موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الثَّانيةُ: الفَرقُ بينَ السَّبَبِ والعِلَّةِ والحِكمةِ


أوَّلًا: الفَرقُ بينَ السَّبَبِ والعِلَّةِ
يُفرَّقُ بينَ السَّبَبِ والعِلَّةِ مِن عِدَّةِ أوجُهٍ؛ مِنها [889] قال السُّبكيُّ: (اعلَمْ أنَّ الأُصوليِّينَ لَم يَعتَنوا بتَحقيقِ الفَرقِ بينَ العِلَّةِ والسَّبَبِ، ورُبَّما وقَعَ في كلامِهم أنَّهما سَواءٌ؛ لأنَّ مَقصَدَهمُ الوصفُ الذي تَرَتَّب بَعدَه الحُكمُ، ولَه مَدخَلٌ فيه، وليس ذلك إنكارًا مِنهم للفَرقِ، بَل لمَّا لَم يَحتاجوا إليه لَم يَذكُروه، وهو واقِعٌ لا مَحالةَ). ((الأشباه والنظائر)) (2/24). وقال عَبدُ الوهَّابِ خَلَّاف: (ومِمَّا يَنبَغي التَّنبيهُ لَه: أنَّ بَعضَ الأُصوليِّينَ جَعَلَ العِلَّةَ والسَّبَبَ مُتَرادِفَينِ ومَعناهما واحِدًا، ولَكِنَّ أكثَرَهم على غيرِ هذا). ((علم أصول الفقه)) (ص: 67). :
1- أنَّ السَّبَبَ ما يُتَوصَّلُ به إلى الحُكمِ مِن غيرِ أن يَثبُتَ به، كالحَبلِ الذي يُتَوصَّلُ به إلى الماءِ، وإن كان الوُصولُ حَقيقةً بالاستِقاءِ، وكذلك الطَّريقُ يُتَوصَّلُ به إلى المَقصِدِ، وإن كان الوُصولُ يَحصُلُ بالمَشيِ لا بالطَّريقِ، وهذا بخِلافِ العِلَّةِ؛ فهي اسمٌ لِما يَثبُتُ به الحُكمُ، كالمَشيِ والاستِقاءِ؛ فهُما عِلَّةٌ للوُصولِ، ذَكرَه عَلاءُ الدِّينِ السَّمَرقَنديُّ [890] يُنظر: ((ميزان الأصول)) (1/610). .
2- أنَّ السَّبَبَ هو ما وُضِعَ شَرعًا لحِكَمٍ يَقتَضيها ذلك الحُكمُ، بينَما العِلَّةُ هي الحِكَمُ والمَصالحُ التي تَعَلَّقَت بها الأوامِرُ، فكأنَّ العِلَّةَ والحِكمةَ شيءٌ واحِدٌ؛ فالسَّفَرُ مَثَلًا هو السَّبَبُ في قَصرِ الصَّلاةِ، والفِطرِ في رَمَضانَ، والعِلَّةُ هي دَفعُ المَشَقَّةِ التي هي الحِكمةُ مِن تَشريعِ هذا الحُكمِ، ذَكرَه الشَّاطِبيُّ [891] يُنظر: ((الموافقات)) (1/410). .
3- أنَّ السَّبَبَ قَد يوجَدُ مَعَ تَراخي الحُكمِ، كالبَيعِ بشَرطِ الخيارِ؛ فهو سَبَبٌ للمِلكِ وليس بعِلَّةٍ، ولَو كان عِلَّةً لَما تَأخَّرَ حُكمُه، ولَكِنَّه سَبَبٌ مُنعَقِدٌ، ويَصيرُ عِلَّةً بارتِفاعِ الخيارِ، فيَكونُ ارتِفاعُ الخيارِ شَرطًا ليَصيرَ عِلَّةً لوُقوعِ المِلكِ، فمَتى وُجِدَ هذا الشَّرطُ انقَلَبَ السَّبَبُ عِلَّةً، ولا يَتَراخى عنه حُكمُه، ذَكرَه السَّمعانيُّ [892] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) (2/277). ويُنظر أيضًا: ((الأشباه والنظائر)) للسبكي (2/24). .
4- فرَّق البَعضُ بالمُناسَبةِ؛ فالوَصفُ المَعرِّفُ للحُكمِ إمَّا أن يَكونَ مُناسِبًا للحُكمِ أو غيرَ مُناسِبٍ لَه؛ فإن كان الوَصفُ مُناسِبًا بأن كان مُشتَمِلًا على مَصلَحةٍ مِن جَلبِ مَنفعةٍ أو دَفعِ مَضَرَّةٍ، بحيثُ يَحصُلُ مِن تَرتيبِ الحُكمِ على وَفقِه ما يَصلُحُ أن يَكونَ مَقصودًا للشَّارِعِ، فإنَّه يُسَمَّى عِلَّةً وسَبَبًا، كالإسكارِ؛ فإنَّه وصفٌ مُناسِبٌ للتَّحريمِ؛ لكونِ تَرتيبِ الحُكمِ عليه يُؤَدِّي إلى مَصلَحةِ حِفظِ العَقلِ، وهي مِن مَقاصِدِ الشَّارِعِ، والسَّفَرُ لقَصرِ الصَّلاةِ الرُّباعيَّةِ عِلَّةٌ وسَبَبٌ.
وإن كان الوَصفُ لا تَظهَرُ فيه مُناسَبةٌ للحُكمِ فإنَّه يُسَمَّى سَبَبًا ولا يُسَمَّى عِلَّةً، كغُروبِ الشَّمسِ الذي هو سَبَبٌ لوُجوبِ صَلاةِ المَغرِبِ؛ فإنَّ العَقلَ لا يُدرِكُ وَجهَ المُناسَبةِ بينَ هذا السَّبَبِ وبينَ تَشريعِ الحُكمِ بوُجوبِ صَلاةِ المَغرِبِ؛ فحينَئِذٍ لا يُسَمَّى عِلَّةً، وإنَّما يُسَمَّى سَبَبًا، وكذلك شُهودُ رَمَضانَ لإيجابِ صَومِه، فكُلٌّ مِنَ العِلَّةِ والسَّبَبِ عَلامةٌ على الحُكمِ، وكُلٌّ مِنهما بُنيَ الحُكمُ عليه ورُبِط به وجودًا وعَدَمًا، وكُلٌّ مِنهما للشَّارِعِ حِكمةٌ في رَبطِ الحُكمِ به وبنائِه عليه. ولَكِن إذا كانتِ المُناسَبةُ في هذا الرَّبطِ مِمَّا تُدرِكُه عُقولُنا سُمِّيَ الوَصفُ: العِلَّةَ، وسُمِّيَ أيضًا: السَّبَبَ، وإن كانت مِمَّا لا تُدرِكُه عُقولُنا سُمِّيَ السَّبَبَ فقَط ولا يُسَمَّى العِلَّةَ، فكُلُّ عِلَّةٍ سَبَبٌ، وليس كُلُّ سَبَبٍ عِلَّةً [893]  يُنظر: ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 67)، ((الوجيز)) لعبدالكريم زيدان (ص:57). .
ثانيًا: الفرقُ بينَ السَّبَبِ والحِكمةِ
1- الحِكمةُ هي المَعنى المُناسِبُ الذي نَشَأ عنه الحُكمُ [894] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/423). ؛ فحُصولُ المَشَقَّةِ في السَّفرِ مَعنًى مُناسِبٌ لتَخفيفِ الصَّلاةِ عنِ المُسافِرِ بقَصرِها، والتَّخفيفِ عنه بالفِطرِ، فكان دَفعُ المَشَقَّةِ هي الحِكمةَ مِن تَشريعِ قَصرِ الصَّلاةِ والفِطرِ للمُسافِرِ، إلَّا أنَّ الحِكمةَ غالبًا غيرُ مُنضَبطةٍ؛ فهي تَختَلفُ باختِلافِ الأشخاصِ والأحوالِ والبيئاتِ، فلَم تَصلُحْ مُعَرِّفةً للحُكمِ الشَّرعيِّ بخِلافِ السَّبَبِ؛ فإنَّه مُنضَبطٌ، ولذلك يَتَرَتَّبُ الحُكمُ على سَبَبِه سَواءٌ وُجِدَت حِكمةٌ أم لا، بدَليلِ القَطعِ بالسَّرِقةِ وإن لَم يَتلَفِ المالُ بأن وُجِدَ مَعَ السَّارِقِ، وحَدِّ الزَّاني وإن لَم يَختَلِطْ نَسَبٌ بَل تَحيضُ ولا يَظهَرُ حَبَلٌ؛ فالحِكمةُ مَرعيَّةٌ في الجُملةِ، والمُعتَبَرُ إنَّما هو الأوصافُ، وهو اختيارُ القَرافيِّ [895] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) (ص:414)، ((الفروق)) (3/121). ، ومَضمونُ عبارةِ الهِنديِّ [896] يُنظر: ((نهاية الوصول)) (8/3331). ، والشَّاطِبيِّ أيضًا، إلَّا أنَّه يَرى أنَّ العِلَّةَ هي الحِكمةُ [897] يُنظر: ((الموافقات)) (1/411). .
2- السَّبَبُ يَتَقَدَّمُ على الحُكمِ، والحِكمةُ مُتَأخِّرةٌ عنِ الحُكمِ، والحُكمُ مُفيدٌ لَها، كالجوعِ سَبَبُ الأكلِ، ومَصلَحةُ رَفعِ الجُوعِ وتَحصيلِ الشِّبَعِ حِكمةٌ لَه [898] ((البحر المحيط)) للزركشي (7/ 148). .
3- الحُكمُ يَتبَعُ السَّبَبَ دونَ حِكمةِ السَّبَبِ، وإنَّما الحِكمةُ ثَمَرةٌ [899] ((المستصفى)) للغزالي (ص: 329). .فالشَّريعةُ وضَعَتِ الحُكمَ بإزاءِ السَّبَبِ ولَم تَضَعْه بإزاءِ الحِكمةِ؛ وذلك لأنَّ السَّبَبَ هو المَظِنَّةُ المُنضَبِطةُ، والحِكمةُ -وهي المَصلَحةُ أوِ المَفسَدةُ- تَختَلفُ مَقاديرُها باختِلافِ الأشخاصِ والأحوالِ [900] ((الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية)) لعابد السفياني (ص: 400). .
4- أنَّ السَّبَبَ ما جُعِلَ مُعَرِّفًا بوُجوبِ الحُكمِ، والحِكمةُ هي مَحَلُّ المَصلَحةِ أوِ المُفسَدةِ التي لأجلِها شُرِع الحُكمُ [901] ((حاشية التوضيح والتصحيح)) لابن عاشور (2/ 188). .

انظر أيضا: