موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ الخامِسُ: القياسُ في الأسبابِ والشُّروطِ والمَوانِعِ


صورةُ المَسألةِ: أن يَثبُتَ سَبَبٌ أو شَرطٌ لحُكمٍ بالنَّصِّ أو الإجماعِ، فهَل يَجوزُ أن تَتَعَدَّى السَّبَبيَّةُ أو الشَّرطيَّةُ إلى شَيءٍ آخَرَ بمَعنًى جامِعٍ؛ ليَصيرَ ذلك الشَّيءُ سَبَبًا أو شَرطًا لذلك الحُكمِ [1737] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/390). ؟
والمُرادُ بالقياسِ في الأسبابِ: إثباتُ سَبَبيَّةِ وَصفٍ لحُكمٍ؛ قياسًا له على وَصفٍ ثَبَتَت سَبَبيَّتُه لحُكمٍ آخَرَ. فإذا أُضيف حُكمٌ إلى سَبَبٍ، وعُلِمَت فيه عِلَّةُ السَّبَبِ، ثُمَّ وُجِدَت في وصفٍ آخَرَ، فهَل يَجوزُ أن يُنصَبَ سَبَبًا [1738] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/85). ؟
ومِثالُه: قياسُ القَتلِ بالمُثَقَّلِ على القَتلِ بالمُحَدَّدِ في وُجوبِ القِصاصِ؛ بجامِعِ القَتلِ العَمدِ العُدوانِ، ولمَّا كان السَّبَبُ في وُجوبِ القِصاصِ هو القَتلَ بالمُحَدَّدِ، فإنَّه يَكونُ القَتلُ بالمُثقَّلِ سَبَبًا لوُجوبِ القَتلِ [1739] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (4/1942). .
والمُرادُ بالقياسِ في الشُّروطِ: أنَّه إذا وُجِدَ أمرٌ نُصَّ على شَرطِه، ووُجِدَ ما يُشارِكُه في وَجهِ الشَّرطيَّةِ، فيُلحَقُ به على وَجهِ القياسِ؛ ليَكونَ شَرطًا لذلك الأمرِ الآخَرِ المُشارِكِ. ومِثالُه: أنَّ الشَّارِعَ قد اشتَرَطَ لصِحَّةِ الصَّلاةِ الاستِنجاءَ مِن البَولِ والغائِطِ بالماءِ أو الاستِجمارَ بالحَجَرِ، والحَجَرُ إنَّما صَحَّ الاستِجمارُ به بدَلَ الماءِ؛ لكَونِه قالعًا لعينِ النَّجاسةِ، فيُقاسُ عليه كُلُّ جامِدٍ يَتَوفَّرُ فيه هذا الوَصفُ [1740] يُنظر: ((الآيات البينات)) للعبادي (4/8)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (4/1942). .
والمُرادُ بالقياسِ في المَوانِعِ: أنَّ المانِعَ لمَّا كان وُجودُه سَبَبًا لعَدَمِ الحُكمِ، فإنَّه إذا وُجِدَ في شَيءٍ لم يُنَصَّ عليه، فإنَّه يَكونُ سَبَبًا للحُكمِ بعَدَمِ الحُكمِ؛ قياسًا على وُجودِه في الصُّورةِ التي نُصَّ فيها على الحُكمِ. ومِثالُه: أنَّ الشَّارِعَ قد أسقَطَ عن الحائِضِ الصَّلاةَ لوُجودِ الحَيضِ، فيُقاسُ عليه النِّفاسُ في وُجوبِ إسقاطِ الصَّلاةِ عنها؛ بجامِعِ أنَّ كُلًّا مِنهما أذًى وقَذَرٌ يَجِبُ تَنزيهُ المُصَلِّي مِنه [1741] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (4/1942). .
حُكمُ إجراءِ القياسِ في الأسبابِ والشُّروطِ والمَوانِعِ:
يَجري القياسُ في الأسبابِ والشُّروطِ والمَوانِعِ إذا أمكَنَ تَعليلُها. وهو مَنقولٌ عن الشَّافِعيِّ [1742] يُنظر: ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (ص: 309). ، وهو مَذهَبُ بَعضِ الحَنَفيَّةِ [1743] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/390)، ((فواتح الرحموت)) لللكنوي (2/372). ، وأكثَرِ الشَّافِعيَّةِ [1744] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/65)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2264). ، والحَنابِلةِ [1745] يُنظر: ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 399)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/448)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1349)، ((المختصر)) لابن اللحام (ص: 151). ، وحَكاه عَلاءُ الدِّينِ البُخاريُّ عن عامَّةِ الأُصوليِّينَ [1746] يُنظر: ((كشف الأسرار)) (3/390). .
أدِلَّةُ جَوازِ القياسِ في الأسبابِ والشُّروطِ والمَوانِعِ:
استَدَلَّ الأُصوليُّونَ على ذلك بأدِلَّةٍ، أهَمُّها:
1- إجماعُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم على مَشروعيَّةِ القياسِ في الأحكامِ مِن غَيرِ فَرقٍ بَينَ بَعضِها ولا تَفصيلٍ بَينَ الأسبابِ وغَيرِها، وذلك يَقتَضي عُمومَ جَوازِه فيها [1747] يُنظر: ((لباب المحصول)) لابن رشيق (2/672)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/449)، ((فواتح الرحموت)) لللكنوي (2/372). .
2- أنَّ نَصبَ الأسبابِ حُكمٌ شَرعيٌّ، فيُمكِنُ أن تُعقَلَ عِلَّتُه، ويَتَعَدَّى إلى سَبَبٍ آخَرَ، فجازَ القياسُ فيها كسائِرِ الأحكامِ [1748] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/294)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 414). ، وعليه فكَونُ الوَصفِ سَبَبًا أو شَرطًا لحُكمٍ شَرعيٍّ أو مانِعًا مِنه يَجوزُ إثباتُه بالقياسِ إذا ظَهَرَ وَجهُ المُناسَبةِ فيه، كالأحكامِ الشَّرعيَّةِ كُلِّها [1749] يُنظر: ((الوصول إلى الأصول)) لابن برهان (2/256). .
3- أنَّ السَّبَبَ إنَّما يَكونُ سَبَبًا لأجلِ الحِكمةِ التي اشتَمَل عليها، فإذا وُجِدَت في غَيرِه وجَبَ أن يَكونَ سَبَبًا؛ تَكثيرًا لتلك الحِكمةِ [1750] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 414). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:
يَتَخَرَّجُ على هذه المَسألةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، ومِنها:
1- وُجوبُ الحَجِّ على المَرأةِ مَعَ النِّسوةِ الثِّقاتِ:
فقد ذَكَرَ الشَّافِعيُّ أنَّ المَرأةَ يَلزَمُها الحَجُّ إذا وجَدَت نِسوةً ثِقاتٍ يَقَعُ الأمنُ بمِثلِهنَّ؛ إلحاقًا لهنَّ بالمَحرَمِ والزَّوجِ؛ فقاسَ أحَدَ سَبَبَيِ الأمنِ على الثَّاني [1751] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/86). .
2- قياسُ اللِّواطِ على الزِّنا:
فالزِّنا إنَّما أوجَبَ الحَدَّ للوَصفِ المُشتَرَكِ بَينَهما، وهو إيلاجُ فَرجٍ في فَرجٍ مُحرَّمٍ شَرعًا، وهو حاصِلٌ في اللِّواطِ، فتعَدَّى المُوجِبيَّةَ مِن الزِّنا إلى اللِّواطِ؛ لأنَّ الزِّنا إنَّما صارَ موجِبًا وعِلَّةً لكَونِه مُعَرِّفًا للحِكمةِ الموجِبةِ للحَدِّ، وهيَ الحاجةُ المُناسِبةُ إلى شَرعيَّتِه، واللِّواطُ يُشارِكُ الزِّنا في هذا المَعنى، فيَلزَمُ مِن كَونِ الزِّنا عِلَّةً مُعَرِّفةً كَونُ اللِّواطِ كذلك، وإن لم يَكُنِ اللِّواطُ زِنًا [1752] يُنظر: ((شفاء الغليل)) للغزالي (ص: 603)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/293)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2266)، ((قواعد أصول الفقه)) لداوودي (2/783). .
3- قياسُ النَّبَّاشِ على السَّارِقِ في كونِه موجِبًا للحَدِّ:
وإنَّما كانت السَّرِقةُ سَبَبًا لوُجوبِ الحَدِّ؛ لكَونِها أخذَ مالٍ خَفيَّةً مِن حِرزٍ، وهو حاصِلٌ في النَّبَّاشِ، فوجَبَ جَعلُه سَبَبًا لوُجوبِ الحَدِّ؛ لوُجودِ عِلَّةِ السَّبَبيَّةِ فيه، وإن كان النَّبشُ لا يُسَمَّى سَرِقةً [1753] يُنظر: ((نهاية الوصول)) للهندي (7/3213)، ((قواعد أصول الفقه)) لداوودي (2/783). .
وقيل: لا يَجري القياسُ في الأسبابِ والشُّروطِ والمَوانِعِ. وهو مَذهَبُ عامَّةِ الحَنَفيَّةِ [1754] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/390)، ((الردود والنقود)) للبابرتي (2/586)، ((فواتح الرحموت)) لللكنوي (2/372). ، وبَعضِ المالكيَّةِ [1755] يُنظر: ((تقريب الوصول)) لابن جزي (ص: 185). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ [1756] يُنظر: ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (ص: 309)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2263). ، وعَبَّرَ عنه الرَّازيُّ بالمَشهورِ [1757] يُنظر: ((المحصول)) (5/345). .

انظر أيضا: