موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ الثَّاني: تَعريفُ الصَّحابيِّ اصطِلاحًا:


الصَّحابيُّ: هو مَن لقيَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُؤمِنًا به، وماتَ على الإسلامِ [2432] يُنظر: ((شرح ألفية العراقي)) لأبي الفضل العراقي (2/120)، ((نخبة الفكر)) لابن حجر العسقلاني (4/724)، ((تيسير الوصول)) لابن إمام الكاملية (1/248)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (1/11). .
وقيل: هو مَنِ اجتَمَعَ مُؤمِنًا بمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وصَحِبَه ولو ساعةً، رَوى عنه أو لا [2433] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (6/ 190)، وعزاه للأكثرين. ويُنظر: ((الكفاية)) للخطيب البغدادي (ص:50)، ((الإحكام)) للآمدي (2/92)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/185)، ((بديع النظام)) لابن الساعاتي (1/353)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (5/1954، 1955)، ((شرح مختصر المنتهى)) للعضد (2/458)، ((الردود والنقود)) للبابرتي (1/691)، ((التلويح)) للتفتازاني (2/10). .
قال ابنُ الصَّلاحِ: (المَعروفُ مِن طَريقةِ أهلِ الحَديثِ أنَّ كُلَّ مُسلِمٍ رَأى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فهو مِنَ الصَّحابةِ) [2434] ((مقدمة ابن الصلاح)) (ص:293). .
وقيل: يُشتَرَطُ الرِّوايةُ، وطولُ الصُّحبةِ، وقيل: يُشتَرَطُ طولُ الصُّحبةِ وكَثرةُ المُجالَسةِ حتَّى يُسَمَّى صَحابيًّا، وقيل: الصَّحابيُّ: مَن طالت صُحبَتُه للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واختِلاطُه به، وأخَذَ عنه العِلمَ [2435] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/988)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (2/ 37)، ((البحر المحيط)) للزركشي (6/ 190). قال السَّمعانيُّ: (وأمَّا اسمُ الصَّحابيِّ فهو مِن حَيثُ اللُّغةُ والظَّاهِرُ يَقَعُ على مَن طالت صُحبَتُه مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وكَثرةُ مُجالسَتِه، ويَنبَغي أن يُطيلَ المُكثَ مَعَه على طَريقةِ السَّمعِ له والأخذِ عنه... ثُمَّ إنَّما يُعلمُ صُحبةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إمَّا بطريقٍ موجِبٍ للعِلمِ، وهو خَبَرُ التَّواتُرِ، أو بطريقٍ يَقتَضي غَلبةَ الظَّنِّ، وهو إخبارُ الثِّقةِ، وهذا الذي ذَكَرناه طَريقُ الأُصوليِّينَ). ((قواطع الأدلة)) (1/392). وقال الغَزاليُّ: (الاسمُ لا يُطلَقُ إلَّا على مَن صَحِبَه، ثُمَّ يَكفي للاسمِ مِن حَيثُ الوَضعُ الصُّحبةُ ولو ساعةً، ولكِنَّ العُرفَ يُخَصِّصُ الاسمَ بمَن كَثُرَت صُحبَتُه، ويُعرَفُ ذلك بالتَّواتُرِ والنَّقلِ الصحيحِ، وبقَولِ الصَّحابيِّ: كَثُرَت صُحبَتي، ولا حَدَّ لتلك الكَثرةِ بتَقديرٍ بَل بتَقريبٍ). ((المستصفى)) (ص:131). وقال عَلاءُ الدِّينِ البُخاريُّ: (ذَهَبَ عامَّةُ أصحابِ الحَديثِ وبَعضُ أصحابِ الشَّافِعيِّ إلى أنَّ مَن صَحِبَ النَّبيَّ عليه السَّلامُ لحظةً فهو صَحابيٌّ؛ لأنَّ اللَّفظَ مُشتَقٌّ مِنَ الصُّحبةِ، وهيَ تَعُمُّ القَليلَ والكَثيرَ، وذَهَبَ جُمهورُ الأُصوليِّينَ إلى أنَّه اسمٌ لمَنِ اختَصَّ بالنَّبيِّ عليه السَّلامُ وطالت صُحبَتُه مَعَه على طَريقِ التَّتَبُّعِ له والأخذِ مِنه؛ ولهذا لا يوصَفُ مَن جالسَ عالِمًا ساعةً بأنَّه مِن أصحابِه، وكَذا إذا أطال المُجالسةَ مَعَه إذا لم يَكُنْ على طَريقِ التَّتَبُّعِ له والأخذِ عنه). ((كشف الأسرار)) (2/ 384). .
شَرحُ التَّعريفِ المُختارِ وبَيانُ مُحتَرَزاتِه:
- عِبارةُ "مَن لقيَ": المُرادُ باللِّقاءِ ما يَعُمُّ المُجالَسةَ والمُماشاةَ ووُصولَ أحَدِهما إلى الآخَرِ وإن لم يُكَلِّمْه، ويَدخُلُ فيه رُؤيةُ أحَدِهما الآخَرَ، ولو بأن يُحمَلَ صَغيرًا إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كما يَعُمُّ البَصيرَ والأعمى، فهو أحسَنُ مِن قَولِ مَن قال: مَن رَآه، وزادَ بَعضُهم: أو رَآه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ حتَّى يَدخُلَ الأعمى، ودَخَل فيه مَن جيءَ به إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فحَنَّكَه: كعَبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ [2436]  لفظُه: عن أسماءٍ رَضِيَ الله عنها ((أنَّها حَمَلت بعَبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ، قالت: فخَرَجتُ وأنا مُتِمٌّ، فأتَيتُ المَدينةَ، فنَزَلتُ بقُباءٍ، فولَدتُه بقُباءٍ، ثُمَّ أتَيتُ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فوضَعتُه في حَجرِه، ثُمَّ دَعا بتَمرةٍ فمَضَغَها، ثُمَّ تَفل في فيه، فكان أوَّلَ شَيءٍ دَخَل جَوفَه ريقُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ حَنَّكَه بتَمرةٍ، ثُمَّ دَعا له وبَرَّكَ عليه، وكان أوَّلَ مَولودٍ وُلدَ في الإسلامِ. [وفي رِوايةٍ]: أنَّها هاجَرَت إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهيَ حُبلى)). أخرجه البخاري (3909)، واللَّفظُ له، ومسلم (2146). ، ومَحمودِ بنِ الرَّبيعِ، الذي مَجَّه بالماءِ وهو ابنُ خَمسِ سِنينَ [2437]  لفظُه: عن مَحمودِ بنِ الرَّبيعِ، قال: (عَقَلتُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَجَّةً مَجَّها في وجهي وأنا ابنُ خَمسِ سِنينَ مِن دَلوٍ). أخرجه البخاري (77)، واللَّفظُ له، ومسلم (33). ، أو مَسَحَ وَجهَه: كعَبدِ اللهِ بنِ ثَعلبةَ بنِ صُعَيرٍ [2438]  لفظُه: عن ابنِ شِهابٍ أخبَرَني عَبدُ اللهِ بنُ ثَعلبةَ بنِ صُعَيرٍ، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد مَسَحَ وجهَه عامَ الفتحِ. أخرجه البخاري مُعَلَّقًا بصيغةِ الجَزم (4300)، وأخرجه مَوصولًا (6356) بلفظ: عنِ الزَّهريِّ قال: أخبَرَني عَبدُ اللهِ بنُ ثَعلبةَ بنِ صُعَيرٍ ((وكان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد مَسَحَ عنه: أنَّه رَأى سَعدَ بنَ أبي وقَّاصٍ يوتِرُ برَكعةٍ)). ، فهؤلاء صَحابةٌ رَضِيَ اللهُ عنهم.
ويَدخُلُ فيمَن لَقِيَه: مَن طالت مُجالسَتُه له أو قَصُرَت، ومَن رَوى عنه أو لم يَروِ، ومَن غَزا مَعَه أو لم يَغزُ، ومَن رَآه رُؤيةً ولو لم يُجالِسْه، ومَن لم يَرَه لعارِضٍ كالعَمى.
- عِبارةُ "مُؤمِنًا به": قَيدٌ يُخرِجُ مَن رَآه واجتَمَعَ به قَبلَ النُّبوَّةِ ولم يَرَه بَعدَ ذلك، كما في زَيدِ بنِ عَمرِو بنِ نُفَيلٍ؛ فإنَّه ماتَ قَبل المَبعَثِ، وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّه يُبعَثُ أُمَّةً وَحدَه)) [2439]  أخرجه النسائي في ((السنن الكبرى)) (8132)، والطبراني (5/86) (4663)، والحاكم (4956) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ زَيدِ بنِ حارِثةَ رَضِيَ الله عنه، ولفظُ الطَّبَرانيِّ: عن أُسامةَ بنِ زَيدٍ، عن أبيه زَيدِ بنِ حارِثةَ، قال: ((خَرَجَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو مُردِفي إلى نُصُبٍ مِنَ الأنصابِ، فذَبَحنا له شاةً ثُمَّ صَنَعناها في الإرةِ (النَّار، أو حُفْرة النَّار) فلمَّا نَضِجَتِ استَخرَجناها في سُفرَتِنا، ثُمَّ رَكِبَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ناقَتَه وهو مُردِفي، فلمَّا كُنَّا بأعلى مَكَّةَ لقيَه زَيدُ بنُ عَمرِو بنِ نُفَيلٍ، فحَيَّا أحَدُهما صاحِبَه بتَحيَّةِ الجاهليَّةِ، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما لي أرى قَومَك قد شَنَفوك وكَرِهوك؟ فقال: واللهِ إنَّ ذلك مِنهم لبغَيرِ ما ثائِرةٍ كانت مِنِّي إليهم، إلَّا أنِّي أراهم في ضَلالٍ، فخَرَجتُ أبتَغي هذا الدِّينَ، حتَّى قدِمتُ على أحبارِ خَيبَرَ، فوجَدتُهم يَعبُدونَ اللَّهَ، ويُشرِكونَ به، فقُلتُ: واللهِ ما هذا بالدِّينِ الذي أبتَغي به، فخَرَجتُ حتَّى قدِمتُ على أحبارِ الشَّامِ، فوجَدتُهم يَعبُدونَ اللَّهَ ويُشرِكونَ به، فقُلتُ: واللهِ ما هذا بالدِّينِ الذي خَرَجتُ أبتَغي، فقال حَبرٌ مِن أحبارِ الشَّامِ: إنَّك لتَسألُ عن دينٍ ما نَعلمُ أحَدًا يَعبُدُ اللَّهَ به إلَّا شَخصًا بالجَزيرةِ، فخَرَجتُ حتَّى قَدِمتُ عليه، فأخبَرتُه بالذي خَرَجتُ له، فقال لي: إنَّ كُلَّ مَن رَأيت في ضَلالٍ، وإنَّك لتَسألُ عن دينِ اللهِ ومَلائِكَتِه، وقد خَرَجَ في أرضِك نَبيٌّ، أو هو خارِجٌ، فارجِعْ فصَدِّقْه وآمِنْ به، فرَجَعتُ فلم أختَبِرْ نَبيًّا بَعدُ، قال: فأناخَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ناقَتَه، فوضَعَ السُّفرةَ بَينَ يَدَيه، فقال: ما هذا؟ قال: شاةٌ ذَبَحناها لنُصُبِ كَذا كَذا، فقال زَيدُ بنُ عَمرٍو: إنَّا لا نَأكُلُ شَيئًا ذُبِح لغَيرِ اللهِ، ثُمَّ تَفَرَّقنا، قال: وماتَ زَيدُ بنُ عَمرِو بنِ نُفَيلٍ قَبلَ أن يُبعَثَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يُبعَثُ يَومَ القيامةِ أُمَّةً وحدَه)). صَحَّحه الحاكِمُ على شَرط مُسلم، وحَسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1/302)، وصَحَّحَ إسنادَه ابنُ تيمية في ((الجواب الصحيح)) (5/167)، وحَسَّنه الذَّهَبيُّ في ((تاريخ الإسلام)) (1/88)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سير أعلام النبلاء)) (1/134). ، ويُخرِجُ أيضًا مَن رَآه وهو كافِرٌ، ثُمَّ أسلَمَ بَعدَ مَوتِه.
و"به": قَيدٌ يُخرِجُ مَن لقيَه مُؤمِنًا بغَيرِه، كمَن لقيَه مِن مُؤمِني أهلِ الكِتابِ قَبلَ البَعثةِ.
- عِبارةُ "وماتَ مُسلِمًا": قَيد يُخرِجُ مَنِ ارتَدَّ في زَمَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو بَعدَ مَوتِه، وماتَ على الرِّدَّةِ، كابنِ خَطَلٍ وغَيرِه؛ فلا يُعَدُّ مِنَ الصَّحابةِ [2440] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (4/1997-2001)، ((الدرر اللوامع)) للكوراني (3/110-113)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (3/65، 66)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (2/465-466)، ((نزهة النظر)) لابن حجر العسقلاني (ص:140). .
قال إمامُ الحَرَمَينِ: (لا تَظنُنَّ أنَّه مُندَرِجٌ تَحتَ هذه الجُملةِ -يَعني اسمَ الصَّحابيِّ-: كُلُّ مَن لقيَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإنَّما ذلك في صَحبَه الذينَ امتَثَلوا أمرَه، وبَذَلوا عليه الأموالَ والمُهَجَ [2441]  قال الجوهري في ((الصحاح)) (1/342): المُهجةُ: الدَّمُ، وقيل: دَمُ القَلبِ خاصَّةً. ويُقالُ: خَرَجَت مُهجَتُه: إذا خَرَجَت روحُه. ، وهمُ المُعَرَّفون المسَمَّون) [2442]  ((التلخيص)) (2/374). .

انظر أيضا: