موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ الأوَّلُ: قادِحُ سُؤالِ الاستِفسارِ


1- التَّعريفُ بقادِحِ سُؤالِ الاستِفسارِ
المُرادُ بهذا القادِحِ: طَلَبُ المُعتَرِضِ بَيانَ مَعنى اللَّفظِ الذي قاله المُستَدِلُّ؛ إمَّا لكَونِ اللَّفظِ مُجمَلًا، أو لغَرابَتِه [1816] يُنظر: ((شرح العضد)) (3/476)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/231). .
فالضَّابطُ فيما يَصِحُّ عنه الاستِفسارُ هو: ما لا يُفهَمُ مَعناه، إمَّا لإجمالِه أو لغَرابَتِه؛ ولهذا قيل: إنَّ كُلَّ ما ثَبَتَ فيه الاستِبهامُ صَحَّ عنه الاستِفهامُ [1817] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/69)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3572)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/391)، ((التحبير)) للمرداوي (7/3547). .
أمَّا إذا كان اللَّفظُ ظاهرًا مَشهورًا، مُستَطرَقًا بَينَ الفُقَهاءِ، بحَيثُ لا يَغمُضُ مِثلُه على المُعتَرِضِ، فإنَّه يُعَدُّ مِنه جَهلًا أو عِنادًا وتَعنُّتًا [1818] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/466). .
وعلى المُعتَرِضِ إثباتُ الإجمالِ أو الغَرابةِ؛ ليَصِحَّ استِفسارُه، وذلك ببَيانِ احتِمالِ اللَّفظِ لمَعنَيَينِ فأكثَرَ، حتَّى يَكونَ مُجمَلًا، وكذلك بَيانُ جِهةِ الغَرابةِ [1819] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/302)، ((شرح العضد)) (3/476)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/392). .
ومِثالُه في الإجمالِ: ما لو قال المُستَدِلُّ: يَجِبُ على المُطَلَّقةِ أن تَعتَدَّ بالأقراءِ؛ فلفظُ "الأقراءِ" مُجمَلٌ. فيَقولُ المُعتَرِضُ: ما مُرادُك بالأقراءِ [1820] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (7/3547)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/231). ؟
وأمَّا الغَرابةُ فقد تَكونُ مِن حَيثُ الاصطِلاحُ بأن يُذكَرَ في القياسِ الفِقهيِّ مَثَلًا لفظُ الدَّورِ [1821] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/390)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/232). .
وقد تَكونُ حَيثُ الوَضعُ بذِكرِ وَحشيِّ الألفاظِ، كما لو قال القائِسُ في الكَلبِ الذي لم يُعَلَّمُ: خِراشٌ لم يُبْلَ، فلا يُطلِقُ فريسَتَه كالسِّيدِ.
فالخِراشُ: الكَلبُ، ومَعنى "لم يُبْلَ": لم يُختَبَرْ، والفَريسةُ: الصَّيدُ. والسِّيدُ: الذِّئبُ [1822] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (7/3548)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/232). .
2- وَجهُ كَونِ الاستِفسارِ مِن القَوادِحِ
غايةُ سُؤالِ الاستِفسارِ أنَّه استِفهامٌ لا اعتِراضٌ، وإنَّما كان في مُقدَّمِ الاعتِراضاتِ؛ لأنَّه يُعَرِّفُ بالمُرادِ ويُبَيِّنُه ليَتَوجَّهَ عليه السُّؤالُ؛ لأنَّه إذا لم يُعرَفْ مَدلولُ اللَّفظِ استَحال تَوجُّهُ المَنعِ أو المُعارَضةِ [1823] يُنظر: ((نهاية الوصول)) للهندي (8/3613)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/391)، ((الذخر الحرير)) للبعلي (ص706). .
ولا يَختَصُّ سُؤالُ الاستِفسارِ بالقياسِ فقَط، بَل يَرِدُ على النُّصوصِ كذلك؛ لأنَّ الإجمالَ والغَرابةَ تَقَعُ فيها، كما تَقَعُ في ألفاظِ القياسِ [1824] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/470). .
3- كيفيَّةُ جَوابِ المُستَدِلِّ عن سُؤالِ الاستِفسارِ
أوَّلًا: إذا كان مُجمَلًا فجَوابُه مِن وجهَينِ
الوَجهُ الأوَّلُ: أن يُبَيِّنَ عَدَمَ احتِمالِ اللَّفظِ لأيِّ مَعنًى آخَرَ، ويُبَيِّنَ ذلك عن أئِمَّةِ اللُّغةِ، أو يَقولَ: إنَّ هذا اللَّفظَ يُطلَقُ على هذا المَعنى الواحِدِ، والأصلُ عَدَمُ جَوازِ إطلاقِه على غَيرِه، نَفيًا للمَجازِ والاشتِراكِ، فمَن ادَّعى إطلاقَه عليه فعليه الدَّليلُ [1825] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/463). .
ومِثالُه: إذا استَدَلَّ القائِسُ على أنَّ الحَيضَ مانِعٌ مِن صِحَّةِ الطَّوافِ بكَونِه قُرءًا تَحرُمُ مَعَه الصَّلاةُ، فيَحرُمُ مَعَه الطَّوافُ؛ قياسًا عليها.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: إنَّ قياسَك الطَّوافَ على الصَّلاةِ قد اشتَمَل على لفظٍ مُجمَلٍ، وهو لفظُ "قُرءٍ"؛ لأنَّه يُحتَمَلُ أن يُرادَ به الحَيضُ، ويُحتَمَلُ أن يُرادَ به الطُّهرُ، فما الذي تُريدُه مِنهما بهذا اللَّفظِ؟
فيُجيبُ المُستَدِلُّ بقَولِه: أنا أمنَعُ كونَ لفظِ: "القُرءِ" يَحتَمِلُ أكثَرَ مِن مَعنًى؛ لأنَّه لا يُطلَقُ إلَّا على مَعنًى واحِدٍ هو: الحَيضُ، ويورِدُ مِن كلامِ أئِمَّةِ اللُّغةِ ما يَدُلُّ على ذلك [1826] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2166). .
الوَجهُ الثَّاني: أن يُسَلِّمَ المُستَدِلُّ بأنَّ اللَّفظَ يَحتَمِلُ مَعنيَينِ، ولكِنَّه يُبَيِّنُ ظُهورَ اللَّفظِ فيما قَصَدَه، بأن يَقولَ: هذا ظاهِرٌ في مَقصودي، وبَيانُ ذلك بما يَلي:
إمَّا بنَقلٍ مِن اللُّغةِ، كما لو اعتَرَضَ عليه في قَولِه: الوُضوءُ قُربةٌ، فتَجِبُ له النِّيَّةُ. فيَقولُ المُعتَرِضُ: الوُضوءُ يُطلَقُ على النَّظافةِ، وعلى الأفعالِ المَخصوصةِ، فما الذي تُريدُ بالذي تَجِبُ له النِّيَّةُ؟ فيَقولُ: حَقيقَتُه الشَّرعيَّةُ، وهيَ الأفعالُ المَخصوصةُ [1827] يُنظر: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/234). .
أو يُبَيِّنُ كونَ لَفظِه ظاهرًا في مَقصودِه بالعُرفِ، كإطلاقِ الدَّابَّةِ على ذَواتِ الأربَعِ.
أو يُبَيِّنُ كَونَ اللَّفظِ ظاهرًا في مَقصودِه بما مَعَه مِن قَرينةٍ، نَحوُ قَولِه: قُرءٌ تَحرُمُ فيه الصَّلاةُ، فيَحرُمُ فيه الصَّومُ؛ فإنَّ قَرينةَ تَحريمِ الصَّلاةِ فيه تَدُلُّ على أنَّ المُرادَ به الحَيضُ [1828] يُنظر: ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/419)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/234). .
ثانيًا: إذا كان اللَّفظُ غَريبًا، وذلك مِن وجهَينِ
الوَجهُ الأوَّلُ: أن يَمنَعَ المُستَدِلُّ كَونَ اللَّفظِ غَريبًا
ومِثالُه: لو قال المُستَدِلُّ: لا تَحِلُّ فريسةُ الكَلبِ غَيرِ المُعَلَّمِ؛ لأنَّه وحشٌ لم يُرَوَّضْ، فلا تَحِلُّ فريسَتُه قياسًا على الذِّئبِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: قد اشتَمَل قياسُك هذا على لفظٍ غَريبٍ، وهو لفظُ "فريسَته"، فما الذي تُريدُه بهذا اللَّفظِ؟
فيُجيبُ المُستَدِلُّ بقَولِه: إنِّي أمنَعُ أن يَكونَ لفظُ "الفريسةِ" غَريبًا، بَل هو مَعروفُ المَعنى [1829] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2169). .
الوَجهُ الثَّاني: أن يُبَيِّنَ المُستَدِلُّ كَونَ هذا اللَّفظِ ظاهرَ المَعنى، ويُبَيِّنَ أنَّ ذلك ظاهِرٌ مِن جِهةِ القَرينةِ، أو جِهةِ اللُّغةِ، أو جِهةِ العُرفِ، كقَولِه: طَلَّةٌ زَوَّجَت نَفسَها فلا يَصِحُّ نِكاحُها كما لو لم يَأذَنْ وليُّها.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: قد اشتَمَل قياسُك على لفظٍ غَريبٍ، وهو لفظُ "طَلَّة" فما المُرادُ بهذا اللَّفظِ؟
فيُجيبُ المُستَدِلُّ بأنَّ لفظَ: "الطَّلَّة" الوارِدِ في القياسِ ظاهِرُ المَعنى؛ حَيثُ إنَّ المُرادَ به المَرأةُ، بقَرينةِ عِبارةِ: زوَّجَت نَفسَها [1830] يُنظر: ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/419)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/234)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2169). .

انظر أيضا: