موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الثَّاني: أُصولُ الفِقهِ في عَهدِ التَّابِعينَ


سارَ التَّابِعونَ على هذا المَنهَجِ الذي سارَ عليه الصَّحابةُ، بَل اتَّسَعَ الاستِنباطُ لكَثرةِ الحَوادِثِ وعُكوفِ طائِفةٍ مِنَ التَّابعينَ على الفتوى، بَينَ أيديهم كِتابُ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إضافةً إلى فتاوى الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم. وكَثُرَ الاجتِهادُ، وتَنَوَّعَت طُرُقُه، وتَعَدَّدَت وُجوهُه، فبَعضُهم يَكتَفي بظاهرِ النَّصِّ، وبَعضُهم لا يَكتَفي بذلك، بَل يَغوصُ على المَعاني، فيَرى أنَّ أكثَرَ الأحكامِ مُعَلَّلةٌ، ثُمَّ يَبنونَ على هذه العِلَلِ الأحكامَ وُجودًا وعَدَمًا [169] يُنظر: ((المهذب)) لعبدالكريم النملة (1/ 57). . فالتَّفريعاتُ التي كان يُفرِّعُها إبراهيمُ النَّخعيُّ وغَيرُه مِن فُقَهاءِ العِراقِ كانت تَتَّجِهُ إلى استِخراجِ عِلَلِ الأقيِسةِ وضَبطِها والتَّفريعِ عليها بتَطبيقِ تلك العِلَلِ على الفُروعِ المُختَلِفةِ، ومِنهم مَن كان يَنهَجُ مِنهاجَ المَصلَحةِ إن لَم يَكُنْ نَصٌّ، فاتَّضَحَتِ المَناهجُ أكثَرَ مِن ذي قَبلُ؛ فكُلَّما اختَلَفتِ المَدارِسُ الفِقهيَّةُ كان الاختِلافُ سَبَبًا في أن تَتَمَيَّزَ مَناهجُ الاستِنباطِ في كُلِّ مَدرَسةٍ [170] يُنظر: ((أصول الفقه)) لأبي زهرة (ص: 11- 12). .
ومِنَ الأمثِلةِ على اجتِهاداتِ التَّابعينَ رَضيَ اللهُ عنهم، وتَعليلاتِهم في الاستِنباطِ: قَولُ إبراهيمَ النَّخعيِّ رَضيَ اللهُ عنه: (ما كُلُّ شَيءٍ نُسألُ عنه نَحفَظُه، ولَكِنَّا نَعرِفُ الشَّيءَ بالشَّيءِ، ونَقيسُ الشَّيءَ بالشَّيءِ). وفي رِوايةٍ أُخرى: قيلَ له: أكُلُّ ما تُفتي به النَّاسَ سَمِعتَه؟ قال: (لا، ولَكِنْ بَعضَه سَمِعتُ، وقِستُ ما لَم أسمَعْ على ما سَمِعتُ) [171] يُنظر: ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (2/872). .
والمَقصودُ أنَّه كما كان الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم يَجتَهدونَ في فهمِ نُصوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، والاستِنباطِ، ويَقيسونَ المَسائِلَ بأشباهِها، ولَم يكونوا بحاجةٍ إلى تَدوينِ قَواعِدَ تَضبِطُ استِدلالَهم مَعَ حُضورِ تلك القَواعِدِ في أذهانِ المُجتَهدينَ مِنهم؛ فكَذلك كان الحالُ في عَهدِ كِبارِ التَّابعينَ مَعَ ظُهورِ التَّفاضُلِ بَينَهم في العِلمِ والفتوى. وفي أواخِرِ عَهدِ التَّابعينَ بَدَأتِ المَدارِسُ الفِقهيَّةُ تُظهرُ قَدرًا أكبَرَ مِنَ التَّمايُزِ والاختِلافِ، فبَرَزَ في العِراقِ ما سُمِّيَ بمَدرَسةِ أهلِ الرَّأيِ، وبَرَزَ في المَدينةِ ما عُرِف بمَدرَسةِ أهلِ الحَديثِ. وكان طُلَّابُ الفتوى يَتَرَدَّدونَ بَينَ عُلَماءِ هذا الاتِّجاهِ أو ذاكَ، ورُبَّما سَألَ بَعضُهم في النَّازِلةِ أكثَرَ مِن عالمٍ مِن غَيرِ أن يُنكِرَ هؤلاء أو أولئك على عَوامِّ النَّاسِ سُؤالَهم لمَن يَثِقونَ به، وكان في كُلِّ بَلَدٍ مِن حَواضِرِ الإسلامِ عُلَماءُ يَرجِعُ إليهمُ النَّاسُ في الفُتيا والقَضاءِ، ولهؤلاء العُلَماءِ طُلَّابٌ تَأثَّروا بمَنهَجِهم واقتَفوا آثارَهم، ورُبَّما التَقى العُلَماءُ فتَناظَروا وأدلى كُلٌّ مِنهم بحُجَّتِه، فإمَّا أن يَرجِعَ أحَدُهم إلى قَولِ صاحِبِه أو يَبقى على رَأيِه لقَناعَتِه بصِحَّتِه.
وفي هذه الأثناءِ بَدَأ التَّعَصُّبُ لرَأيِ الشَّيخِ والإعجابُ به يَطغى على الإنصافِ عِندَ بَعضِ الطُّلَّابِ، ولَم تَكُنْ هناكَ قَواعِدُ مُدَوَّنةٌ يُرجَعُ إليها لوزنِ الآراءِ ومَعرِفةِ الرَّاجِحِ مِنها والمَرجوحِ.
وفي هذا الوقتِ كَثُرَ اختِلاطُ العَجَمِ بالعَرَبِ، وكَثُرَت مَسائِلُ وإشكالاتٌ نَتيجةَ اتِّساعِ رُقعةِ الإسلامِ وكَثرةِ الدَّاخِلينَ فيه، وضَعفِ اللِّسانِ العَرَبيِّ، ودَخَلَ الوَضعُ في الحَديثِ لنُصرةِ مَذهَبٍ أو لتَأييدِ رَأيٍ، وتَصَدَّر للرِّوايةِ مَن لَم يَكُنْ أهلًا، وكانتِ الحاجةُ ماسَّةً إلى تَفسيرِ القُرآنِ وإيضاحِه، وإلى تَمييزِ الصَّحيحِ مِنَ السُّنَّةِ عنِ الضَّعيفِ؛ فلذلك كان لا بُدَّ مِن وَضعِ قَواعِدَ تَضبِطُ الاستِدلالَ، وتُبَيِّنُ ما يَصلُحُ دَليلًا وما لا يَصلُحُ، وتُبَيِّنُ عَمَلَ الفقيهِ عِندَ تَعارُضِ الأدِلَّةِ عِندَه، وتُؤَسِّسُ قَواعِدَ الفهمِ لنُصوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ [172] يُنظر: ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 6- 7). ويُنظر أيضًا: ((معجم المؤلفات الأصولية الشافعية)) لترحيب الدوسري ((مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة)) (العدد: ١١٢/ص: 330). .

انظر أيضا: