موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ الثَّامِنُ: قادِحُ المُعارَضةِ في الأصلِ


هو: أن يُبَيِّنَ في الأصلِ عِلَّةً سِوى عِلَّةِ المُعَلِّلِ، وتَكونَ تلك العِلَّةُ مَعدومةً في الفَرعِ، ويَقولَ: إنَّ الحُكمَ في الأصلِ ثَبَتَ بهذه العِلَّةِ التي ذَكَرتُها في الأصلِ لا بالعِلَّةِ التي ذَكَرتَها [2084] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/225). .
وقيل: هو أن يَذكُرَ السَّائِلُ عِلَّةً أُخرى في المَقيسِ عليه تُفقَدُ هيَ في الفرعِ، ويُسنَدُ الحُكمُ إليها؛ مُعارِضًا للمُجيبِ في عِلَّتِه [2085] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/64). .
شَرحُ التَّعريفِ المُختارِ:
المَعنى: أن يُبديَ المُعتَرِضُ عِلَّةً أُخرى في الأصلِ الذي قاسَ عليه المُستَدِلُّ غَيرَ العِلَّةِ التي عَلَّل بها المُستَدِلُّ، ويَدَّعيَ المُعتَرِضُ أنَّ الحُكمَ في الأصلِ نَشَأ بالعِلَّةِ التي ذَكَرَها لا بالعِلَّةِ التي ذَكَرَها المُستَدِلُّ، وهذه العِلَّةُ التي ذَكَرَها المُعتَرِضُ مَعدومةٌ في الفرعِ، وحينَئِذٍ لا يَتَعَيَّنُ ما ذَكَرَه المُستَدِلُّ لأن يَكونَ عِلَّةً للحُكمِ [2086] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/528)، ((شرح العضد على مختصر ابن الحاجب)) (3/517)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/416). .        
وهذه المُعارَضةُ مَبنيَّةٌ على القَولِ بمَنعِ تَعَدُّدِ العِلَلِ المُستَنبَطةِ؛ لأنَّه على القَولِ بجَوازِ تَعَدُّدِها، فلا مانِعَ مِن أن تَكونَ كِلتا العِلَّتَينِ صحيحةً.
أمَّا العِللُ المنصوصةُ فلا خِلافَ في جَوازِ تَعَدُّدِها، كالبَولِ والنَّومِ لنَقضِ الوُضوءِ، ولا تَرِدُ عليها هذه المُعارَضةُ [2087] يُنظر: ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 472). .
مِثالُ المُعارَضةِ في الأصلِ:
قَولُ المُستَدِلِّ (الحَنَفيِّ) في عَدَمِ وُجوبِ تَبييتِ النِّيَّةِ في صَومِ الفَرضِ: إنَّ هذا صَومُ عَينٍ، فيَتَأدَّى بالنِّيَّةِ قَبلَ الزَّوالِ؛ قياسًا على صَومِ النَّفلِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: ليسَ المَعنى في الأصلِ -وهو صَومُ النَّفلِ- ما ذَكَرتَ، بَل المَعنى في الأصلِ أنَّ النَّفلَ مَبنيٌّ على السُّهولةِ والتَّخفيفِ، فلمَّا بُنيَ أمرٌ على الخِفَّةِ والسُّهولةِ جازَ أداؤُه بنيَّةٍ مُتَأخِّرةٍ عن الشُّروعِ، بخِلافِ الفَرضِ؛ فإنَّه لم يُبنَ على السُّهولةِ والخِفَّةِ، فلا يَجوزُ بنيَّةٍ مُتَأخِّرةٍ، وبناءً على ذلك لا يَجوزُ قياسُه على صَومِ النَّفلِ [2088] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/225)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/416). .
وقادِحُ المُعارَضةِ هو الذي عَبَّرَ عنه كثيرٌ مِن الفُقَهاءِ بقادِحِ الفَرقِ [2089] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/225)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3606)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (4/66). قال السَّمعانيُّ: (هذا هو الفَرقُ الذي جَعَله كَثيرٌ مِن فُقَهاءِ الفريقَينِ أقوى سُؤالٍ، وظَنُّوه فِقهَ المَسألةِ، وبه تَمَسَّك المُناظِرونَ مِن فُقَهاءِ غزنةَ وكَثيرٍ في بلادِ خُراسانَ، وزَعَموا أنَّ الفِقهَ هو الفَرقُ والجَمعُ). .
لأنَّ حاصِلَه عِبارةٌ عن إبداءِ وَصفٍ في الأصلِ يَصلُحُ أن يَكونَ عِلَّةً مُستَقِلَّةً للحُكمِ، أو جُزءَ عِلَّةٍ، وهو مَعدومٌ في الفرعِ، بأن يَجمَعَ المُستَدِلُّ بَينَ الأصلِ والفَرعِ بأمرٍ مُشتَرَكٍ بَينَهما، فيُبديَ المُعتَرِضُ وصفًا فارِقًا بَينَه وبَينَ الفَرعِ [2090] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/379). .
قال ابنُ عَقيلٍ: (المُعارَضةُ في الأصلِ هيَ الفَرقُ الذي يَقصِدُ به المَعارِضُ قَطعَ الأصلِ مِن الفَرعِ) [2091] ((الواضح)) (2/306). .
وقال الآمِديُّ: (اعلَمْ أنَّ سُؤالَ الفَرقِ عِندَ أبناءِ زَماننا لا يَخرُجُ عن المُعارَضةِ في الأصلِ أو الفرعِ، إلَّا أنَّه عِندَ بَعضِ المُتَقدِّمينَ عِبارةٌ عن مَجموعِ الأمرَينِ، حتَّى إنَّه لو اقتَصَرَ على أحَدِهما لا يَكونُ فرقًا) [2092] ((الإحكام)) (4/103). .
أقسامُ المُعارَضةِ في الأصلِ:
تَنقَسِمُ المُعارَضةُ في الأصلِ مِن حَيثُ استِقلالُ العِلَّةِ التي يُبديها المُعتَرِضُ وعَدَمُ استِقلالِها إلى قِسمَينِ:
القِسمُ الأوَّلُ: مُعارَضةٌ بوَصفٍ يَصلُحُ أن يَكونَ عِلَّةً مُستَقِلَّةً، بأن يَكونَ ما ذَكَرَه المُعتَرِضُ مستقِلًّا بالتَّعليلِ، كما إذا عَلَّل المُستَدِلُّ الحُكمَ بمَعنًى، وأثبَتَه بطَريقٍ، وأبدى المُعارِضُ مَعنًى آخَرَ في الأصلِ، وأثبَتَ عِلِّيَّتَه بطَريقِه [2093] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/93)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (3/211)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1380)، ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 726). .
مِثالُه: قَولُ المُستَدِلِّ: لا يَجوزُ بَيعُ الفواكِه مُتَفاضِلًا؛ قياسًا على البُرِّ، بجامِعِ الطُّعمِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: لا أُسَلِّمُ أنَّ الطُّعمَ هو العِلَّةُ في الأصلِ، وإنَّما العِلَّةُ: القُوتُ أو الكَيلُ، وهذه عِلَّةٌ مُستَقِلَّةٌ، ولا توجَدُ في الفَرعِ الذي هو الفواكِهُ، فلا يَصِحُّ القياسُ [2094] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/93)، ((نفائس الأصول)) للقرافي (8/3477)، ((شرح العضد على مختصر ابن الحاجب)) (3/517). .
القِسمُ الثَّاني: مُعارَضةٌ بوصفٍ يَصلُحُ أن يَكونَ جُزءَ عِلَّةٍ، بأن يَكونَ ما ذَكَرَه المُعتَرِضُ غَيرَ مُستَقِلٍّ بالتَّعليلِ على وَجهٍ يَكونُ داخِلًا في التَّعليلِ وجُزءًا مِن العِلَّةِ، كما إذا عَلَّل المُستَدِلُّ الحُكمَ بمَعنًى، وأثبَتَه بطَريقٍ، وأبدى المُعارِضُ مَعنًى آخَرَ في الأصلِ، وأثبَتَ كونَه جُزءًا مِن العِلَّةِ في الأصلِ [2095] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/93)، ((نفائس الأصول)) للقرافي (8/3477)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (3/211)، ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 726). .
مِثالُه: قَولُ المُستَدِلِّ: يَجِبُ القِصاصُ في القَتلِ بالمُثَقَّلِ؛ قياسًا على القَتلِ بالمُحَدَّدِ، والعِلَّةُ: كونُه قَتلًا عَمدًا عُدوانًا.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: ليسَت العِلَّةُ في الأصلِ هيَ ما ذَكَرتَ فقَط، بَل لا بُدَّ أن يُضافَ لَفظُ: "بجارِحٍ"، فتَكونَ العِلَّةُ كامِلةً هيَ: القَتلُ العَمدُ العُدوانُ بجارِحٍ، وهذه لا توجَدُ في الفرعِ، وهو القَتلُ بالمُثقَّلِ، والمُعتَرِضُ لا يَجعَلُ الجارِحَ مُستقِلًّا، بَل جُزءًا مِن العِلَّةِ [2096] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/93)، ((شرح العضد على مختصر ابن الحاجب)) (3/517)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/443). .
حُجِّيَّةُ قادِحِ المُعارَضةِ في الأصلِ:
يَجوزُ للمُعتَرِضِ إيرادُ المُعارَضةِ في الأصلِ، ويُعَدُّ قادِحًا، والاعتِراضُ بها مَقبولٌ، وهذا هو قَولُ جُمهورِ الأُصوليِّينَ [2097] يُنظر: ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 440)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1381)، ((التحبير)) للمرداوي (7/3627)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/295). .
وقَيَّدَ الحَنَفيَّةُ قَبولَها بأن تَكونَ بمَعنى إقامةِ الدَّليلِ على نَفي عِلِّيَّةِ ما أثبَتَه المُعَلِّلُ [2098] يُنظر: ((التوضيح)) لصدر الشريعة (2/188)، ((فصول البدائع)) للفناري (2/401). .
الدَّليلُ على قَبولِ قادِحِ المُعارَضةِ في الأصلِ:
أنَّه إذا وُجِدَ في الأصلِ وصفانِ، فإمَّا أن يَكونَ كُلُّ واحِدٍ عِلَّةً مُستَقِلَّةً، أو لا يَكونُ كذلك.
ولا يَجوزُ أن يَكونَ كُلُّ واحِدٍ عِلَّةً مُستَقِلَّةً، سَواءٌ كانت العِلَّةُ بمَعنى الأمارةِ أو الباعِثِ.
وإن لم يَكُنْ كُلُّ واحِدٍ عِلَّةً مُستَقِلَّةً: فيُحتَمَلُ أن يَكونَ عِلَّةُ الحُكمِ هو الوصفَ الذي ذَكَرَه المُستَدِلُّ، ويُحتَمَلُ أن يَكونَ عِلَّتُه الوَصفَ الذي ذَكَرَه المُعتَرِضُ، أي الذي بَيَّنَه في الأصلِ، ويُحتَمَلُ أن يَكونَ عِلِّيَّةُ الوَصفَينِ جَميعًا: الذي عَلَّل به المُستَدِلُّ، والذي بَيَّنَه المُعتَرِضُ، بحَيثُ تَكونُ العِلَّةُ مَجموعَ الوَصفَينِ، وكُلُّ واحِدٍ مِنهما جُزؤُها.
ولا يَجوزُ أن يُقالَ بالأوَّلِ ولا بالثَّاني؛ لأنَّه ليسَ تَعيينُ أحَدِهما للتَّعليلِ وإلغاءُ الآخَرِ -مَعَ تَساويهما في الاقتِضاءِ- أَولى مِن الآخَرِ.
فلم يَبقَ غَيرُ الاحتِمالِ الثَّالثِ، ويَلزَمُ مِنه امتِناعُ تَعديةِ الحُكمِ مِن الأصلِ إلى الفرعِ بها؛ بحُكمِ أنَّ العِلَّةَ هنا عِبارةٌ عن مَجموعِ الوصفَينِ.
وبتَقديرِ تَساوي الاحتِمالاتِ الثَّلاثةِ تَمتَنِعُ التَّعديةُ على تَقديرِ أنَّ العِلَّةَ هيَ ما ذَكَرَه المُعتَرِضُ، أو هيَ مَجموعُ الوَصفَينِ [2099] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/93)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/528). .
ويَكفي المُعتَرِضَ في تَقريرِ المُعارَضةِ بَيانُ مُطلَقِ تَعارُضِ الاحتِمالاتِ المَذكورةِ، سَواءٌ كانت مُتَساويةً أو بَعضُها راجِحًا وبَعضُها مَرجوحًا [2100] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/531). .
مِثالُ ذلك: أن يُعَلِّلَ الحَنبَليُّ قَتلَ المُرتَدَّةِ بقَولِه: بَدَّلَت دينَها، فتُقتَلُ؛ قياسًا على الرَّجُلِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: لا يَتَعَيَّنُ أن يَكونَ تَبديلُ الدِّينِ هو عِلَّةَ القَتلِ، بَل هناكَ مَعنًى آخَرُ في الرَّجُلِ يَقتَضي قَتلَه، وليسَ هذا المَعنى مَوجودًا في المَرأةِ، وهو جِنايَتُه على المُسلمينَ بتَنقيصِ عَدَدِهم، وتَكثيرِ عَدُوِّهم وتَقويَتِه؛ إذ هو مِن أهلِ الحَربِ والنِّكايةِ.
وحينَئِذٍ جازَ أنَّ العِلَّةَ في قَتلِ الرَّجُلِ تَبديلُ الدِّينِ، أو الجِنايةُ على المُسلمينَ، أو الأمرانِ جَميعًا. وحينَئِذٍ لا يَتَعَيَّنُ أن يَكونَ تَبديلُ الدِّينِ فقَط هو عِلَّةَ القَتلِ [2101] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/529). .
وقيل: لا تَكونُ قادِحًا، وليسَ للمُعتَرِضِ إيرادُ المُعارَضةِ في الأصلِ، والاعتِراضُ بها مَردودٌ، وهو قَولُ بَعضِ الأُصوليِّينَ؛ بناءً مِنهم على أنَّ حاصِلَه تَعليلُ الحُكمِ بعِلَّتَينِ، وهو غَيرُ مُمتَنِعٍ في الحُكمِ الشَّرعيِّ؛ ولهذا لو قدَّرنا انفِرادَ ما ذَكَرَ المُستَدِلُّ مُجَرَّدًا عن المَعارِضِ لصَحَّ التَّعليلُ به إجماعًا، وإذا صَحَّ التَّعليلُ به مَعَ عَدَمِ المَعارِضِ صَحَّ مَعَ وُجودِه [2102] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/93)، ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/409)، ((نفائس الأصول)) للقرافي (8/3477)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/443). .
هَل على المُعتَرِضِ نَفيُ ما أبداه مُعارِضًا في الأصلِ عن الفَرعِ؟
الصَّحيحُ هو التَّفصيلُ، وهو أنَّ المُعتَرِضَ إن قَصَدَ الفرقَ بَينَ الأصلِ والفَرعِ فلا بُدَّ له مِن نَفيِه عن الفرعِ؛ لتَحقيقِ مُسَمَّى الفَرقِ، وإن لم يَقصِدِ الفرقَ فلا يَلزَمُه نَفيُه عن الفَرعِ، بأن يَقولَ: هذا الوصفُ قد ثَبَتَ أنَّه لا بُدَّ مِن إدراجِه في التَّعليلِ؛ لما دَلَّ عليه الدَّليلُ، فإن كان غَيرَ مَوجودٍ في الفرعِ فقد ثَبَتَ الفرقُ. وإن كان مَوجودًا في الفرعِ فالحُكمُ يَكونُ في الفرعِ بمَجموعِ الوصفَينِ، ويَتَبَيَّنُ أنَّ المُستَدِلَّ لم يَكُنْ ذاكِرًا للعِلَّةِ في الابتِداءِ بَل لبَعضِها، وأيُّ الأمرَينِ قُدِّرَ فالإشكالُ لازِمٌ. وهو قَولُ بَعضِ الأُصوليِّينَ، كالآمِديِّ [2103] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/94). ، وابنِ التِّلِمسانيِّ [2104] يُنظر: ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/410). .
وقيل: لا يَجِبُ عليه ذلك؛ لأنَّه إن كان مَوجودًا في الفرعِ افتَقَرَ المُستَدِلُّ إلى بَيانِ وجودِه فيه ليَصِحَّ الإلحاقُ، وإن لم يُبَيِّنْ ذلك فقد انقَطَعَ الجَمعُ، أي: لم يوجَدِ الجامِعُ بَينَ الأصلِ والفَرعِ [2105] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/94)، ((نفائس الأصول)) للقرافي (8/3478). .
وقيل: لا بُدَّ له مِن نَفيِه عن الفرعِ؛ لأنَّ مَقصودَه بَيانُ الفَرقِ بَينَ الأصلِ والفَرعِ؛ وذلك لا يَتِمُّ دونَ نَفيِه عن الفرعِ [2106] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/94)، ((التحبير)) للمرداوي (7/3629)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/296). .
كيفيَّةُ الجَوابِ عن قادِحِ المُعارَضةِ في الأصلِ:
للمُستَدِلِّ أن يُجيبَ عن اعتِراضِ المُعتَرِضِ بهذا القادِحِ، بأربَعةِ طُرُقٍ:
الطَّريقُ الأوَّلُ: مَنعُ وُجودِ الوَصفِ المُعارَضِ به في الأصلِ، فيُبَيِّنُ المُستَدِلُّ أنَّ الحُكمَ ثابتٌ بدونِ ما ذَكَرَه المُعتَرِضُ [2107] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/322)، ((الإحكام)) للآمدي (4/95)، ((نفائس الأصول)) للقرافي (8/3478)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/447). .
فالمُستَدِلُّ لا يَكفيه في دَفعِ المُعارَضةِ إلَّا أن يُبَيِّنَ أنَّ الوَصفَ الذي عَلَّل به مُستَقِلٌّ بثُبوتِ الحُكمِ، بحَيثُ لا يَتَوقَّفُ ثُبوتُه على وَصفِ المُعتَرِضِ ولا غَيرِه [2108] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/531). .
مِثالُه: استِدلالُ المالِكيِّ في وُجوبِ القَتلِ بالمُثَقَّلِ بأنَّه قَتلُ عَمدٍ عُدوانٌ، فيَجِبُ فيه القِصاصُ؛ قياسًا على القَتلِ بالمُحَدَّدِ. والعِلَّةُ: كونُه قَتلًا عَمدًا عُدوانًا.
فيَقولُ الحَنَفيُّ: لا أُسَلِّمُ أنَّ القَتلَ العَمدَ العُدوانَ مُستَقِلٌّ بالعِلَّةِ حتَّى يَنضافَ إليه كَونُ المَقتولُ به جارِحًا. فتَكونُ العِلَّةُ هيَ القَتلَ العَمدَ العُدوانَ بجارِحٍ.
فيُجيبُ المالكيُّ بأنَّ القَتلَ العَمدَ العُدوانَ مُناسِبٌ للحُكمِ، ومُفضٍ إلى الحِكمةِ المَقصودةِ مِنه، وهو الزَّجرُ، فوجَبَ أن يَكونَ مستَقِلًّا في الاعتِبارِ دونَ وَصفِ الجارِحِ [2109] يُنظر: ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 727). .
الطَّريقُ الثَّاني: أن يُبَيِّنَ المُستَدِلُّ أنَّ ما ذَكَرَه المُعتَرِضُ مُلغًى في جِنسِ الأحكامِ، كالطُّولِ والقِصَرِ ونَحوِه [2110] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/96)، ((نفائس الأصول)) للقرافي (8/3478). .
مِثالُه: قَولُ المُستَدِلِّ: لا يَجوزُ بَيعُ الأرُزِّ بالأرُزِّ مُتَفاضِلًا؛ قياسًا على البُرِّ، بجامِعِ الطُّعمِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: ليسَت العِلَّةُ كما ذَكَرتَ، ولكِنَّ العِلَّةَ في الأصلِ هيَ كونُه مَطعومًا، وكَونُ لَونِه يَميلُ للحُمرةِ.
فيُجيبُ المُستَدِلُّ بقَولِه: إنَّ وَصفَ الحُمرةِ مُلغًى شَرعًا؛ لأنَّه وصفٌ طَرديٌّ لا يُؤَثِّرُ في الأحكامِ [2111] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2264). .
الطَّريقُ الثَّالثُ: أن يُبَيِّنَ المُستَدِلُّ أنَّ العِلَّةَ التي ذَكَرَها ثابتةٌ بنَصٍّ، أو تَنبيهٍ مِن الشَّارِعِ، أو غَيرِ ذلك مِن طُرُقِ إثباتِ العِلَّةِ [2112] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/323)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/532). .
مِثالُه: قَولُ الشَّافِعيَّةِ في جَرَيانِ الرِّبا في التُّفَّاحِ: مَطعومٌ، فوجَبَ أن يَكونَ فيه الرِّبا؛ قياسًا على البُرِّ، فالعِلَّةُ فيه هيَ الطُّعمُ.
فيَقولُ المالِكيُّ: لا نُسَلِّمُ أنَّ الطُّعمَ هو العِلَّةُ؛ فإنَّ القوتَ وصفٌ يَصلُحُ أن يَكونَ عِلَّةً مُستَقِلَّةً، وهو غَيرُ مَوجودٍ في التُّفَّاحِ.
فيُجيبُ الشَّافِعيُّ بأنَّ الطُّعمَ عِلَّةٌ مُستَقِلَّةٌ، بقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "لا تَبيعوا الطَّعامَ بالطَّعامِ إلَّا سَواءً بسَواءٍ" [2113] أخرجه مسلم (1592) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُه: عن مَعمَرِ بنِ عبدِ اللَّهِ أنَّه أرسَل غُلامَه بصاعِ قَمحٍ، فقال: بِعْه، ثُمَّ اشتَرِ به شَعيرًا، فذَهَبَ الغُلامُ، فأخَذَ صاعًا وزيادةَ بَعضِ صاعٍ، فلمَّا جاءَ مَعمَرًا أخبَرَه بذلك، فقال له مَعمَرٌ: لمَ فعَلتَ ذلك؟! انطَلِقْ فرُدَّه، ولا تَأخُذَنَّ إلَّا مِثلًا بمِثلٍ؛ فإنِّي كُنتُ أسمَعُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: الطَّعامُ بالطَّعامِ مِثلًا بمِثلٍ. قال: وكان طَعامُنا يَومَئِذٍ الشَّعيرَ، قيل له: فإنَّه ليسَ بمِثلِه، قال: إنِّي أخافُ أن يُضارِعَ. فهذا النَّصُّ فيه إيماءٌ إلى كون الطُّعمِ عِلَّةً لامتِناعِ التَّفاضُلِ؛ إذ الحُكمُ المُرَتَّبُ على الوصفِ يُشعِرُ بالعِلِّيَّةِ [2114] يُنظر: ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 727)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (3/339)، ((التحبير)) للمرداوي (7/3632). .
الطَّريقُ الرَّابعُ: أن يُبَيِّنَ المُستَدِلُّ رُجحانَ ما ذَكَرَه على ما عارَضَ به المُعتَرِضُ، فعِندَ ذلك يَمتَنِعُ جَعلُ ما عارَضَ به المُعتَرِضُ عِلَّةً مُستَقِلَّةً؛ لِما فيه مِن إهمالِ الرَّاجِحِ واعتِبارِ المَرجوحِ. ويَمتَنِعُ أن يَكونَ داخِلًا في التَّعليلِ؛ لِما فيه مِن إلغاءِ ما عَلَّل به المُستَدِلُّ في الفرعِ بتَخَلُّفِ الحُكمِ عنه مَعَ رُجحانِه [2115] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/323)، ((الإحكام)) للآمدي (4/96). .
مِثالُه: قَولُ المالكيِّ والحَنَفيِّ: إنَّ عِلَّةَ كفَّارةِ الجِماعِ في نَهارِ رَمَضانَ انتِهاكُ حُرمةِ رَمَضانَ، فتَجِبُ في الأكلِ والشُّربِ؛ قياسًا على الجِماعِ.
فيُعارِضُه الحَنبَليُّ والشَّافِعيُّ بخُصوصِ وَصفِ الجِماعِ الذي رَتَّبَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عليه حُكمَ الكَفَّارةِ.
فيُجيبُ المالِكيُّ والحَنَفيُّ بأنَّ الوَصفَ المُتَعَدِّيَ إلى غَيرِه أرجَحُ مِن الوَصفِ الذي لم يَتَعَدَّ إلى غَيرِه؛ لأنَّ التَّعديةَ مِن المُرَجِّحاتِ، وكَونُ العِلَّةِ هيَ انتِهاكَ حُرمةِ رَمَضانَ يَتَعَدَّى بها الحُكمُ مِن الجِماعِ إلى الأكلِ والشُّربِ، فتَجِبُ الكَفَّارةُ في الجَميعِ، وكَونُ العِلَّةِ خُصوصَ الجِماعِ تَكونُ به قاصِرةً على مَحَلِّها، فلا يَتَعَدَّى حُكمُها إلى شَيءٍ [2116] يُنظر: ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 475). .

انظر أيضا: