موسوعة أصول الفقه

المَطلبُ الرَّابعُ: إمكانُ الإجماعِ ووُقوعُه


الإجماعُ مُمكِنٌ وجائِزٌ عَقلًا وانعِقادُه مُتَصَوَّرٌ؛ لأنَّه لا يَلزَمُ مِن فرضِ وُقوعِه مُحالٌ لذاتِه ولا لغَيرِه، وهو مَذهَبُ أكثَرِ الأُصوليِّينَ [714] نَسَبَه الآمِديُّ إلى الأكثَرينَ. يُنظر: ((الإحكام)) (1/196). ، ومِمَّن اختارَه السَّمعانيُّ [715] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) (1/461). ، والآمِديُّ [716] يُنظر: ((الإحكام)) (1/196، 197). ، والأبياريُّ [717] يُنظر: ((التحقيق والبيان)) (2/800). ، وغَيرُهم [718] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/7)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (5/2029). .
وأمَّا ما نُقِل عن أحمَدَ بنِ حَنبَلٍ في إنكارِ الإجماعِ كَما رَوى عنه ابنُه عَبدُ اللَّهِ أنَّه قال: (مَنِ ادَّعى الإجماعَ فقد كَذَبَ؛ لعَلَّ النَّاسَ قدِ اختَلفوا، هذه دَعوى بِشرٍ المِرِّيسيِّ والأصَمِّ، ولكِن يَقولُ: لا نَعلمُ، لعَلَّ النَّاسَ اختَلفوا، ولم يَبلُغْه).
قال القاضي أبو يَعلى: (ظاهِرُ هذا الكَلامِ أنَّه قد مَنَعَ صِحَّةَ الإجماعِ، وليسَ ذلك على ظاهرِه، وإنَّما قال هذا على طَريقِ الوَرَعِ، نَحوُ أن يَكونَ هناكَ خِلافٌ لم يَبلُغْه. أو قال هذا في حَقِّ مَن ليسَ له مَعرِفةٌ بخِلافِ السَّلَفِ؛ لأنَّه قد أطلقَ القَولَ بصِحَّةِ الإجماعِ) [719] ((العدة)) (4/1059، 1060). ويُ ((التمهيد)) للكلوذاني (3/247). .
دَليلُه:
الوُقوعُ؛ فمِن المَعلومِ اتِّفاقُ الخَلقِ الكَثيرِ والجَمِّ الغَفيرِ في شَرقِ البلادِ وغَربِها على نُبوَّةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، واتِّفاقُ أهلِ السُّنَّةِ على مُقتَضاها يَدفعُ الاستِحالةَ، ويُؤَكِّدُ الإمكانَ [720] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/134). .
كما اتَّفقَ جَميعُ المُسلمينَ مَعَ خُروجِ عَدَدِهم عن الحَصرِ على: وُجوبِ الصَّلواتِ الخَمسِ، وصَومِ رَمَضانَ، ووُجوبِ الزَّكاةِ والحَجِّ.
وقد وقَعَ الإجماعُ في عَهدِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم كثيرًا، وكان هذا دَيدَنَهم في عَهدِ الشَّيخَينِ؛ فقد كان أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنه إذا ورَدَ عليه الخَصمُ نَظَر في كِتابِ اللهِ، فإن وَجَدَ فيه ما يَقضي بَينَهم قَضى به، وإن لم يَكُنْ في الكِتابِ، وعَلِمَ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ذلك الأمرِ سُنَّةً، قَضى بها، فإن أعياه خَرَجَ فسَأل المُسلمينَ وقال: (أتاني كذا وكَذا، فهَل عَلمتُم أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَضى في ذلك بقَضاءٍ؟) فرُبَّما اجتَمَعَ إليه النَّفرُ كُلُّهم يَذكُرُ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيه قَضاءً. فيَقولُ أبو بَكرٍ: (الحَمدُ للهِ الذي جَعَل فينا مَن يَحفَظُ على نَبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)، فإن أعياه أن يَجِدَ فيه سُنَّةً مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَمَع رُؤوسَ النَّاسِ وخيارَهم فاستَشارَهم، فإذا اجتَمَعَ رَأيُهم على أمرٍ قَضى به [721] أخرجه الدارمي (163) واللفظ له، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (20/327). .
وقد وقَعَ الإجماعُ في عَهدِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم كثيرًا، ومِن ذلك:
1- إجماعُهم على تَنصيبِ أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه خَليفةً بَعدَ مَوتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [722] ((أصول السرخسي)) (1/301). .
2- إجماعُهم على قِتالِ المُرتَدِّينَ؛ حَيثُ خالفوا أبا بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه في بادِئِ الأمرِ، فلمَّا أقامَ كُلٌّ دَليلَه أذعَنوا لقَولِه ونَزَلوا على أمرِه، ولم يُخالِفْه في ذلك أحَدٌ [723] أخرج البخاري (7284، 7285) واللفظ له، ومسلم (20): من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: (لمَّا توُفِّيَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واستُخلِفَ أبو بَكرٍ بَعدَه، وكَفَرَ مَن كَفرَ مِنَ العَرَبِ، قال عُمَرُ لأبي بَكرٍ: كَيف تُقاتِلُ النَّاسَ؟ وقد قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أُمِرتُ أن أُقاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَقولوا: لا إلهَ إلَّا اللهُ، فمَن قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ عَصَمَ مِنِّي مالَه ونَفسَه إلَّا بحَقِّه، وحِسابُه على اللهِ، فقال: واللهِ لأُقاتِلَنَّ مَن فرَّقَ بَينَ الصَّلاةِ والزَّكاةِ، فإنَّ الزَّكاةَ حَقُّ المالِ، واللهِ لو مَنَعوني عِقالًا كانوا يُؤَدُّونَه إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لقاتَلتُهم على مَنعِه، فقال عُمَرُ: فواللهِ ما هو إلَّا أن رَأيتُ اللَّهَ قد شَرَحَ صَدرَ أبي بَكرٍ للقِتالِ، فعَرَفتُ أنَّه الحَقُّ). ، قال ابنُ الرِّفعةِ: (فحينَئِذٍ أجمَعوا مَعَه على قِتالِهم مَعَ مُقامِهم على الإسلامِ) [724] ((كفاية النبيه)) (16/258). .
فهذه الأمثِلةُ وغَيرُها تَدُلُّ على إمكانِ الإجماعِ وتَصَوُّرِ وُقوعِه، فلو كان غَيرَ مُمكِنٍ لما وقَعَ [725] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (1/197)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/8). .

انظر أيضا: