الفَرعُ الثَّالثُ: قادِحُ التَّقسيمِ
1- التَّعريفُ بقادِحِ التَّقسيمِ:هو عِبارةٌ عن تَرديدِ اللَّفظِ بَينَ احتِمالينِ، أحَدُهما: مَمنوعٌ، والآخَرُ: مُسَلَّمٌ به
[1924] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/77)، ((نفائس الأصول)) للقرافي (8/3473). وهذا هو النَّوعُ الثَّاني مِن أنواعِ التَّقسيمِ في القياسِ عِندَ الأُصوليِّينَ؛ فالتَّقسيمُ في القياسِ على ضَربَينِ: أحَدُهما: مِن النَّاظِرِ في استِخراجِ العِلَّةِ بتَخريجِ المَناطِ، كما سَبَقَ في مَسالِكِ العِلَّةِ. والثَّاني: تَقسيمٌ مِن المُعتَرِضِ المُناظِرِ على ما يَقولُه المُستَدِلُّ، وهذا هو المُرادُ ههنا. يُنظر: ((المنهاج)) للباجي (ص: 210)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/492). .
ومَعناه: أن يَجعَلَ المُعتَرِضُ لفظَ المُستَدِلِّ -الدَّالَّ على الوَصفِ الجامِعِ- مُتَرَدِّدًا بَينَ احتِمالينِ أو أكثَرَ، أحَدُهما مَمنوعٌ عِلِّيَّتُه، والآخَرُ مُسَلَّم بعِلِّيَّتِه، وذلك المَمنوعُ هو الذي يَحصُلُ به المَقصودُ
[1925] يُنظر: ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (3/190)، ((الردود والنقود)) للبابرتي (2/601)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/251)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2209). .
2- وَجهُ كَونِ التَّقسيمِ قادِحًا في القياسِ:أنَّه مَنعٌ لأحَدِ احتِمالاتِ اللَّفظِ، إمَّا مَعَ السُّكوتِ عن الآخَرِ؛ إذ لا يَضُرُّه، وإمَّا مَعَ تَسليمِه، أو بَيانِ أنَّه لا يَضُرُّه. كما أنَّ للتَّقسيمِ مَدخَلًا في هَدمِ الدَّليلِ والتَّضييقِ على المُستَدِلِّ؛ لأنَّ اللَّفظَ إذا احتَمَل أمرَينِ، أحَدُهما باطِلٌ، فهو مُحتَمِلٌ للبُطلانِ، فلا تنتَهِضُ به حُجَّةٌ
[1926] يُنظر: ((شرح العضد)) (3/488)، ((فصول البدائع)) للفناري (2/389)، ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 452). .
3- مِثالُ التَّقسيمِ:أن يَقولَ المُستَدِلُّ (الحَنَفيُّ) في عَدَمِ وُجوبِ الزَّكاةِ في مالِ الصَّبيِّ: لا تَجِبُ الزَّكاةُ في مالِ الصَّبيِّ؛ لأنَّ الزَّكاةَ عِبادةٌ، فلا تَجِبُ على الصَّبيِّ؛ قياسًا على سائِرِ العِباداتِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: قَولُك: (عِبادةٌ) إمَّا أن تُريدَ بها العِبادةَ المَحضةَ، فهذا مَمنوعٌ؛ لأنَّ الزَّكاةَ فيها جانِبُ المُؤنةِ، وإمَّا أن تُريدَ بها العِبادةَ غَيرَ المَحضةِ، فهو مُسَلَّمٌ، لكِن لا يَلزَمُ سُقوطُها عن مالِه، فلا يُفيدُك في عَدَمِ إيجابِ الزَّكاةِ على الصَّبيِّ؛ لأنَّها عِبادةٌ مِن جِهةٍ، ومُؤنةٌ مِن جِهةٍ أُخرى، فهيَ إذَن واجِبةٌ في مالِه مِن جِهةِ المُؤنةِ، والمُخاطَبُ بإخراجِها هو الوَليُّ
[1927] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/494). .
4- الفَرقُ بَينَ التَّقسيمِ والاستِفسارِ:الفرقُ بَينَهما مِن وجهَينِ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ التَّقسيمَ يَرِدُ مِن المُعتَرِضِ حينَما يَكونُ اللَّفظُ مُتَرَدِّدًا بَينَ احتِمالينِ أو أكثَرَ، أي: يَرِدُ حينَما يَكونُ اللَّفظُ مُجمَلًا فقَط.
أمَّا الاستِفسارُ فإنَّه يَرِدُ حينَما يَكونُ اللَّفظُ مُجمَلًا، وحينَما يَكونُ اللَّفظُ غَريبًا.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ المُعتَرِضَ في التَّقسيمِ يَحكُمُ على ما يَحتَمِلُه لفظُ المُستَدِلِّ بأنَّ هذا مَمنوعٌ، أو مُسلَّمٌ.
أمَّا المُعتَرِضُ في الاستِفسارِ فلا يَحكُمُ على ما يَحتَمِلُه لَفظُ المُستَدِلِّ
[1928] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2214). .
5- الفَرقُ بَينَ التَّقسيمِ والمُطالَبةِ:المُطالَبةُ: طَلبُ الدَّليلِ على كونِ هذا الوَصفِ عِلَّةً، فهيَ تَتَضَمَّنُ التَّسليمَ بكَونِ الوَصفِ عِلَّةً؛ لأنَّ قَولَ المُعتَرِضِ: ما الدَّليلُ على أنَّ الوَصفَ الذي ذَكَرتَه هو عِلَّةُ الحُكمِ الذي ادَّعَيتَه؟ يَتَضَمَّنُ التَّسليمَ بوُجودِ الوصفِ المَذكورِ.
أمَّا التَّقسيمُ فهو مَنعٌ لوُجودِ عِلَّةِ المُستَدِلِّ في الأصلِ
[1929] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/489)، ((المختصر)) لابن اللحام (ص153)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (3/311). .
6- هَل يُقبَلُ مِن المُعتَرِضِ الاعتِراضُ بالتَّقسيمِ؟للمُعتَرِضِ أن يورِدَ التَّقسيمَ على قياسِ المُستَدِلِّ، وهو مَذهَبُ جُمهورِ الأُصوليِّينَ
[1930] يُنظر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1357)، ((التحبير)) للمرداوي (7/3575)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/251)، ((الذخر الحرير)) للبعلي (ص718)، ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 451). ؛ فقد قال به كثيرٌ مِن الحَنَفيَّةِ كالفناريِّ
[1931] يُنظر: ((فصول البدائع)) (2/389). ، وابنِ الهُمامِ
[1932] يُنظر: ((التحرير)) (ص: 495). ، والبابَرتيِّ
[1933] يُنظر: ((الردود والنقود)) (2/601). ، والمالِكيَّةِ كالباجيِّ
[1934] يُنظر: ((المنهاج)) (ص: 210). ، وابنِ الحاجِبِ
[1935] يُنظر: ((مختصر منتهى السول والأمل)) (2/1141). ، والقَرافيِّ
[1936] يُنظر: ((نفائس الأصول)) (8/3473). ، والشَّافِعيَّةِ كإمامِ الحَرَمَينِ
[1937] يُنظر: ((الكافية)) (ص: 394). ، والآمِديِّ
[1938] يُنظر: ((الإحكام)) (4/77). ، والأصفَهانيُّ
[1939] يُنظر: ((بيان المختصر)) (3/191). ، وهو مَذهَبُ الحَنابلةِ
[1940] يُنظر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1357)، ((التحبير)) للمرداوي (7/3575)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/251). .
ودَليلُ قَبولِه: أنَّ به يَتَعَيَّنُ مُرادُ المُستَدِلِّ، ورُبَّما لا يُمكِنُه تَتميمُ الدَّليلِ بسَبَبِه
[1941] يُنظر: ((شرح العضد)) (3/488). .
وقيل: لا يُقبَلُ مِن المُعتَرِضِ هذا القادِحُ؛ لأنَّ إبطالَ أحَدِ احتِمالَي كلامِ المُستَدِلِّ لا يَكونُ إبطالًا له؛ إذ لعَلَّ الاحتِمالَ المَمنوعَ غَيرُ مُرادٍ أصلًا للمُستَدِلِّ
[1942] يُنظر: ((شرح العضد)) (3/488)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/429)، ((تحفة المسؤول)) للرهوني (4/168)، ((فصول البدائع)) للفناري (2/389). .
7- شُروطُ قادِحِ التَّقسيمِ:يُشتَرَطُ فيما يَقولُه المُعتَرِضُ مِن التَّقسيمِ حتَّى يَكونَ مَقبولًا ثَلاثةُ شُروطٍ، هيَ:
الشَّرطُ الأوَّلُ: أن يَكونَ ما ذَكَرَه المُستَدِلُّ مِمَّا يَصِحُّ انقِسامُه إلى ما يَجوزُ مَنعُه وتَسليمُه
[1943] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/306)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/493)، ((المختصر)) لابن اللحام (ص: 153). وذَهَبَ القَرافيُّ إلى أنَّه ليسَ مِن شَرطِ التَّقسيمِ أن يَكونَ أحَدُ الاحتِمالَينِ مَمنوعًا، والآخَرُ مُسَلَّمًا، بَل يَجوزُ أن يَكونا مُسَلَّمَينِ، لكِن الذي يَرِدُ على أحَدِهما غَيرُ ما يَرِدُ على الآخَرِ؛ إذ لو اتَّحَدَ ما يَرِدُ لم يَكُنْ للتَّقسيمِ مَعنًى، ولا خِلافَ أنَّه لا يَجوزُ أن يَكونا مَمنوعَينِ؛ لأنَّ التَّقسيمَ لا يَكونُ مُفيدًا، وعلى هذا لو أرادَ المُعتَرِضُ تَصحيحَ تَقسيمِه اكتَفى بإطلاقِ اللَّفظِ بإزاءِ احتِمالَينِ مِن غَيرِ تَكليفِ بَيانِ التَّساوي في دَلالةِ اللَّفظِ عليهما. يُنظر: ((نفائس الأصول)) (8/3474). .
ومِثالُه: أن يَقولَ المُستَدِلُّ في نَذرِ صَومِ يَومِ النَّحرِ: إنَّه نَذرُ مَعصيةٍ، فلا يَنعَقِدُ؛ قياسًا على سائِرِ المَعاصي.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: هو مَعصيةٌ لعَينِه أو لغَيرِه؟ الأوَّلُ مَمنوعٌ؛ لأنَّ الصَّومَ لعَينِه قُربةٌ وعِبادةٌ، فكَيف يَكونُ مَعصيةً؟ والثَّاني مُسَلَّمٌ، لكِن لا يَقتَضي البُطلانَ، بخِلافِ سائِرِ المَعاصي
[1944] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/493). .
فإذا لم يَكُنِ اللَّفظُ الذي أورَدَه المُستَدِلُّ في قياسِه مِمَّا يَصِحُّ انقِسامُه إلى مَمنوعٍ ومُسَلَّمٍ، كان التَّقسيمُ مِن المُعتَرِضِ مُكابَرةً وشَغبًا، ولم يَكُنْ له فائِدةٌ؛ لأنَّ ما ليسَ له إلَّا احتِمالٌ واحِدٌ يَجِبُ حَملُ اللَّفظِ عليه في أوَّلِ الأمرِ، وكذا ما له احتِمالانِ، أحَدُهما ظاهِرٌ، يَجِبُ حَملُ اللَّفظِ على ما هو الظَّاهِرُ
[1945] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/77)، ((نفائس الأصول)) للقرافي (8/3474)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/494)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (3/313). .
ومِثالُ ذلكَ: قَولُ المُستَدِلِّ: النَّبيذُ شَرابٌ مُسكِرٌ، فكان حَرامًا كالخَمرِ. فيَقولُ المُعتَرِضُ: قد اشتَمَل قياسُك هذا على لفظِ "مُسكِرٍ"، وهو مُحتَمِلٌ لمُعانٍ؛ فهَل هو مُسكِرٌ بالمَعنى الشَّرعيِّ، أو مُسكِرٌ بالمَعنى اللُّغَويِّ، أو مُسكِرٌ بالمَعنى العَقليِّ؟ أو يَقولُ: مُسكِرٌ ذَوقيٌّ، أو حَقيقيٌّ؟ فهذا التَّقسيمُ لا يَصحُّ مِن المُعتَرِضِ؛ حَيثُ إنَّه لا يَحتَمِلُه اللَّفظُ
[1946] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/494)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (3/313). .
الشَّرطُ الثَّاني: أن يَكونَ التَّقسيمُ حاصِرًا لجَميعِ الأقسامِ التي يَحتَمِلُها لفظُ المُستَدِلِّ
[1947] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/307)، ((المختصر)) لابن اللحام (ص: 154). .
ومِثالُه: قَولُ المُستَدِلِّ: المُكرَهُ على القَتلِ مُختارٌ للقَتلِ، فيُقتَصُّ مِنه؛ قياسًا على المُكرِهِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: قد اشتَمَل قياسُك هذا على لفظِ "مُختارٍ" وهو يَحتَمِلُ مَعنَيَينِ:
الأوَّلُ: مُختارٌ بمَعنى الفاعِلِ الرَّاغِبِ في القَتلِ، وهذا مَمنوعٌ. والثَّاني: مُختارٌ بمَعنى الفاعِلِ القادِرِ على القَتلِ، وهذا مُسَلَّم
[1948] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2212). .
فإن لم يَكُنْ حاصِرًا لم يَصِحَّ التَّقسيمُ؛ لجَوازِ أن يَنهَضَ القِسمُ الباقي الخارِجُ عن الأقسامِ التي ذَكَرَها المُعتَرِضُ بفَرضِ المُستَدِلِّ
[1949] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/494)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (3/313). .
ومِثالُه: أن يَقولَ المُستَدِلُّ: فِعلٌ مَأمورٌ به، فكان مُجزِئًا.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: مَأمورٌ به على وَجهِ الفَرضِ، أو على وَجهِ الإباحةِ؟
فيُجيبُ المُستَدِلُّ بقَولِه: لا هذا، ولا هذا، بَل على وَجهِ النَّدبِ أو الوُجوبِ. إن كان المُستَدِلُّ مِمَّن يُفرِّقُ بَينَ الواجِبِ والفَرضِ
[1950] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/494). .
ومِثلُ: أن يَقولَ المُستَدِلُّ في الحُرَّةِ البالغةِ: تَلي عَقدَ النِّكاحِ؛ لأنَّها عاقِلةٌ، فصَحَّ مِنها التَّصَرُّفُ للمَصلحةِ؛ قياسًا على الرَّجُلِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: ما تَعني بالعَقلِ؟ التَّجرِبةَ، أو كمالَ الرَّأيِ وحُسنَ السِّيرةِ؟ فالأوَّلُ مَمنوعٌ، والثَّاني مُسلَّمٌ.
فيُجيبُ المُستَدِلُّ: لا هذا، ولا هذا، بَل المُرادُ به قوَّةٌ غَريزيَّةٌ يَتَأتَّى بها دَركُ المَصالِحِ والمَفاسِدِ
[1951] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/495). .
الشَّرطُ الثَّالثُ: أن يَكونَ التَّقسيمُ مُطابقًا لِما ذَكَرَه المُستَدِلُّ، أي أنَّ المُعتَرِضَ لا يورِدُ في التَّقسيمِ زيادةً على ما ذَكَرَه المُستَدِلُّ في دَليلِه، فلو أورَدَ المُعتَرِضُ زيادةً في الدَّليلِ على ما ذَكَرَه المُستَدِلُّ، بأن يورِدَ احتِمالينِ لا دَلالةَ للفظِ المُستَدِلِّ عليهما، ثُمَّ يورِدَ الاعتِراضَ عليهما، فلا يَصِحُّ؛ لأنَّه بذلك يُمَهِّدُ لنَفسِه شَيئًا، ثُمَّ يوجِّهُ الاعتِراضَ، فحينَئِذٍ يَكونُ مُناظِرًا لنَفسِه لا للمُستَدِلِّ
[1952] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/307)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/495)، ((المختصر)) لابن اللحام (ص: 154)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (3/314). .
مِثالُ ذلك: قَولُ المُستَدِلِّ في مَسألةِ إجبارِ البِكرِ البالغةِ: البِكرُ البالغةُ لا تُجبَرُ على النِّكاحِ؛ لأنَّها بالغةٌ عاقِلةٌ؛ قياسًا على الثَّيِّب.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: قَولُك: "بالغةٌ عاقِلةٌ" وهيَ بِكرٌ، أو ليسَت ببِكرٍ؟
فهذا التَّقسيمُ مَردودٌ؛ لأنَّ دَليلَ المُستَدِلِّ لم يَتَعَرَّضْ للبكرِ وُجودًا ولا عَدَمًا، فذِكرُ المُعتَرِضِ له يُعَدُّ تَقويلًا للمُستَدِلِّ ما لم يَقُلْ، أو إعراضًا عن مُناظَرَتِه إلى مُناظَرةِ المُعتَرِضِ لنَفسِه، أو جَهلًا مِنه بطَريقِ المُناظَرةِ. وأيًّا ما كان يَبطُلُ التَّقسيمُ
[1953] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/495)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (3/314). .
8- كيفيَّةُ الجَوابِ عن قادِحِ التَّقسيمِ:للمُستَدِلِّ أن يُجيبَ عن قادِحِ التَّقسيمِ مِن أربَعةِ أوجُهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أن يُبَيِّنَ فسادَ التَّقسيمِ بانتِفاءِ شُروطِه أو بَعضِها، فيَقولَ مَثَلًا: لا أُسَلِّمُ أنَّ لفظي يَحتَمِلُ ما ذَكَرتَ مِن التَّقسيمِ، أو لا أُسَلِّمُ أنَّ تَقسيمَك حاصِرٌ، بَل هناكَ قِسمٌ آخَرُ هو مُرادي، أو أنَّك زِدتَ في تَقسيمِك على ما ذَكَرتُ
[1954] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/496). .
الوَجهُ الثَّاني: أن يُبَيِّنَ المُستَدِلُّ أنَّ اللَّفظَ الذي أورَدَه في قياسِه ظاهرُ الدَّلالةِ على مُرادِه في بَعضِ الاحتِمالاتِ: إمَّا بحُكمِ الوضعِ، وإمَّا بعُرفِ الاستِعمالِ لُغةً أو عُرفًا أو شَرعًا، وإمَّا بقَرينةٍ انضَمَّت إليه مِن لفظِ المُستَدِلّ، وإذا بانَ ظُهورُه في بَعضِ الاحتِمالاتِ وجَبَ تَنزيلُ اللَّفظِ عليه، وسَقَطَ التَّقسيمُ
[1955] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/307)، ((نفائس الأصول)) للقرافي (8/3474)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3591)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/429)، ((التحبير)) للمرداوي (7/3575). .
مِثالُ الظَّاهرِ بالوَضعِ: لفظُ المَعصيةِ في مَسألةِ صَومِ يَومِ النَّحرِ ظاهِرٌ في كونِه مَعصيةً لعَينِه، فكَونُه مَعصيةً لغَيرِه خِلافُ الظَّاهرِ، فلا يَصِحُّ التَّقسيمُ إليه
[1956] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/496). .
ومِثالُ بَيانِ المُستَدِلِّ لمُرادِه عُرفًا: قَولُ المُستَدِلِّ: لا يَنقُضُ الوُضوءَ الدَّمُ اليَسيرُ الخارِجُ مِن المُصَلِّي؛ لأنَّه مَعفوٌّ عنه؛ قياسًا على ما لو كان خارِجَ الصَّلاةِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: إنَّ لفظَ "اليَسيرِ" احتَمَل ثَلاثةَ مَعانٍ:
أحَدُها: اليَسيرُ في نَظَرِ الجافِينَ. وثانيهما: اليَسيرُ في نَظَرِ المُغالِينَ. وثالثُهما: اليَسيرُ في نَظَرِ المُعتَدِلينَ.
والأوَّلُ والثَّاني: مَمنوعانِ، والثَّالِثٌ: مُسَلَّم؛ لجَرَيانِه على مَنهَجِ الشَّريعةِ.
فيُجيبُ المُستَدِلُّ بقَولِه: إنَّ لفظَ "اليَسيرِ" ظاهِرُ الدَّلالةِ في أنَّ المُرادَ به اليَسيرُ في نَظَرِ المُعتَدِلينَ؛ لأنَّ العُرفَ يَقتَضي صَرفَ مِثلِ هذا التَّقديرِ إليهم
[1957] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2215). .
ومِثالُ الظَّاهرِ بالعُرفِ شَرعًا: قَولُ المُستَدِلِّ: الوُضوءُ طَهارةُ قُربةٍ اشتُرِطَت لها النِّيَّةُ؛ قياسًا على غَيرِها مِن القُرَبِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: لَفظُ "طَهارةٍ" يَحتَمِلُ مَعنَيَينِ:
أحَدُهما: أنَّها طَهارةُ قُربةٍ بمَعنى النَّظافةِ مِن الخَبَثِ، وهذا مَمنوعٌ كونُه مِن القُرَبِ التي هيَ عِلَّةٌ في وُجوبِ النِّيَّةِ.
ثانيهما: أنَّها طَهارةُ قُربةٍ بمَعنى الأفعالِ المَخصوصةِ التي هيَ الوُضوءُ الشَّرعيُّ، وهذا مُسَلَّمٌ.
فيُجيبُ المُستَدِلُّ بقَولِه: إنَّ لفظَ الطَّهارةِ ظاهِرُ الدَّلالةِ شَرعًا في أنَّ المُرادَ به الوُضوءُ الشَّرعيُّ؛ لأنَّه هو المُتَبادِرُ عِندَ الإطلاقِ
[1958] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2215). .
الوَجهُ الثَّالثُ: أن يُعَيِّنَ المُستَدِلُّ بَعضَ مُحامِلِ اللَّفظِ، بأن يَختارَ المَعنى الذي سَلَّمَ به المُعتَرِضُ، فيَقولَ به، فيَندَفِعَ عنه مُقتَضى التَّقسيمِ
[1959] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/308)، ((نفائس الأصول)) للقرافي (8/3474). .
مِثالُه: قَولُ المُستَدِلِّ: المُكرَهُ على القَتلِ مُختارٌ للقَتلِ، فيُقتَصُّ مِنه كالمُكرِهِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: لفظُ "مُختارٍ" يَحتَمِلُ مَعنَيَينِ: أوَّلُهما: أنَّ المُرادَ به الفاعِلُ الرَّاغِبُ في القَتلِ. وثانيهما: أنَّ المُرادَ به الفاعِلُ القادِرُ على القَتلِ. والأوَّلُ مَمنوعٌ، والثَّاني مُسَلَّمٌ.
فيُجيبُ المُستَدِلُّ بقَولِه: أنا أختارُ المَعنى الثَّانيَ، وهو: الفاعِلُ القادِرُ على القَتلِ
[1960] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2216). .
الوَجهُ الرَّابعُ: أن يُبَيِّنَ المُستَدِلُّ احتِمالًا لم يَتَعَرَّضْ له المُعتَرِضُ
[1961] يُنظر: ((نفائس الأصول)) للقرافي (8/3474). .
فإنَّه إذا لم يَكُنِ التَّقسيمُ الذي ذَكَرَه المُعتَرِضُ حاصِرًا لجَميعِ الاحتِمالاتِ فللمُستَدِلِّ أن يُبَيِّنَ أنَّ مَورِدَه غَيرُ ما عَيَّنَه المُعتَرِضُ بالذِّكرِ، فعِندَ ذلك يَندَفِعُ الاعتِراضُ؛ لاحتِمالِ أن يَكونَ ذلك المَعنى الذي لم يَذَكُرْه المُعتَرِضُ هو مُرادَ المُستَدِلِّ
[1962] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/307). .
فمَثَلًا لو قال المُستَدِلُّ: المَرأةُ البالغةُ العاقِلةُ يَجوزُ لها وِلايةُ عَقدِ النِّكاحِ؛ لأنَّها عاقِلةٌ، فصَحَّ مِنها النِّكاحُ كالرَّجُلِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: لفظُ "عاقِلةٍ" مُتَرَدِّدٌ بَينَ مَعنَيَينِ: الأوَّلُ: أنَّها عاقِلةٌ بمَعنى أنَّ لها تَجرِبةً، وهذا مَمنوعٌ. والثَّاني: أنَّها عاقِلةٌ بمَعنى أنَّ لها حُسنَ رَأيٍ وتَدبيرٍ، وهذا مُسَلَّمٌ.
فهذا التَّقسيمُ غَيرُ حاصِرٍ؛ لاحتِمالِ أن يورِدَ المُستَدِلُّ المَعنى الثَّالِثَ لكَونِها عاقِلةً، وهو: أنَّ لها عَقلًا غَريزيًّا يُمكِنُ أن تُدرِكَ به المَصالِحَ والمَفاسِدَ، ويَكونُ هذا هو مُرادَ المُستَدِلِّ، فيَبطُلُ تَقسيمُ المُعتَرِضِ
[1963] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/396)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2071)، ((التحبير)) للمرداوي (7/3574)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2212). .