موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الرَّابعُ: تَطبيقاتٌ فِقهيَّةٌ


1- وُقوعُ الطَّلاقِ والبَيعِ والشِّراءِ مِنَ الأخرَسِ:
وذلك استِثناءٌ مِنَ الأصلِ العامِّ، وهو وُجودُ الصِّيغةِ في هذه العُقودِ، إلَّا أنَّ الأخرَسَ لمَّا فقدَ النُّطقَ فلو طُلِبَ مِنه الصِّيغةُ لماتَ جوعًا وعَطَشًا دونَ أن يَستَطيعَ شِراءَ طَعامٍ أو شَرابٍ أو كِساءٍ؛ فلأجلِ هذه الضَّرورةِ صَحَّ مِنَ الأخرَسِ بَيعُه وشِراؤه ونِكاحُه وطَلاقُه بإشارَتِه المُفهِمةِ التي هيَ كالعِبارةِ في الدَّلالةِ، وذلك استِحسانًا بالضَّرورةِ [2580] قال السَّرَخسيُّ: (وفي القياسِ: لا يَقَعُ شَيءٌ مِن ذلك بإشارَتِه؛ لأنَّه لا يَتَبَيَّنُ بإشارَتِه حُروفٌ مَنظومةٌ، فبَقيَ مُجَرَّدُ قَصدِه الإيقاعَ، وبهذا لا يَقَعُ شَيءٌ؛ ألا تَرى أنَّ الصَّحيحَ لو أشارَ لا يَقَعُ شَيءٍ مِنَ التَّصَرُّفاتِ بإشارَتِه، ولكِنَّه استُحسِنَ، فقال: الإشارةُ مِنَ الأخرَسِ كالعِبارةِ مِنَ النَّاطِقِ). ((المبسوط)) (6/144). ويُنظر: ((مسائل الإمام أحمد رواية ابن عبد الله)) (341)، ((الإشراف)) لابن المنذر (5/243)، ((الجوهرة النيرة)) لأبي بكر الزبيدي (2/39). .
2- طَلاقُ الرَّجُلِ زَوجتَه في مَرَضِ مَوتِه طَلاقًا بائِنًا بقَصدِ حِرمانِها مِنَ الميراثِ:
فعِندَ الحَنَفيَّةِ: تَرِثُ مِنه إذا ماتَ وهيَ في العِدَّةِ [2581] يُنظر: ((الهداية)) للمرغيناني (2/251)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (4/46). ، وعِندَ الحَنابلةِ: تَرِثُ ما لم تَتَزَوَّجْ [2582] يُنظر: ((الإرشاد)) للشريف محمد (ص:301). ، وعِندَ المالكيَّةِ: تَرِثُ مُطلَقًا وإن تَزَوَّجَت [2583] يُنظر: ((شرح الرسالة)) لزروق (2/659)، ((الشرح الكبير)) للدردير (2/353،352). .
وبَيَّنَ السَّرَخْسيُّ وَجهَ الاستِحسانِ، فقال: (إذا طَلَّقَ المَريضُ امرَأتَه ثَلاثًا، أو واحِدةً بائِنةً، ثُمَّ ماتَ وهيَ في العِدَّةِ، فلا ميراثَ لها مِنه في القياسِ، وهو أحَدُ أقاويلِ الشَّافِعيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، وفي الاستِحسانِ تَرِثُ مِنه، وهو قَولُنا) [2584] ((المبسوط)) (6/154). .
ثُمَّ بَيَّنَ وَجهَ الاستِحسانِ، فقال: (وَجهُ القياسِ أنَّ سَبَبَ الإرثِ انتِهاءُ النِّكاحِ بالمَوتِ، ولم يوجَدْ؛ لارتِفاعِه بالتَّطليقاتِ، والحُكمُ لا يَثبُتُ بدونِ السَّبَبِ، كما لو كان طَلَّقَها قَبلَ الدُّخولِ، ولأنَّ الميراثَ يُستَحَقُّ بالنَّسَبِ تارةً، وبالزَّوجيَّةِ أُخرى، ولوِ انقَطَعَ النَّسَبُ لا يَبقى استِحقاقُ الميراثِ به، سَواءٌ كان في صِحَّتِه أو في مَرَضِه، فكذلك إذا انقَطَعَتِ الزَّوجيَّةُ، ولكِنَّا استَحسَنَّا لاتِّفاقِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم؛ فقد رَوى إبراهيمُ رَحِمَه اللهُ تعالى، قال: جاءَ عُروةُ البارقيُّ إلى شُرَيحٍ مِن عِندِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ تعالى عنه بخَمسِ خِصالٍ، مِنهنَّ: إذا طَلَّقَ المَريضُ امرَأتَه ثَلاثًا ورِثَته إذا ماتَ وهيَ في العِدَّةِ) [2585] ((المبسوط)) (6/154). .
وقال ابنُ نُجَيمٍ: (لأنَّ الزَّوجيَّةَ سَبَبُ إرثِها في مَرَضِ مَوتِه، والزَّوجُ قَصَدَ إبطالَه، فيُرَدُّ عليه قَصدُه بتَأخيرِ عَمَلِه إلى زَمَنِ انقِضاءِ العِدَّةِ؛ دَفعًا للضَّرَرِ عنها، وقد أمكَنَ؛ لأنَّ النِّكاحَ في العِدَّةِ يَبقى في حَقِّ بَعضِ الآثارِ، فجازَ أن يَبقى في حَقِّ إرثِها عنه، بخِلافِ ما بَعدَ الانقِضاءِ؛ لأنَّه لا مَكانَ، والزَّوجيَّةُ في هذه الحالةِ ليسَت بسَبَبٍ لإرثِه عنها، فيَبطُلُ في حَقِّه خُصوصًا إذا رَضيَ به) [2586] ((البحر الرائق)) (4/46). .
3- التَّرخيصُ في العَرايا:
وصُورَتُها عِندَ الحَنَفيَّةِ: أن يَهَبَ الرَّجُلُ ثَمَرَ نَخلِه مِن بُستانِه لرَجُلٍ، ثُمَّ يَشُقَّ على المُعْرِي دُخولُ المُعْرَى له في بُستانِه كُلَّ يَومٍ؛ لكَونِ أهلِه في البُستانِ، ولا يَرضى مِن نَفسِه خُلفَ الوَعدِ والرُّجوعَ في الهِبةِ، فيُعطيه مَكانَ ذلك تَمرًا مَحدودًا بالخَرصِ؛ ليَدفَعَ الضَّرَرَ عن نَفسِه، ولا يَكونَ مُخلِفًا للوَعدِ [2587]  يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (12/193). .
وعِندَ المالكيَّةِ: أن يَهَبَ رَجُلٌ لآخَرَ تَمرَ نَخَلاتٍ مُعَيَّنةٍ، أو مِقدارًا مُعَيَّنًا مِن ثَمَرةِ بُستانِه، ويَتَأذَّى مِن دُخولِ المَوهوبِ له، فيَشتَري مِنه ما وهَبَه له بخَرصِه تَمرًا، وذلك: بأن يُقَدِّرَ الخارِصُ ما يَتَحَصَّلُ مِنَ الرُّطَبِ إذا جَفَّ وصارَ تَمرًا، فيُعطي الواهِبُ للمَوهوبِ له مِقدارَ ذلك تَمرًا، ولا يَجوزُ هذا فيما زادَ على خَمسةِ أوسُقٍ [2588]  يُنظر: ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (3/181). .
وعِندَ الشَّافِعيَّةِ والحَنابِلةِ: أن يَشتَريَ الرَّجُلُ الرُّطَبَ على رُؤوسِ الأشجارِ بخَرصِه تَمرًا، فيَستَلِمَ البائِعُ التَّمرَ، ويَستَلمَ المُشتَري الرُّطَبَ بالتَّخليةِ، ولا يَجوزُ ذلك فيما زادَ على خَمسةِ أوسُقٍ [2589]  يُنظر: ((نهاية المطلب)) لإمام الحرمين (5/167)، ((المغني)) لابن قدامة (6/119). .
والتَّفاضُلُ مَوجودٌ في بَيعِ العَرايا؛ لأنَّها بَيعُ رُطَبٍ بتَمرٍ، والتَّساوي بَينَهما مَجهولٌ، إلَّا أنَّها جازَت على خِلافِ الأصلِ استِحسانًا؛ فإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عن بَيعِ الرُّطَبِ بالتَّمرِ، وعَلَّله بالنُّقصانِ عِندَ الجَفافِ [2590]  لفظُه: عن زَيدٍ أبي عَيَّاشٍ، قال: سَألتُ سَعدًا عنِ البَيضاءِ بالسُّلتِ، فقال: بَينَهما فضلٌ؟ فقالوا: نَعَم، فقال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُئِل عنِ الرُّطَبِ بالتَّمرِ، فسَأل مَن حَولَه: أيَنقُصُ إذا جَفَّ؟ قالوا: نَعَم، قال: فلا إذَنْ.  أخرجه أبو داود (3359)، والترمذي (1225)، والحاكِمُ (2264)، واللَّفظُ له. صَحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (4997)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (6/477)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3359). ، ثُمَّ رَخَّصَ في بَيعِ العَرايا [2591]  لفظُه: عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَخَّصَ في بَيعِ العَرايا)). أخرجه البخاري (2190)، واللَّفظُ له، ومسلم (1541). ، فخَصَّ مَسألةَ العَرايا مِن عُمومِ نَهيِه أوَّلًا، مَعَ أنَّ عِلَّةَ الرِّبا مَوجودةٌ في بَيعِ العَرايا؛ لأنَّها إمَّا الطُّعمُ، أوِ القوتُ، أوِ الكَيلُ، أوِ المالُ، إلَّا أنَّ الحُكمَ -وهو التَّحريمُ- تَخَلَّف؛ حَيثُ جازَ بَيعُها مَعَ وُجودِ التَّفاضُلِ.
ووجهُ الاستِحسانِ فيها: أنَّ بَعضَ النَّاسِ يَأتي في مَوسِمِ الرُّطَبِ ولا تَكونُ بأيديهم نُقودٌ يَتَبايَعونَ بها الرُّطَبَ ليَأكُلوه مَعَ النَّاسِ، فرُخِّصَ لهم أن يَبتاعوا العَرايا بخَرصِها مِنَ التَّمرِ الذي يَكونُ بأيديهم، وهذه الرُّخصةُ نَوعٌ مِنَ الاستِحسانِ؛ لأنَّها استِثناءٌ مِنَ القاعِدةِ.
ومِنَ المُمكِنِ إجراءُ ذلك في غَيرِ ما ورَدَ به النَّصُّ، وهو التَّمرُ بالرُّطَبِ، والعِنَبُ بالزَّبيبِ؛ ففي هذا العَصرِ أمكَنَ تَجفيفُ التِّينِ وكَثيرٍ مِنَ الفواكِهِ، فقياسًا على ما تَقدَّمَ فإنَّه يَجوزُ بَيعُ التِّينِ والفواكِه أوِ الثِّمارِ الأُخَرِ على أشجارِها بثِمارٍ مُجَفَّفةٍ مِن جِنسِها، مِثلُ كَيلِها خَرصًا، قياسًا على ما ثَبَتَ بالنَّصِّ، والجامِعُ بَينَهما: الحاجةُ في الكُلِّ، واللهُ تعالى أعلَمُ [2592]  يُنظر: ((الاستحسان)) ليعقوب الباحسين (ص: 159). .

انظر أيضا: