الفَرعُ العاشِرُ: قادِحُ عَدَمِ التَّأثيرِ
هو عَدَمُ إفادةِ الوَصفِ أثَرَه، بأن يَكونَ غَيرَ مُناسِبٍ، فيَبقى الحُكمُ بدونِه
[2150] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/356). .
وقيل: هو إبداءُ وَصفٍ في الدَّليلِ مُستَغنًى عنه في إثباتِ الحُكمِ أو نَفيِه
[2151] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/85). .
وقيل: هو إبداءُ وَصفٍ لا أثَرَ له
[2152] يُنظر: ((شرح العضد على مختصر ابن الحاجب)) (3/500)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/432). .
شَرحُ التَّعريفِ المُختارِ:التَّأثيرُ: هو إفادةُ الوَصفِ أثَرَه، فإذا لم يُفِدْه فهو عَدَمُ التَّأثيرِ
[2153] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/547). .
ومَعنى "عَدَمُ إفادةِ الوصفِ أثَرَه": أي: لا يُؤَثِّرُ وَصفٌ مِن الأوصافِ في الحُكمِ، ويَكونُ التَّأثيرُ لغَيرِه
[2154] يُنظر: ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (2/262). .
ومَعنى "فيَبقى الحُكمُ بدونِه": أي: يُبَيِّنُ المُعتَرِضُ وُجودَ الحُكمِ مَعَ عَدَمِ العِلَّةِ
[2155] يُنظر: ((الواضح)) لابن عقيل (2/236). ، وذلك بأن يَكونَ الحُكمُ مَوجودًا مَعَ وَصفٍ، ثُمَّ يُعدَمُ ذلك الوَصفُ ويَبقى الحُكمُ، فيَقدَحُ
[2156] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 401). .
والمُرادُ بالتَّعريفِ: أن يُبَيِّنَ المُعتَرِضُ أنَّ الوَصفَ الذي ذَكَرَه المُستَدِلُّ لا مُناسَبةَ فيه للحُكمِ، ولا أثَرَ له فيه، فيبقى الحُكمُ بدونِ ذلك الوَصفِ
[2157] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2275). .
ولا بُدَّ في قادِحِ عَدَمِ التَّأثيرِ مِن التِزامِ عَدَمِ الحُكمِ عِندَ عَدَمِ العِلَّةِ، وهو مَعنى قَولِ الفُقَهاءِ: إنَّ الحُكمَ إذا تَعَلَّقَ بعِلَّةٍ زال بزَوالِها؛ ولهذا التَزَموا الطَّردَ والعَكسَ في بابِ الرِّبا، بأنَّ حُكمَ الرِّبا لا يَثبُتُ اتِّفاقًا دونَ عِلَّةِ الرِّبا
[2158] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/357). .
وتَأثيرُ العِلَّةِ في الحُكمِ مَعناه: انتِفاءُ الحُكمِ عِندَ انتِفاءِ الوَصفِ في نَفسِ المَحَلِّ الذي ثَبَتَت عِلِّيَّةُ الوَصفِ فيه؛ فالحُكمُ إذا تَعَلَّقَ بعِلَّةٍ وثَبَتَ بها فذلك الحُكمُ الذي صارَ نَتيجةَ العِلَّةِ لا يَبقى دونَ العِلَّةِ؛ لأنَّ النَّتيجةَ لا تَبقى دونَ النَّاتِجِ، فيَكونُ على هذا مَعنى عَدَمِ التَّأثيرِ: وُجودَ الحُكمِ بدونِ الوَصفِ في المَحَلِّ الذي ثَبَتَت عِليَّتُه فيه
[2159] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/357)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2275). .
فإذا كان في أوصافِ العِلَّةِ وَصفٌ لا تَأثيرَ له، بحَيثُ لو عَدِمَ عن الأصلِ لم يَعدَمِ الحُكمُ عنه؛ فإنَّه يُعلَمُ بذلك أنَّه لا يَجوزُ أن تَكونَ العِلَّةُ مَجموعَ تلك الأوصافِ، بَل يَنبَغي أن يُرفَضَ مِنها ذلك الوَصفُ؛ لأنَّه لو أُثبِتَ في العِلَّةِ ما لا يَضُرُّ عَدَمُه وجَبَ إثباتُ ما لا نِهايةَ له مِن الأوصافِ
[2160] يُنظر: ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (2/261). .
والدَّليلُ على أنَّ عَدَمَ التَّأثيرِ يَقدَحُ في كونِ الوَصفِ عِلَّةً: أنَّ الحُكمَ لمَّا بَقيَ بَعدَ عَدَمِه، وكان مَوجودًا قَبلَ وُجودِ ذلك الوَصفِ ضَرورةَ أنَّه قديمٌ، والوَصفُ حادِثٌ، عَلِمنا استِغناءَه عنه، والمُستَغني عن الشَّيءِ لا يَكونُ مُعَلَّلًا به
[2161] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/261)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3442). .
مِثالُ عَدَمِ التَّأثيرِ:قَولُ المُستَدِلِّ في عَدَمِ صِحَّةِ بَيعِ الغائِبِ: مَبيعٌ غَيرُ مَرئيٍّ، فلا يَصِحُّ بَيعُه؛ قياسًا على الطَّيرِ في الهَواءِ والسَّمَكِ في الماءِ، بجامِعِ عَدَمِ الرُّؤيةِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: عَدَمُ الرُّؤيةِ لا تَأثيرَ له في الحُكمِ؛ لبَقاءِ الحُكمِ المَذكورِ بَعدَ زَوالِه فيما إذا صارَ البَيعُ مَرئيًّا ولكِنَّه غَيرُ مَقدورٍ على تَسليمِه؛ لأنَّ كونَه غَيرَ مَرئيٍّ وإن ناسَبَ نَفيَ الصِّحَّةِ فلا تَأثيرَ له في مَسألةِ الطَّيرِ؛ فإنَّ العَجزَ عن تَسليمِه مُستَقِلٌّ وكافٍ في مَنعِ الصِّحَّةِ ضَرورةَ استِواءِ المَرئيِّ وغَيرِ المَرئيِّ فيها؛ فما ذَكَرتَه مِن الوَصفِ وإن كان مُناسِبًا لنَفيِ الصِّحَّةِ، إلَّا أنَّه يُغني عنه وَصفُ العَجزِ عن التَّسليمِ
[2162] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/548)، ((شرح العضد على مختصر ابن الحاجب)) (3/500)، ((الإبهاج)) لابن السبكي (6/2467). .
أقسامُ عَدَمِ التَّأثيرِ:يَنقَسِمُ قادِحُ عَدَمِ التَّأثيرِ إلى أربَعةِ أقسامٍ: أعلاها: ما يَظهَرُ عَدَمُ تَأثيرِ الوَصفِ مُطلقًا، ثُمَّ أن يَظهَرَ عَدَمُ تَأثيرِه في ذلك الأصلِ، ثُمَّ أن يَظهَرَ عَدَمُ تَأثيرِ قَيدٍ مِنه، ثُمَّ ألَّا يَظهَرَ شَيءٌ مِن ذلك لكِن لا يَطَّرِدُ في مَحَلِّ النِّزاعِ، فيُعلَمُ مِنه عَدَمُ تَأثيرِه. وخُصَّ كُلُّ قِسمٍ باسمٍ؛ تَمييزًا لبَعضِها عن بَعضٍ، وتَسهيلًا للعِبارةِ عنها باختِصارٍ
[2163] يُنظر: ((شرح العضد على مختصر ابن الحاجب)) (3/500). . وفيما يَلي بَيانُ هذه الأقسامِ:
القِسمُ الأوَّلُ: عَدَمُ التَّأثيرِ في الوَصفِ: وهو ما كان فيه الوَصفُ غَيرَ مُؤَثِّرٍ، بأن يَكونَ الوَصفُ طَرديًّا لا مُناسَبةَ فيه ولا شَبَهَ
[2164] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/85)، ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/398)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/357). .
مِثالُه: قَولُ المُستَدِلِّ: صَلاةُ الصُّبحِ صَلاةٌ لا تُقصَرُ، فلا يُقدَّمُ أذانُها على وقتِها؛ قياسًا على صَلاةِ المَغرِبِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: إنَّ الوَصفَ الذي عَلَّلتَ به -وهو عَدَمُ القَصرِ- إنَّما هو وَصفٌ طَرديٌّ بالنِّسبةِ إلى وَصفِ التَّقديمِ؛ لأنَّ عَدَمَ القَصرِ لا تَأثيرَ له في عَدَمِ تَقديمِ الأذانِ؛ فإنَّه لا مُناسَبةَ ولا شَبَهَ، فلا يُعتَبَرُ؛ لأنَّه غَيرُ مُناسِبٍ لتَقديمِ الأذانِ على الوَقتِ ولا عَدَمِه؛ ولذلك كان الحُكمُ الذي هو مَنعُ تَقديمِ الأذانِ على الوَصفِ مَوجودًا فيما قُصِرَ مِن الصَّلواتِ
[2165] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/548)، ((شرح العضد على مختصر ابن الحاجب)) (3/500)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/432)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/357). .
القِسمُ الثَّاني: عَدَمُ التَّأثيرِ في الأصلِ: وهو أن يَكونَ الوَصفُ قد استُغنيَ عنه في إثباتِ الحُكمِ في الأصلِ المَقيسِ عليه؛ للاستِغناءِ عنه بوصفٍ آخَرَ؛ لوُجودِ مَعنًى آخَرَ مُستَقِلٍّ بالغَرَضِ، فيُبَيِّنُ المُعتَرِضُ أنَّ الوَصفَ الذي عَلَّل به المُستَدِلُّ في المَقيسِ عليه مُستَغنًى عنه، ويَذَكُرُ المُعتَرِضُ وَصفًا آخَرَ فيه مُستَقِلًّا بإثباتِ الحُكمِ
[2166] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/85)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/432)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/358). .
مِثالُه: قَولُ المُستَدِلِّ في عَدَمِ صِحَّةِ بَيعِ الغائِبِ: مَبيعٌ غَيرُ مَرئيٍّ، فلا يَصِحُّ بَيعُه؛ قياسًا على الطَّيرِ في الهَواءِ، والسَّمَكِ في الماءِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: لا أثَرَ لكَونِه غَيرَ مَرئيٍّ في الأصلِ؛ لأنَّ كونَه غَيرَ مَرئيٍّ وإن ناسَبَ نَفيَ الصِّحَّةِ فلا تَأثيرَ له في مَسألةِ الطَّيرِ؛ فإنَّ العَجزَ عن تَسليمِه مُستَقِلٌّ وكافٍ في مَنعِ الصِّحَّةِ ضَرورةَ استِواءِ المَرئيِّ وغَيرِ المَرئيِّ فيها؛ فما ذَكَرتَه مِن الوَصفِ وإن كان مُناسِبًا لنَفيِ الصِّحَّةِ، إلَّا أنَّه يُغني عنه وَصفُ العَجزِ عن التَّسليمِ
[2167] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/548)، ((شرح العضد على مختصر ابن الحاجب)) (3/500). .
القِسمُ الثَّالثُ: عَدَمُ التَّأثيرِ في الحُكمِ المُعَلَّلِ: وهو تَقييدُ الحُكمِ بوصفٍ لا أثَرَ له فيه، ولا يُفيدُ المُعَلَّلَ ذِكرُه نَفعًا، فلا مَدخَلَ له في الحُكمِ، ولا تَعَلُّقَ له به
[2168] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/85)، ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/398)، ((نفائس الأصول)) للقرافي (8/3476)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/433). .
مِثالُه: قَولُ الحَنَفيَّةِ في المُرتَدِّينَ إذا أتلَفوا أموالَنا: مُشرِكونَ أتلَفوا مالًا في دارِ الحَربِ، فلا ضَمانَ عليهم؛ قياسًا على سائِرِ المُشرِكينَ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: دارُ الحَربِ وَصفٌ طَرديٌّ لا فائِدةَ في ذِكرِه، ولا تَأثيرَ له في نَفيِ الضَّمانِ وإثباتِه؛ ضَرورةَ استِواء الإتلافِ في دارِ الحَربِ ودارِ الإسلامِ في إيجابِ الضَّمانِ؛ فإنَّ مَن أوجَبَ الضَّمانَ أوجَبَه مُطلقًا، ومَن نَفاه نَفاه مُطلَقًا، سَواءٌ أكان في دارِ الحَربِ أم غَيرِها
[2169] يُنظر: ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (3/199)، ((شرح العضد على مختصر ابن الحاجب)) (3/500)، ((الإبهاج)) لابن السبكي (6/2471). .
القِسمُ الرَّابعُ: عَدَمُ التَّأثيرِ في الفرعِ: ويُسَمَّى عَدَمَ التَّأثيرِ في مَحَلِّ النِّزاعِ، مِن جِهةِ أنَّ الوَصفَ المَذكورَ لا يَطَّرِدُ في جَميعِ صُوَرِ النِّزاعِ وإن كان مُناسِبًا، فيُبَيِّنُ المُعتَرِضُ أنَّ المُستَدِلَّ قد ذَكَرَ وصفًا لا يوجَدُ في جَميعِ صُوَرِ الفَرعِ
[2170] يُنظر: ((نفائس الأصول)) للقرافي (8/3476)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/549)، ((شرح العضد على مختصر ابن الحاجب)) (3/501). .
مِثالُه: قَولُ المُستَدِلِّ في المَرأةِ التي تَولَّت عَقدَ نِكاحِها: زَوَّجَت نَفسَها بغَيرِ إذنِ وَليِّها مِن غَيرِ كُفءٍ، فلم يَصِحَّ نِكاحُها؛ قياسًا على ما لو زَوَّجَها وليُّها مِن غَيرِ كُفءٍ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: إنَّ الوصفَ الذي ذَكَرتَه وهو التَّقييدُ بغَيرِ الكُفءِ، وإن كان مُناسِبًا لعَدَمِ صِحَّةِ النِّكاحِ، لكِنَّه لا أثَرَ له؛ لأنَّ التَّزويجَ مِن غَيرِ كُفءٍ وإن ناسَبَ البُطلانَ إلَّا أنَّه لا اطِّرادَ له في كُلِّ صُوَرِ النِّزاعِ؛ إذ النِّزاعُ فيمَن زوَّجَت نَفسَها مُطلقًا بكُفءٍ وبغَيرِ كُفءٍ
[2171] يُنظر: ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/398)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/434)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/359). .
سَبَبُ إفرادِ قادِحِ عَدَمِ التَّأثيرِ بالبَحثِ:سَبَقَ ذِكرُ أقسامِ عَدَمِ التَّأثيرِ، وهذه الأقسامُ السَّابقةُ تَنحَصِرُ في قِسمَينِ؛ لأنَّ القِسمَ الأوَّلَ والثَّالثَ يَرجِعانِ إلى مَنعِ العِلَّةِ، والثَّاني والرَّابعُ يَرجِعانِ إلى المُعارَضةِ في الأصلِ بعِلَّةٍ أُخرى، فإذَن عَدَمُ التَّأثيرِ ليسَ سُؤالًا برَأسِه
[2172] يُنظر: ((شرح العضد على مختصر ابن الحاجب)) (3/501)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/435). .
لكِنَّ سَبَبَ إفرادِه بالبَحثِ هو كثرةُ استِعمالِ العُلماءِ له على هذا المُصطَلحِ في مُناقَشاتِهم ومُحاوراتِهم في الفُروعِ؛ حَيثُ إنَّهم كثيرًا ما يُرَدِّدونَ قَولَهم: "إنَّ عَدَمَ التَّأثيرِ موجِبٌ لفَسادِ العِلَّةِ"
[2173] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2283). .
ومِن هنا ذَكَرَ الأُصوليُّونَ أهَمِّيَّتَه في إبطالِ بَعضِ الأقيِسةِ، فقال السَّمعانيُّ: (وقد عَدَّ المَشايِخُ المُتَقدِّمونَ هذا السُّؤالَ في نِهايةِ القوَّةِ، وأبطَلوا به العِلَّةَ)
[2174] ((قواطع الأدلة)) (2/203). .
وقال ابنُ الصَّبَّاغِ: (وهو مِن أصَحِّ ما يُعتَرَضُ به على العِلَّةِ)
[2175] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/356). .
كيفيَّةُ الجَوابِ عن قادِحِ عَدَمِ التَّأثيرِ:سَبَقَ ذِكرُ أقسامِ عَدَمِ التَّأثيرِ، ولكُلِّ قِسمٍ جَوابٌ كما يَلي:
ففي القِسمِ الأوَّلِ: عَدَمُ التَّأثيرِ في الوَصفِ، وهو كَونُ الوَصفِ طَرديًّا لا مُناسَبةَ فيه ولا شَبَهَ، فحاصِلُه يَرجِعُ إلى سُؤالِ المُطالَبةِ بالدَّلالةِ على كَونِ العِلَّةِ عِلَّةً
[2176] يُنظر: ((الفائق)) لصفي الدين الهندي (2/331)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/549)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/432)، ((تحفة المسؤول)) للرهوني (4/176). ، وقد سَبَقَ تَفصيلُه في قادِحِ مَنعِ كَونِ الوَصفِ عِلَّةً، فالجَوابُ عنه هنا هو الجَوابُ المَذكورُ هناكَ.
وفي القِسمِ الثَّاني: عَدَمُ التَّأثيرِ في الأصلِ، وهو كَونُ الوَصفِ الذي ذَكَرَه المُستَدِلُّ في الأصلِ مُستَغنًى عنه بالوَصفِ الذي أظهَرَه المُعتَرِضُ، فحاصِلُه يَرجِعُ إلى قادِحِ المُعارَضةِ في الأصلِ بإبداءِ عِلَّةٍ أُخرى؛ لأنَّ المُعتَرِضَ يُلغي مِن العِلَّةِ وصفًا، ثُمَّ يُعارِضُ المُستَدِلَّ بما بَقيَ؛ ولذلك بَناه بَعضُ الأُصوليِّينَ على التَّعليلِ بعِلَّتَينِ
[2177] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/549)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/433)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/358). ، وقد سَبَقَ تَفصيلُه، فيَكونُ الجَوابُ هنا هو نَفسَ الجَوابِ عن قادِحِ المُعارَضةِ في الأصلِ.
وفي القِسمِ الثَّالثِ: عَدَمُ التَّأثيرِ في الحُكمِ، وهو أن يَذكُرَ المُستَدِلُّ وَصفًا لا تَأثيرَ له في الحُكمِ، فهو راجِعٌ إلى القِسمِ الأوَّلِ، أي: المُطالَبةِ عن كَونِ الوَصفِ عِلَّةً
[2178] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/86)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (3/199)، ((الردود والنقود)) للبابرتي (2/607). ، والفَرقُ بَينَ الأوَّلِ وبَينَه أنَّ الطَّرديَّةَ في الأوَّلِ مُتَّفَقٌ عليها بَينَ المُتَناظِرَينِ، وفى هذا الطَّرديَّةُ إنَّما هيَ إلزاميَّةٌ على رَأيِ المُستَدِلِّ
[2179] يُنظر: ((حاشية الجيزاوي على شرح العضد)) (3/503). ، وإذا كان راجِعًا إلى القِسمِ الأوَّلِ فيَكونُ الجَوابُ هنا هو المَذكورَ هناكَ.
وفي القِسمِ الرَّابعِ: عَدَمُ التَّأثيرِ في الفَرعِ، وهو اشتِمالُ عِلَّةِ المُستَدِلِّ على وَصفٍ مُقَيَّدٍ بصورةٍ مِن مَحَلِّ الخِلافِ، بحَيثُ لا تَطَّرِدُ العِلَّةُ مَعَه في جَميعِ صُوَرِ مَحَلِّ الخِلافِ، فهو كالثَّاني يَرجِعُ إلى قادِحِ المُعارَضةِ
[2180] يُنظر: ((شرح العضد على مختصر ابن الحاجب)) (3/501)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/435). ، فيَكونُ الجَوابُ هنا هو المَذكورُ هناكَ.
مِثالٌ لكَيفيَّةِ الجَوابِ في قادِحِ عَدَمِ التَّأثيرِ [2181] يُنظر: ((المعونة)) للشيرازي (ص: 101)، ((التمهيد)) للكلوذاني (4/130). :قَولُ المُستَدِلِّ في رِدَّةِ المَرأةِ: إنَّها كَفَرَت بَعدَ إيمانٍ، فأوجَبت القَتلَ؛ قياسًا على رِدَّةِ الرَّجُلِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: لا تَأثيرَ لقَولِك: "كَفَرَت بَعدَ إيمانٍ"؛ لأنَّه وَصفٌ لا تَأثيرَ له في حُكمِ الأصلِ، وهو الرَّجُلُ؛ لأنَّ الرَّجُلَ يُقتَلُ بالكُفرِ الأصليِّ، وإن لم يَكُنْ كُفرًا بَعدَ إيمانٍ.
فيُجيبُ المُستَدِلُّ بقَولِه: إنَّ الوَصفَ الذي ذَكَرتَه قد ثَبَتَ تَأثيرُه بالنَّصِّ؛ فإنَّ الكُفرَ بَعدَ الإيمانِ مَنصوصٌ عليه بقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "لا يَحِلُّ دَمُ امرِئٍ مُسلمٍ إلَّا بإحدى ثَلاثٍ: كُفرٌ بَعدَ إيمانٍ، أو زِنًا بَعدَ إحصانٍ، أو قَتلُ نَفسٍ بغَيرِ حَقٍّ"
[2182] أخرجه الدارمي (2343)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (1802)، والبيهقي في ((معرفة السنن والآثار)) (15641) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عُثمانَ بنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ البَيهَقيِّ: ((لا يَحِلُّ قَتلُ امرِئٍ مُسلمٍ إلَّا بإحدى ثَلاثٍ: كُفرٌ بَعدَ إيمانٍ، أو زِنًا بَعدَ إحصانٍ، أو قَتلُ نَفسٍ بغَيرِ نَفسٍ)). صَحَّحه ابنُ حَزمٍ في ((المحلى)) (11/100)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (8/344)، وصحَّح إسنادَه الألباني في ((هداية الرواة)) (3398)، وشعيب الأرناؤوط على شرطهما في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (1802). وأخرجه أحمد (1402)، والخطيب في ((تلخيص المتشابه)) (1/210)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (39/344)، ولفظُ أحمدَ: أنَّ عُثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه أشرَف على الذينَ حَصَروه، فسَلَّمَ عليهم، فلم يَرُدُّوا عليه، فقال عُثمانُ: أفي القَومِ طَلحةُ؟ قال طَلحةُ: نَعَم. قال: فإنَّا للهِ وإنَّا إليه راجِعونَ، أُسَلِّمُ على قَومٍ أنتَ فيهم فلا يَرُدُّونَ؟! قال: قد رَدَدتُ. قال: ما هَكَذا الرَّدُّ، أُسمِعُكَ ولا تُسمِعُني يا طَلحةُ؟ أنشُدُكَ اللَّهَ، أسَمِعتَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: لا يُحِلُّ دَمَ المُسلمِ إلَّا واحِدةٌ مِن ثَلاثٍ: أن يَكفُرَ بَعدَ إيمانِه، أو يَزنيَ بَعدَ إحصانِه، أو يَقتُلَ نَفسًا؛ فيُقتَلَ بها؟ قال: اللهُمَّ نَعَم. فكَبَّرَ عُثمانُ، فقال: واللهِ ما أنكَرتُ اللَّهَ مُنذُ عَرَفتُه، ولا زَنَيتُ في جاهليَّةٍ ولا في إسلامٍ، وقد تَرَكتُه في الجاهليَّةِ تَكَرُّهًا، وفي الإسلامِ تَعَفُّفًا، وما قَتَلتُ نَفسًا يَحِلُّ بها قَتلي. حَسَّنه لغَيرِه شُعَيب الأرناؤوط في تَخريج ((مسند أحمد)) (1402)، وجَوَّد إسنادَه ابنُ كثير في ((جامع المسانيد والسنن)) (5504). .