحَّةِ صَومِ النَّائِمِ، وإن كان لا يَفهَمُ ذلك الوقتَ؛ فإنَّما يَكونُ صَومُه طاعةً على شَرطِ كونِه مَأمورًا به، وكذلك صَلاةُ الغافِلِ مَقطوعٌ بكونِها قُربةً) [719] ((التحقيق والبيان)) (1/355). .
ويُنَبَّهُ هنا إلى أنَّ ما ذَكَرَه بَعضُ الأُصوليِّينَ بأنَّه مُكَلَّفٌ نَظَرًا للُزومِ الغَراماتِ وأُروشِ الجِناياتِ لا يُنافيه القَولُ بأنَّه غيرُ مُكَلَّفٍ حالةَ الغَفلةِ والنِّسيانِ والسَّهوِ؛ فإنَّه مِن قَبيلِ خِطابِ الوَضعِ لا الخِطابِ التَّكليفيِّ، كما تَقَدَّمَ بيانُ ذلك في مَسألةِ الجُنونِ [720] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (2/ 65). .

انظر أيضا: