موسوعة أصول الفقه

تَمهيدٌ: مُقدِّماتٌ مُتَعَلِّقةٌ بقَوادِحِ القياسِ


1- المُرادُ بقَوادِحِ القياسِ:
القَوادِحُ جَمعُ قادِحٍ، والمُرادُ به: ما يَقدَحُ في الدَّليلِ، سَواءٌ عِلَّةً كان الدَّليلُ أو غَيرَها [1801] يُنظر: ((غاية الوصول)) لزكريا الأنصاري (ص: 133)، ((نثر الورود)) لمحمد الأمين الشنقيطي (2/515). .
ويُعَبِّرُ عنها بَعضُ الأُصوليِّينَ بالاعتِراضاتِ على القياسِ، ومِن هؤلاء: الكَلْوَذانيُّ [1802] يُنظر: ((التمهيد)) (4/99). ، وابنُ العَرَبيِّ [1803] يُنظر: ((المحصول)) (ص: 137). ، والآمِديُّ [1804] يُنظر: ((الإحكام)) (4/69). ، وابنُ مُفلِحٍ [1805] يُنظر: ((أصول الفقه)) (3/1352). .
وعَبَّرَ بَعضُهم عنها بالأسئِلةِ الوارِدةِ على القياسِ، ومِن هؤلاء: الطُّوفيُّ [1806] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) (3/458). ، وابنُ اللَّحَّامِ [1807] يُنظر: ((المختصر)) (ص: 152). .
2- أهَمِّيَّةُ العِلمِ بالقَوادِحِ:
القَوادِحُ مُبطِلاتٌ للدَّليلِ، ومِن ثَمَّ يَحتاجُ المُستَدِلُّ إلى إتقانِ مَعرِفتِها والجَوابِ عليها، فمَتى حَصَل الجَوابُ عنها فقد تَمَّ له الاستِدلالُ بالدَّليلِ، ولم يَبقَ للاعتِراضِ مَجالٌ [1808] يُنظر: ((الذخر الحرير)) للبعلي (ص: 706). .
فعِندَما يَذكُرُ المُستَدِلُّ لقَولِه قياسًا يُؤَيِّدُ به قَولَه، فإنَّه يَرِدُ عليه احتِمالُ أن يَكونَ ذلك القياسُ صَحيحًا أو فاسِدًا؛ ولذلك عُنيَ الأُصوليُّونَ بذِكرِ الأسئِلةِ التي يورِدُها المُعتَرِضُ على القياسِ الذي يَستَدِلُّ به المُستَدِلُّ، فإن أجابَ المُستَدِلُّ عليها صَحَّ قياسُه وسُلِّمَ له، وإن انقَطَعَ ولم يُجِبْ عنها لم يَصِحَّ قياسُه [1809] يُنظر: ((الآراء الشاذة في أصول الفقه)) لعبد العزيز النملة (1/545). .
قال الكُورانيُّ: (المُستَدِلُّ كالمُحارِبِ، لا بُدَّ له مِن قوَّةٍ وآلةٍ يَستَعينُ بها على الخَصمِ، ثُمَّ قَوَّتُه هيَ فِطرَتُه وقابليَّتُه. وسِلاحُه مُقدِّماتُ دَليلِه، وكُلَّما كان دَليلُه أقوى كان غالبًا لا يُغالَبُ، لكِنْ كما أنَّ السِّلاحَ إنَّما يُؤَثِّرُ عِندَ عَدَمِ مُعاوِقٍ، كذلك الدَّليلُ إنَّما يَستَلزِمُ المَطلوبَ إذا لم يُعاوِقْه عائِقٌ) [1810] ((الدرر اللوامع)) (3/315). .
3- هل يُشتَرَطُ أن تَرِدَ القَوادِحُ على كُلِّ قياسٍ؟
ليسَ المُرادُ مِن وُرودِ القَوادِحِ على القياسِ أنَّها تَرِدُ على كُلِّ قياسٍ؛ لأنَّ مِن الأقيِسةِ ما لا يَرِدُ عليه ذلك، كالقياسِ مَعَ عَدَمِ النَّصِّ والإجماعِ، لا يَتَّجِهُ عليه فسادُ الاعتِبارِ إلَّا مِن ظاهريٍّ ونَحوِه مِمَّن يُنكِرُ القياسَ، وكذلك اللَّفظُ البَيِّنُ لا يَرِدُ عليه الاستِفسارُ، وعلى هذا يُمكِنُ تَخَلُّفُ كُلِّ واحِدٍ مِن الأسئِلةِ على البَدَلِ عن بَعضِ الأقيِسةِ. وإنَّما المُرادُ أنَّ الأسئِلةَ الوارِدةَ على القياسِ لا تَخرُجُ عن هذه الطُّرُقِ [1811] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/329). .
4- مَجالُ ذِكرِ القَوادِحِ:
أصلُ البَحثِ في القَوادِحِ مِن فَنِّ الجَدَلِ، وإنَّما ذَكَرَها جُمهورُ الأُصوليِّينَ في أُصولِ الفِقهِ؛ لأنَّها مِن مُكَمِّلاتِ القياسِ الذي هو مِن أُصولِ الفِقهِ، ومُكَمِّلُ الشَّيءِ مِن ذلك الشَّيءِ [1812] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/459)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/328)، ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 442). .
وأوصَلَها بَعضُ الأُصوليِّينَ إلى خَمسةٍ وعِشرينَ، وبَعضُهم إلى ثَمانيةٍ وعِشرينَ، وأطنَبَ الجَدَليُّونَ فيها؛ لاعتِمادِهم إيَّاها. ومِنهم مَن أنهاها إلى الثَّلاثينَ، وغالِبُها يَتَداخَلُ [1813] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/328)، ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 442). هذا مَنهَجُ الجُمهورِ في ذِكرِ القَوادِحِ، وأمَّا مَنهَجُ الحَنَفيَّةِ: فإنَّهم يُقَسِّمونَ العِلَلَ إلى نَوعَينِ: طَرديَّةٍ، ومُؤَثِّرةٍ. فالنَّوعُ الأوَّلُ: العِلَلُ الطَّرديَّةُ: ويُرادُ بها العِلَلُ التي تَثبُتُ عِلِّيَّتُها بالدَّوَرانِ أو الإخالةِ. ودَفعُها بأربَعةٍ هيَ: القَولُ بموجِبِ العِلَّةِ، ثُمَّ المُمانَعةُ، ثُمَّ بَيانُ فَسادِ المَوضِعِ، ثُمَّ المُناقَضةُ. والنَّوعُ الثَّاني: العِلَلُ المُؤَثِّرةُ، وذَكَروا لدَفعِها طَريقَينِ: فاسِدٌ، وصحيحٌ. فالاعتِراضاتُ الفاسِدةُ على العِلَلِ المُؤَثِّرةِ أربَعةٌ: المُناقَضةُ، وفسادُ الوَضعِ، ووُجودُ الحُكمِ مَعَ عَدَمِ العِلَّةِ، والمُفارَقةُ بَينَ الأصلِ والفَرعِ. والصَّحيحةُ أربَعةٌ: المُمانَعةُ، ثُمَّ القَلبُ المُبطِلُ، ثُمَّ العَكسُ الكاسِرُ، ثُمَّ المُعارَضةُ بعِلَّةٍ أُخرى. يُنظر: ((أصول السرخسي)) (2/232)، ((الكافي)) للسغناقي (4/1941)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/43). .
ولم يَذكُرِ الغَزاليُّ هذه القَوادِحَ في (المُستَصفى) ورَأى أنَّها مِن عِلمِ الجَدَلِ [1814] قال الغَزاليُّ بَعدَ أن ذَكَرَ مُفسِداتِ العِلَّةِ: (ووراءَ هذا اعتِراضاتٌ، مِثلُ: المَنعِ، وفَسادِ الوَضعِ، وعَدَمِ التَّأثيرِ، والكَسرِ، والفَرقِ، والقَولِ بالموجبِ، والتَّعديةِ، والتَّركيبِ، وما يَتَعَلَّقُ فيه تَصويبُ نَظَرِ المُجتَهِدينَ قد انطَوى تَحتَ ما ذَكَرناه، وما لم يَندَرِجْ تَحتَ ما ذَكَرناه فهو نَظَرٌ جَدَليٌّ يتبَعُ شَريعةَ الجَدَلِ التي وضَعَها الجَدَليُّونَ باصطِلاحِهم، فإن لم يَتَعَلَّقْ بها فائِدةٌ دينيَّةٌ فيَنبَغي أن نُشِحَّ على الأوقاتِ أن نُضَيِّعَها بها وبتَفصيلِها، وإن تَعَلَّق بها فائِدةٌ؛ من ضَمِّ نَشرِ الكَلامِ، ورَدِّ كَلامِ المُناظِرينَ إلى مَجرى الخِصامِ؛ كَي لا يَذهَبَ كُلُّ واحِدٍ عَرضًا وطولًا في كَلامِه، مُنحَرِفًا مَقصِدُ نَظَرِه؛ فهيَ ليسَت فائِدةً مِن جِنسِ أُصولِ الفِقهِ، بَل هيَ مِن عِلمِ الجَدَلِ؛ فيَنبَغي أن تُفرَدَ بالنَّظَرِ، ولا تُمزَجَ بالأُصولِ التي يُقصَدُ بها تَذليلُ طُرُقِ الاجتِهادِ للمُجتَهِدينَ). ((المستصفى)) (ص: 342). ويُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي (6/ 2524).. .
5- بَيانُ مَعاني المُصطَلَحاتِ المُتَكَرِّرةِ في القَوادِحِ:
يَكثُرُ في ذِكرِ القَوادِحِ مُصطَلحَا: المُستَدِلِّ، والمُعتَرِضِ.
فالمُستَدِلُّ: هو القائِسُ، وهو المُعَلِّلُ في آدابِ البَحثِ والمُناظَرةِ.
والمُعتَرِضُ: هو السَّائِلُ في آدابِ البَحثِ والمُناظَرةِ [1815] يُنظر: ((الأصل الجامع)) للسيناوني (3/51)، ((آداب البحث والمناظرة)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 319). .

انظر أيضا: