موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ الثَّاني عَشَرَ: قادِحُ القَلبِ


القَلبُ: أن يُثبِتَ المُعتَرِضُ نَقيضَ حُكمِ المُستَدِلِّ بنَفسِ دَليلِ المُستَدِلِّ، فيَقلِبَ دَليلَه حُجَّةً عليه لا له [2218] يُنظر: ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 469). .
وقيل: أن يُعَلِّقَ على عِلَّةِ المُستَدِلِّ نَقيضَ حُكمِه، ويَقيسَ على الأصلِ الذي قاسَ عليه، ولا يُغَيِّرَ مِن أوصافِه شَيئًا [2219] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (2/916). .
وقيل: هو إثباتُ نَقيضِ الحُكمِ بعَينِ العِلَّةِ [2220] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 401). .
شَرحُ التَّعريفِ المُختارِ:
القَلبُ: أي قَلبُ العِلَّةِ إلى حُكمٍ آخَرَ [2221] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (5/394). ، وقَلبُ العِلَّةِ: أن يُعَلِّقَ الخَصمُ عليها ضِدَّ ما عَلَّقَه المُعَلِّلُ مِن الحُكمِ، فلا يَكونَ تَعليقُ أحَدِ الحُكمَينِ أولى مِن الآخَرِ، فيَبطُلَ تَعَلُّقُها بهما [2222] يُنظر: ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (2/282)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/186). .
وجُملةُ: "بعَينِ دَليلِ المُستَدِلِّ": المُرادُ بها القَلبُ العامُّ الذي يَشمَلُ القياسَ وغَيرَه مِن الأدِلَّةِ؛ لأنَّ القَلبَ لا يَختَصُّ بالقياسِ، أمَّا التَّعريفُ الذي يَلي هذا التَّعريفَ فيُرادُ به القَلبُ الخاصُّ، وهو الواقِعُ في القياسِ؛ لأنَّ الكَلامَ في مُبطِلاتِ العِلَّةِ [2223] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي (6/2499)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/363). .
وجُملةُ "فيَقلِبَ دَليلَه حُجَّةً عليه لا له": أي: أن يُبَيِّنَ القالبُ أنَّ ما ذَكَرَه المُستَدِلُّ يَدُلُّ عليه لا له [2224] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/107)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/362). .
قال الشِّنقيطيُّ: (اعلَمْ أنَّ ما يُسَمَّى في البَحثِ والمُناظَرةِ بالمُعارَضةِ على سَبيلِ القَلبِ هو بعَينِه القادِحُ المُسَمَّى في الأُصولِ بالقَلبِ) [2225] ((آداب البحث والمناظرة)) (ص: 322). .
مِثالُ القَلبِ: قياسُ الاعتِكافِ على الوُقوفِ بعَرَفةَ:
يَقولُ المُستَدِلُّ (كالحَنَفيِّ والمالِكيِّ) في اشتِراطِ الصَّومِ في الاعتِكافِ: الاعتِكافُ لُبثٌ في مَكانٍ مَخصوصٍ، فلا يَكونُ بمَجرَّدِه قُربةً؛ قياسًا على الوُقوفِ بعَرَفةَ؛ حَيثُ لم يَكُنْ قُربةً بغَيرِ الإحرامِ، فكذلك الاعتِكافُ إنَّما يَكونُ قُربةً بضَميمةِ عِبادةٍ إليه، وهيَ الصَّومُ، فيَكونُ الصَّومُ شَرطًا في الاعتِكافِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ (الشَّافِعيُّ) وهو القالبُ: لُبثٌ في مَكانٍ مَخصوصٍ، فلا يَكونُ الصَّومُ شَرطًا فيه؛ قياسًا على الوُقوفِ بعَرَفةَ، أي: فإنَّه لا يُشتَرَطُ فيه الصَّومُ.
فالحُكمانِ المَذكورانِ في الأصلِ والقَلبِ لا يَتَنافيانِ في الأصلِ، ويَتَنافيانِ في الفرعِ [2226] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/266)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 401)، ((الدرر اللوامع)) للكوراني (3/337)، ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 470). .
وَجهُ كَونِ القَلبِ قادِحًا في القياسِ:
أنَّه يُبطِلُ العِلَّةَ مِن جِهةِ أنَّه مُعارَضةٌ في كونِها موجِبةً لذلك الحُكمِ، فإذا أثبَتَ بها القالبُ نَقيضَ ذلك الحُكمِ في صورةِ النِّزاعِ استَحال إيجابُها لذلك الحُكمِ، وإلَّا لاجتَمَعَ النَّقيضانِ في صورةِ النِّزاعِ، وهو مُحالٌ [2227] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 401). .
فإذا عَلَّقَ المُستَدِلُّ حُكمًا على عِلَّةٍ، فعَلَّقَ المُعتَرِضُ عليها ضِدَّ ذلك الحُكمِ، فقد أراه بُطلانَ قياسِه، وأنَّه ليسَ بَينَ تلك العِلَّةِ وبَينَ الحُكمِ الذي عَلَّقَ عليها مِن التَّعَلُّقِ إلَّا ما بَيَّنَها وبَينَ ضِدِّها، وهذا مُفسِدٌ لها [2228] يُنظر: ((إحكام الفصول)) للباجي (2/669). .
شُروطُ كَونِ القَلبِ قادِحًا:
يُشتَرَطُ لصِحَّةِ كَونِ القَلبِ قادِحًا في العِلَّةِ ما يلي:
الشَّرطُ الأوَّلُ: اتِّحادُ الأصلِ؛ لأنَّه لو رُدَّ إلى أصلٍ آخَرَ لكان ذلك الأصلُ الآخَرُ: إمَّا أن يَكونَ حاصِلًا في الأصلِ الأوَّلِ أو لا يَكونُ؛ فإن كان الأوَّلَ كان رَدُّه إليه أَولى؛ لأنَّ المُستَدِلَّ لا يُمكِنُه مَنعُ وُجودِ تلك العِلَّةِ فيه، ويُمكِنُه مَنعُ وجودِها في أصلٍ آخَرَ. وإن كان الثَّانيَ كان أصلُ القياسِ الآخَرِ نَقضًا على تلك العِلَّةِ؛ لأنَّ ذلك الوَصفَ حاصِلٌ فيه مَعَ عَدَمِ ذلك الحُكمِ [2229] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/263)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/363). .
الشَّرطُ الثَّاني: أن يَكونَ صَلاحُ العِلَّةِ لأحَدِ الحُكمَينِ كصَلاحِها للآخَرِ، وتَأثيرُها في أحَدِهما كتَأثيرِها في الآخَرِ، وأمَّا إذا لم تَصلُحِ العِلَّةُ لحُكمِ القالِبِ ولم تُؤَثِّرْ فيه، حُكِمَ ببُطلانِه [2230] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 476). .
حُجِّيَّةُ قادِحِ القَلبِ:
تَصِحُّ المُعارَضةُ بالقَلبِ، وهو حُجَّةٌ قادِحةٌ في العِلَّةِ عِندَ جُمهورِ الأُصوليِّينَ [2231] يُنظر: ((التلخيص)) لإمام الحرمين (3/297)، ((الإبهاج)) لابن السبكي (6/2506)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/365)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/332). .
الدَّليلُ على كونِ القَلبِ قادِحًا:
هو القياسُ على تَطبيقِه في الاستِدلالِ بالسُّنَّةِ؛ فإنَّه إذا جازَ أن يَستَدِلَّ المسؤولُ بلفظٍ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ يُشارِكَه المُعتَرِضُ في الاحتِجاجِ بذلك اللَّفظِ، جازَ أن يَستَدِلَّ بعِلَّةٍ ثُمَّ يُشارِكَه المُعتَرِضُ في الاستِدلالِ بها [2232] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 475). .
ومِن أمثِلةِ ذلك: استِدلالُ الحَنَفيَّةِ على المَنعِ مِن نَقضِ البناءِ في مَسألةِ غَصبِ السَّاجةِ [2233] السَّاجةُ: خَشَبةٌ مُرَبَّعةٌ مَنحوتةٌ تُستَخدَمُ في أساسِ البناءِ. يُنظر: ((العين)) للخليل (6/160)، ((لسان العرب)) لابن منظور (2/303). ويُنظر: ((المغرب)) للمطرزي (ص: 237-238)، ((أنيس الفقهاء)) للقونوي (ص: 63-64). ؛ حَيثُ يَأخُذُها الغاصِبُ ويَستَخدِمُها في إنشاءِ بناءٍ له، بقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ)) [2234] أخرجه ابن ماجه (2340)، وعبد الله بن أحمد في ((زوائد المسند)) (22778) من حديثِ عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه ابنُ رَجَب في ((جامع العلوم والحكم)) (2/211)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2340)، وحسَّنه النووي في ((الأذكار)) (502)، وقال الشوكاني في ((الدراري المضية)) (285): مشهورٌ. ؛ ففي هَدمِ البناءِ ضَرَرٌ بالغاصِبِ؛ لأنَّه إفسادٌ لآلتِه، وإبطالٌ لنَفقَتِه، فوجَبَ أن يُمنَعَ مِنه.
فقال الشَّافِعيَّةُ: هذا حُجَّةٌ لنا، ويَجِبُ رَدُّ السَّاجةِ لصاحِبِها؛ لأنَّ في مَنعِه مِن أخذِها ضَرَرًا وإضرارًا به، فيَجِبُ أن يُمَكَّنَ مِن أخذِها.
فإنَّ ذلك احتِجاجٌ لكُلِّ واحِدٍ مِنهما بالخَبَرِ، فيَكونُ القَلبُ صَحيحًا؛ لأنَّه يُشارِكُه في دَليلِه، فكذلك الحالُ في العِلَّةِ وقَلبِها، فيَجوزُ أن يَستَدِلَّ المسؤولُ بقياسٍ ويُشارِكَه المُعتَرِضُ في الاحتِجاجِ به [2235] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (5/1522)، ((شرح اللمع)) للشيرازي (2/917)، ((التمهيد)) للكلوذاني (4/205)، ((الإبهاج)) لابن السبكي (6/2506)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/365). وهذا المِثالُ كان سَبَبَ إدخالِ قادِحِ القَلبِ في بابِ القياسِ في أُصولِ الفِقهِ، قال الشِّيرازيُّ في ((شرح اللمع)) للشيرازي (2/917): (سَمِعتُ القاضيَ أبا الطَّيِّبِ الطَّبَريَّ يَقولُ: إنَّ هذا القَلبَ إنَّما ذَكَرَه المُتَأخِّرونَ مِن أصحابِنا؛ حَيثُ استَدَلَّ أبو حَنيفةَ رَحِمَه اللهُ بقَولِه عليه السَّلامُ: "لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ" في مَسألةِ السَّاجةِ... فقال: يَجِبُ أن يُذكَرُ مِثلُ هذا في القياسِ، وذَكَروا القَلبَ على هذه الصُّورةِ). .
وقيل: لا تَصِحُّ المُعارَضةُ بالقَلبِ، ولا يُعتَبَرُ قادِحًا. وهو قَولُ بَعضِ الشَّافِعيَّةِ [2236] يُنظر: ((التبصرة)) (ص: 475)، ((شرح اللمع)) (2/917) كلاهما للشيرازي، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/221). .
أقسامُ القَلبِ:
القالبُ إمَّا أن يَذكُرَ القَلبَ لإثباتِ مَذهَبِه، أو لإبطالِ مَذهَبِ خَصمِه [2237] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/266). .
وعلى هذا يَنقَسِمُ القَلبُ إلى قِسمَينِ:
القِسمُ الأوَّلُ: ما يُقصَدُ به إثباتُ مَذهَبِ المُعتَرِضِ، وهو ما صَحَّحَ فيه المُعتَرِضُ مَذهَبَه، وذلك التَّصحيحُ يَتَضَمَّنُ إبطالَ مَذهَبِ خَصمِه [2238] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 401)، ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 469). .
وهو ضَربانِ: إمَّا أن يَدُلَّ مَعَ ذلك على بُطلانِ مَذهَبِ المُستَدِلِّ صَريحًا أو لا:
فالأوَّلُ: أن يَدُلَّ على بُطلانِ مَذهَبِ المُستَدِلّ صَريحًا:
ومِثالُه: قَولُ المُستَدِلِّ (الشَّافِعيِّ): بيعُ الفُضوليّ باطِلٌ؛ لأنَّه بَيعُ مالٍ لا وِلايةَ له عليه أصالةً ولا نيابةً؛ قياسًا على شِراءِ الفُضوليِّ؛ فإنَّه لا يَصِحُّ لمَن سَمَّاه.
فيَقولُ المُعتَرِضُ (كالحَنَفيِّ والمالِكيِّ): تَصَرُّفٌ في مالِ الغَيرِ بغَيرِ إذنِه، فتَلغو الإضافةُ، ويَصِحُّ البَيعُ؛ قياسًا على الشِّراءِ بغَيرِ الإذنِ؛ فإنَّه يَصِحُّ لمَن سَمَّاه إذا رَضيَ المُسَمَّى له، وإلَّا لزِمَ الفُضوليَّ [2239] يُنظر: ((الدرر اللوامع)) للكوراني (3/337) ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 470). .
والثَّاني: وهو الذي لا يَدُلُّ على بُطلانِ مَذهَبِ المُستَدِلِّ صَريحًا، ولكِنَّه صَريحٌ في إثباتِ مَذهَبِ المُعتَرِضِ وهو القالبُ:
ومِثالُه: ما سَبَقَ في قياسِ الاعتِكافِ على الوُقوفِ بعَرَفةَ:
قَولُ المُستَدِلِّ (كالحَنَفيِّ والمالكيِّ) في اشتِراطِ الصَّومِ في الاعتِكافِ: الاعتِكافُ لُبثٌ في مَكانٍ مَخصوصٍ، فلا يَكونُ بمَجرَّدِه قُربةً؛ قياسًا على الوُقوفِ بعَرَفةَ؛ حَيثُ لم يَكُنْ قُربةً بغَيرِ الإحرامِ، فكذلك الاعتِكافُ إنَّما يَكونُ قُربةً بضَميمةِ عِبادةٍ إليه، وهيَ الصَّومُ، فيَكونُ الصَّومُ شَرطًا في الاعتِكافِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ (الشَّافِعيُّ) وهو القالبُ: لُبثٌ في مَكانٍ مَخصوصٍ، فلا يَكونُ الصَّومُ شَرطًا فيه؛ قياسًا على الوُقوفِ بعَرَفة؛ فإنَّه لا يُشتَرَطُ فيه الصَّومُ [2240] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 401)، ((الإبهاج)) لابن السبكي (6/2504)، ((الدرر اللوامع)) للكوراني (3/337)، ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 470). .
فكُلُّ واحِدٍ مِنهما قد تَعَرَّضَ في دَليلِه لتَصحيحِ مَذهَبِه، غَيرَ أنَّ المُستَدِلَّ أشارَ بعِلَّتِه إلى اشتِراطِ الصَّومِ بطَريقِ الالتِزامِ، والمُعتَرِضُ أشارَ إلى نَفيِ اشتِراطِه صَريحًا.
فالقالبُ قد أثبَتَ مَذهَبَ نَفسِه، وهو عَدَمُ اشتِراطِ الصَّومِ فيه، ودَلَّ على بُطلانِ مَذهَبِ المُستَدِلِّ التِزامًا؛ لأنَّ الصَّومَ لازِمٌ عِندَ الحَنَفيِّ للاعتِكافِ، وإذا ثَبَتَ عَدَمُ اشتِراطِ الصَّومِ فيه انتَفى اللَّازِمُ، وانتِفاؤُه يَدُلُّ على انتِفاءِ المَلزومِ [2241] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/108)، ((الدرر اللوامع)) للكوراني (3/338). .
القِسمُ الثَّاني: ما يُقصَدُ به إبطالُ مَذهَبِ الخَصمِ، وهو المُستَدِلُّ، مِن غَيرِ تَعَرُّضٍ لتَصحيحِ مَذهَبِ المُعتَرِضِ [2242] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 401)، ((الإبهاج)) لابن السبكي (6/2501)، ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 470). .
وهو ضَربانِ: إمَّا أن يَدُلَّ القالبُ على فسادِ مَذهَبِ المُستَدِلِّ صَريحًا أو ضِمنًا:
فالأوَّلُ: أن يَدُلَّ القالبُ على فسادِ مَذهَبِ المُستَدِلِّ صَريحًا [2243] يُنظر: ((البرهان)) لإمام الحرمين (2/125)، ((المحصول)) للرازي (5/266)، ((الدرر اللوامع)) للكوراني (3/338). :
ومِثالُه: قَولُ المُستَدِلِّ (الحَنَفيِّ): مَسحُ الرَّأسِ رُكنٌ مِن أركانِ الوُضوءِ، فلا يُكتَفى في مَسحِه بأقَلَّ ما يُطلقُ عليه اسمُ المَسحِ؛ قياسًا على الوَجهِ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ (الشَّافِعيُّ) وهو القالبُ: رُكنٌ مِن أركانِ الوُضوءِ، فوجَبَ ألَّا يُقدَّرَ الفَرضُ فيه بالرُّبعِ؛ قياسًا على الوَجهِ؛ فإنَّه لا يَتَقدَّرُ بالرُّبعِ. فهذا نَفيٌ لمَذهَبِ المُستَدِلِّ بالصَّراحةِ، ولا إثباتَ فيه لمَذهَبِ المُعتَرِضِ صَراحةً؛ لجَوازِ أن يَكونَ الحَقُّ في جانِبٍ ثالثٍ، وهو الاستيعابُ كما هو قَولُ المالكيِّ، وإن كان يَدُلُّ عليه بواسِطةِ اتِّفاقِ الإمامَينِ على أحَدِ الحُكمَينِ ونَفيِ ما عَداهما [2244] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/266)، ((الإحكام)) للآمدي (4/108)، ((الإبهاج)) لابن السبكي (6/2501). .
وبَيانُ ذلك: أنَّ قَولَ الحَنَفيِّ هنا استِدلالٌ على الشَّافِعيِّ؛ لأنَّه هو القائِلُ: يَكفي في الرَّأسِ أقَلُّ ما يُسَمَّى مَسحًا، فيَبطُلُ بهذا القَلبِ مَذهَبُ الشَّافِعيِّ، وليسَ فيه ما يُثبتُ مَذهَبَ الحَنَفيِّ في إيجابِ مَسحِ الرُّبعِ مِن الرَّأسِ؛ لأنَّ قَولَه: لا يَكفي فيه أقَلُّ ما يُسَمَّى مَسحًا، أعَمُّ مِن إيجابِ الرُّبعِ، بَل جازَ أن يَكونَ الواقِعُ مَذهَبَ مالِكٍ، وهو إيجابُ الجَميعِ، ولا يَكفي أقَلُّ ما يُمكِنُ مِن المَسحِ.
وكذلك قَولُ الشَّافِعيِّ لمَّا قَلبَ: "فلا يُقدَّرُ بالرُّبعِ؛ قياسًا على الوَجهِ" فيه أيضًا إبطالُ مَذهَبِ الحَنَفيِّ القائِلِ بإيجابِ الرُّبعِ، وليسَ فيه إثباتُ مَذهَبِ الشَّافِعيِّ القائِلِ بأقَلِّ ما يُسَمَّى مَسحًا؛ لأنَّ قَولَه: "لا يُقَدَّرُ بالرُّبعِ" لا يَلزَمُ مِن عَدَمِ تَمثيلِه فيه بالرُّبعِ الاكتِفاءُ بأقَلِّ ما يُمكِنُ، بَل جازَ أن يَكونَ الواجِبُ مَسحَ الجَميعِ، فهو أعَمُّ مِن إيجابِ أقَلِّ المَسحِ، كما قاله الشَّافِعيُّ، ومِن إيجابِ جَميعِ الرَّأسِ، كما قاله مالِكٌ، والدَّالُّ على الأعَمِّ غَيرُ دالٍّ على الأخَصِّ.
فليسَ في هذا القَلبِ إثباتُ مَذهَبِ القالِبِ، بَل فيه إبطالُ مَذهَبِ المُستَدِلِّ فقَط [2245] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (5/395). .
والثَّاني: أن يَدُلَّ القالبُ على فسادِ مَذهَبِ المُستَدِلِّ ضِمنًا، بأن يَدُلَّ على فَسادِ لازِمٍ مِن لوازِمِ مَذهَبِ المُستَدِلِّ؛ لانتِفاءِ الحُكمِ بانتِفاءِ لازِمِه [2246] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/266)، ((الإبهاج)) لابن السبكي (6/2502). .
ومِثالُه: قَولُ المُستَدِلِّ (الحَنَفيِّ) في جَوازِ بَيعِ الغائِبِ: بَيعُ الغائِبِ عَقدُ مُعاوَضةٍ، فيَصِحُّ مَعَ الجَهلِ بالعِوَضِ؛ قياسًا على نِكاحِ الغائِبةِ؛ فإنَّه يَصِحُّ مَعَ عَدَمِ رُؤيةِ الزَّوجةِ، بجامِعِ أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهما عَقدُ مُعاوَضةٍ.
فيَقولُ المُعتَرِضُ: (كالمالِكيِّ والشَّافِعيِّ) وهو القالبُ: لا يُشتَرَطُ في بَيعِ الغائِبِ خيارُ الرُّؤيةِ؛ قياسًا على النِّكاحِ؛ بجامِعِ المَذكورِ، ويَلزَمُ مِن نَفيِ خيارِ الرُّؤيةِ نَفيُ صِحَّةِ بَيعِ الغائِبِ؛ إذ خيارُ الرُّؤيةِ لازِمٌ لصِحَّةِ بَيعِ الغائِبِ؛ حَيثُ إنَّ مَن قال بصِحَّتِه قال بثُبوتِ خيارِ الرُّؤيةِ، فإذا انتَفى اللَّازِمُ انتَفى المَلزومُ، فحُكمُ الصِّحَّةِ وحُكمُ نَفيِ الخيارِ لا تنافيَ بَينَهما في الأصلِ؛ لأنَّه اجتَمَعَ في النِّكاحِ الصِّحَّةُ وعَدَمُ الخيارِ، لكِنَّهما مُتَنافيانِ في الفَرعِ، وهو بَيعُ الغائِبِ.
فقد أبطَل القالِبُ مَذهَبَ الحَنَفيِّ بالالتِزامِ؛ لأنَّ ثُبوتَ خيارِ الرُّؤيةِ لازِمٌ للبَيعِ عِندَه شَرطًا للصِّحَّةِ، وإذا انتَفى اللَّازِمُ انتَفى المَلزومُ [2247] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/267)، ((الإبهاج)) لابن السبكي (6/2502)، ((الدرر اللوامع)) للكوراني (3/338)، ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 471). .
ويَلتَحِقُ بهذا القِسمِ الأخيرِ نَوعٌ آخَرُ مِن القَلبِ يُسَمَّى قَلبَ المُساواةِ عِندَ الجُمهورِ، خِلافًا لبَعضِ الشَّافِعيَّةِ [2248] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 477)، ((إحكام الفصول)) للباجي (2/670)، ((الإحكام)) للآمدي (4/109)، ((الدرر اللوامع)) للكوراني (3/339). .
وهو أن يَكونَ في الأصلِ حُكمانِ، أحَدُهما مُنتَفٍ عن الفرعِ بالاتِّفاقِ بَينَ الخَصمَينِ، والآخَرُ مُختَلَفٌ فيه بَينَهما، فإذا أرادَ المُستَدِلُّ أن يُثبِتَ المُختَلَفَ فيه في الفرعِ بالقياسِ على الأصلِ، فيَقولَ المُعتَرِضُ: تَجِبُ التَّسويةُ بَينَ الحُكمَينِ في الفرعِ كما أنَّهما مُستَويانِ في الأصلِ، ويَلزَمُ مِن وُجوبِ التَّسويةِ بَينَهما في الفرعِ انتِفاءُ مَذهَبِه [2249] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي (6/2503)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 344)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/370)، ((الغيث الهامع)) لأبي زرعة العراقي (ص: 611). .
ومِثالُه: قَولُ الحَنَفيِّ مُستَدِلًّا على إسقاطِ النِّيَّةِ في الوُضوءِ: هذه طَهارةٌ بمائِعٍ، فلا تُشتَرَطُ فيها النِّيَّةُ، قياسًا على إزالةِ النَّجاسةِ؛ فإنَّ طَهارَتَها لا تَتَوقَّفُ على النِّيَّةِ عِندَ غَسلِها بمائِعٍ.
فيَقولُ الشَّافِعيُّ: أقلِبُ عِلَّتَه فأقولُ: طَهارةٌ بمائِعٍ فاستَوى حُكمُها وحُكمُ الجامِدِ في النِّيَّةِ؛ قياسًا على إزالةِ النَّجاسةِ. فإنَّ الجامِدَ والمائِعَ فيها سَواءٌ -وهم يوجِبونَ النِّيَّةَ في الطَّهارةِ بالجامِدِ، وهو التَّيَمُّمُ- فيَلزَمُ ألَّا يَحتاجَ التَّيَمُّمُ إلى النِّيَّةِ؛ لأنَّ المُطَهِّرَ الجامِدَ كالمائِعِ؛ فيَلزَمُ مِنه بُطلانُ مَذهَبِ الخَصمِ [2250] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 477)، ((الغيث الهامع)) لأبي زرعة العراقي (ص: 611)، ((الدرر اللوامع)) للكوراني (3/339). .
ففي هذا المِثالِ ظَهَرَ أنَّ الأصلَ والفَرعَ في الحُكمِ المُعَلَّقِ على العِلَّةِ سَواءٌ، وهو التَّسويةُ بَينَهما في مَعنًى مِن المَعاني، وإنَّما يَختَلفانِ في التَّفصيلِ [2251] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 477)، ((إحكام الفصول)) للباجي (2/670). ، بمَعنى أنَّ عَدَمَ الاختِلافِ بَينَ الحُكمَينِ حاصِلٌ في الفرعِ والأصلِ، لكِنَّه في الفَرعِ في جانِبِ العَدَمِ، وفي الأصلِ في جانِبِ الثُّبوتِ، وذلك لا يَقدَحُ في الاستِواءِ في الأصلِ [2252] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/268). .
كيفيَّةُ الجَوابِ عن قادِحِ القَلبِ:
القَلبُ بمَنزِلةِ المُعارَضةِ، فهو نَوعٌ مِنها، إلَّا أنَّه نَوعٌ خاصٌّ؛ لأنَّ المُعتَرِضَ فيه يُعارِضُ المُستَدِلَّ بنَفسِ دَليلِه كما تَقدَّمَت أمثِلتُه، وفي القياسِ تَكونُ المُعارَضةُ بعِلَّةِ المُعَلِّلِ بعَينِها، فالمُعارَضةُ بعِلَّةِ المُعَلِّلِ تُسَمَّى قَلبًا [2253] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (5/1527)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/221)، ((مذكرة أصول الفقه)) للشنقيطي (ص: 471). قال الكلوذاني في ((التمهيد)) (4/202): (القَلبُ: وهو في الحَقيقةِ مُعارَضةٌ إلَّا أنَّه تَمَيَّزَ مِن بَينِ المُعارَضاتِ بهذا الاسمِ؛ لأنَّه عارَضَه بعِلَّتِه في أصلِه، فجُعِل عِلَّةُ المُستَدِلِّ التي كانت حُجَّةً عليه حُجَّةً له، وهذا قَلبُ المَعنى الذي قَصَدَه المُستَدِلُّ، بخِلافِ بَقيَّةِ المُعارَضاتِ؛ فإنَّه يُقابِلُ العِلَّةَ بعِلَّةٍ أُخرى). .
فالجَوابُ عنه كالجَوابِ عن المُعارَضةِ، إلَّا أن يُستَثنى مِن ذلك مَنعُ وُجودِ الوَصفِ، فلا يَصِحُّ في القَلبِ؛ لاتِّفاقِ الخَصمَينِ عليه، كما يَتَّضِحُ مِن الأمثِلةِ السَّابقةِ [2254] يُنظر: ((مذكرة أصول الفقه)) للشنقيطي (ص: 471). .
ومِثالُ ذلك: ما تَقدَّم في استِدلالِ الحَنَفيَّةِ على المَنعِ مِن نَقضِ البناءِ في مَسألةِ غَصبِ السَّاجةِ، بقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ)) [2255] أخرجه ابن ماجه (2340)، وعبد الله بن أحمد في ((زوائد المسند)) (22778) من حديثِ عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه ابنُ رَجَب في ((جامِع العلوم والحكم)) (2/211)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2340)، وحَسَّنه النووي في ((الأذكار)) (502)، وقال الشوكاني في ((الدراري المضية)) (285): مشهورٌ. ؛ حَيثُ قال الحَنَفيَّةُ: وفي هَدمِ البناءِ ضَرَرٌ بالغاصِبِ؛ لأنَّه إفسادٌ لآلتِه، وإبطالٌ لنَفقَتِه؛ فوجَبَ أن يُمنَعَ مِنه.
فقال الشَّافِعيَّةُ: هذا حُجَّةٌ لنا، ويَجِبُ رَدُّ ساجَتِه وما غَصَبَه مِن آلتِه؛ لأنَّ في مَنعِه مِنها إضرارًا به.
فيُجيبُ المُستَدِلُّ بأن يُبَيِّنَ أنَّه لا إضرارَ على المالِكِ؛ فإنَّه يَدفعُ إليه القيمةَ، فيَزولُ عنه الضَّرَرُ [2256] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (5/1522)، ((المعونة)) للشيرازي (ص: 60)، ((الإبهاج)) لابن السبكي (6/2506). .

انظر أيضا: