موسوعة أصول الفقه

تمهيدٌ: حولَ الحكمِ التَّكليفيِّ والوَضعيِّ


أوَّلًا: تقسيمُ الحُكمِ الشَّرعيِّ إلى تكليفيٍّ ووَضعيٍّ
القِسمُ الأوَّلُ: الحُكمُ التَّكليفيُّ: وهو خِطابُ اللهِ تعالى المُتَعَلِّقُ بأفعالِ المُكلَّفينَ بالاقتِضاءِ أوِ التَّخييرِ [51] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/247)، ((التوضيح)) للمحبوبي مع ((شرح التلويح)) للتفتازاني (1/ 22). .
القِسمُ الثَّاني: الحُكمُ الوَضعيُّ: هو خِطابُ اللهِ تعالى المُتَعَلِّقُ بجَعلِ الشَّيءِ سَبَبًا لشيءٍ آخَرَ، أو شَرطًا لَه، أو مانِعًا مِنه، أو عَزيمةً أو رُخصةً [52] يُنظر: ((الجامع)) لعبدالكريم النملة (ص: 61)، ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 55). ويُنظر أيضا: ((الفروق)) للقرافي (1/161). .
ثانيًا: الفَرقُ بينَ الحُكمِ التَّكليفيِّ والحُكمِ الوَضعيِّ
نَصَّ القَرافيُّ على أهَمِّيَّةِ التَّفريقِ بينَهما، فقال في الفَرقِ بينَ قاعِدةِ خِطابِ التَّكليفِ وقاعِدةِ خِطابِ الوَضعِ: (هذا الفَرقُ عَظيمٌ جَليلُ الخَطِرِ، وبتَحقيقِه تَنفرِجُ أُمورٌ عَظيمةٌ مِنَ الإشكالاتِ، وتُرَدُّ إشكالاتٌ عَظيمةٌ أيضًا في بَعضِ الفُروعِ) [53] ((الفروق)) للقرافي (1/161). ولذا فرَّقَ الأُصوليُّونَ بينَ الحُكمِ التَّكليفيِّ والحُكمِ الوضعيِّ.
وفيما يَلي بيانُ أهَمِّ هذه الفُروقِ:
1- أنَّ الحُكمَ التَّكليفيَّ لا يَتَعَلَّقُ إلَّا بفِعلِ المُكلَّفِ، وهو البالغُ العاقِلُ الذي يَتَوجَّه إليه الخِطابُ، ويَقَعُ عليه التَّكليفُ.
أمَّا الحُكمُ الوَضعيُّ: فإنَّه يَتَعَلَّقُ بفِعلِ المُكلَّفِ وغيرِه؛ فمِمَّا هو فِعلٌ للمُكلَّفِ الطَّهارةُ التي هي شَرطٌ لصِحَّةِ الصَّلاةِ، والقَتلُ المانِعُ مِنَ الإرثِ، ومِمَّا هو فِعلٌ لغيرِ المُكلَّفِ الزَّكاةُ في أموالِ الصَّبيِّ والمَجنونِ، ومَن فَعَل ما هو سَبَبٌ للضَّمانِ أُلزِمَ به، سَواءٌ أكان بالغًا عاقِلًا أم لا؛ فلَو أتلَف الصَّبيُّ شيئًا ضَمِن الوليُّ في مالِ الصَّبيِّ، ويَضمَنُ النَّائِمُ والنَّاسي والغافِلُ والسَّكرانُ ونَحوُهم ما يُتلِفونَ [54] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/171)، ((الجامع)) (ص: 83)، ((المهذب)) (1/ 384) كلاهما لعبدالكريم النملة، ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 44). .
2- أنَّ الحُكمَ التَّكليفيَّ لا يَتَعَلَّقُ إلَّا بالكَسبِ والمُباشَرةِ للفِعلِ مِنَ الشَّخصِ نَفسِه.
بخِلافِ الحُكمِ الوَضعيِّ؛ ولهذا لَو قَتَلَ خَطأً وجَبَتِ الدِّيةُ على العاقِلةِ، وإن لَم يَكُنِ القَتلُ مُكتَسَبًا لهم، فوُجوبُ الدِّيةِ عليهم ليس مِن بابِ التَّكليفِ؛ لاستِحالةِ التَّكليفِ بفِعلِ الغيرِ، بَل مَعناه أنَّ فِعلَ الغيرِ سَبَبٌ لثُبوتِ هذا الحَقِّ في ذِمَّتِهم [55] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/171)، ((التحبير)) للمرداوي (3/1052)، ((المهذب)) لعبدالكريم النملة (1/ 384). .
3- أنَّ خِطابَ التَّكليفِ هو الأصلُ، وخِطابُ الوَضعِ على خِلافِه.
فالأصلُ أن يَقولَ الشَّارِعُ: أوجَبتُ عليكُم، أو حَرَّمتُ عليكُم، أوِ افعَلوا، أو لا تَفعَلوا، أوِ ارجُموا هذا الزَّانيَ، أوِ اقطَعوا هذا السَّارِقَ.
وأمَّا جَعلُه الزِّنا والسَّرِقةَ عَلَمًا على الرَّجمِ والقَطعِ، فبخِلافِ الأصلِ.
وبناءً على هذا: فإنَّه يُقَدَّمُ الحُكمُ التَّكليفيُّ على الوَضعيِّ عِندَ التَّعارُضِ؛ لأنَّه الأصلُ. ومِنهم مَن يُقَدِّمُ الوَضعيَّ؛ لأنَّه لا يَتَوقَّفُ على فَهمٍ وتَمكُّنٍ [56] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/415)، ((البحر المحيط)) للزركشي (1/171). .
4- الحُكمُ التَّكليفيُّ يُشتَرَطُ فيه عِلمُ المُكلَّفِ بما كُلِّف به؛ لقَولِ الله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] فنَفى عنهمُ التَّعذيبَ حَتَّى يَحصُلَ لَهمُ العِلمُ بالتَّبليغِ بواسِطةِ الرُّسُلِ، وقَولِه تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] ، وغيرِ ذلك مِنَ الآياتِ الواضِحةِ الدَّلالةِ في اشتِراطِ العِلمِ بالتَّبليغِ حَتَّى تَحصُلَ إقامةُ الحُجَّةِ [57] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص:69)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/416). .
بخِلافِ الحُكمِ الوضعيِّ؛ فمِنه ما لا يُشتَرَطُ فيه العِلمُ، كأسبابِ التَّوريثِ؛ فإنَّ الإنسانَ إذا ماتَ لَه قَريبٌ دَخَلَتِ التَّرِكةُ في مِلكِه وإن لَم يَعلَمْ [58] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص:69)، ((التحبير)) للمرداوي (3/1051). .
ومِنه ما يُشتَرَطُ فيه العِلمُ، كأسبابِ الحُدودِ والجِناياتِ، كالزِّنا وشُربِ الخَمرِ ونَحوِهما مِمَّا هو سَبَبٌ للعُقوبةِ؛ فثَبَتَ أنَّ مِنَ الأحكامِ الوضعيَّةِ ما يُشتَرَطُ فيه العِلمُ، ومِنها ما لا يُشتَرَطُ فيه العِلمُ [59] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/172)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/416)، ((القواعد)) للحصني (1/191). .
5- يُشتَرَطُ في الحُكمِ التَّكليفيِّ أن يَكونَ مَقدورًا للمُكلَّفِ، فلا يَقَعُ التَّكليفُ بما هو خارِجٌ عن قُدرةِ الإنسانِ؛ فقد قال اللهُ تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286] .
أمَّا الحُكمُ الوَضعيُّ فلا يُشتَرَطُ فيه أن يَكونَ مَقدورًا للمُكلَّفِ، بَل مِنه ما هو في مَقدورِه، ومِنه ما هو خارِجٌ عن قُدرَتِه.
مِثالُ ما هو في قُدرةِ المُكلَّفِ: السَّرِقةُ؛ فهي سَبَبٌ لقَطعِ يَدِ السَّارِقِ، وهي في قُدرةِ المُكلَّفِ؛ حيثُ بإمكانِه فِعلُها والكَفُّ عنها، وكذا الزِّنا وشُربُ الخَمرِ؛ فقَد جَعَلَهما الشَّارِعُ أسبابًا لمُسَبِّباتِهما، وهما في مَقدورِ المُكلَّفِ؛ حيثُ بإمكانِه الفِعلُ والكَفُّ، وكذلك الأمرُ بالنِّسبةِ للقَتلِ الذي جَعَلَه الشَّارِعُ مانِعًا مِنَ الميراثِ؛ فإنَّه في مَقدورِ المُكلَّفِ، وفي استِطاعَتِه فِعلُه والكَفُّ عنه، وكذا الطَّهارةُ التي جَعَلَها الشَّارِعُ شَرطًا لصِحَّةِ الصَّلاةِ؛ فإنَّها في قُدرةِ المُكلَّفِ واستِطاعَتِه.
مِثالُ ما هو خارِجٌ عن قُدرةِ المُكلَّفِ: الدُّلوكُ؛ فقَد جَعَلَه الشَّارِعُ سَبَبًا لوُجوبِ الصَّلاةِ، وهو خارِجٌ عن قُدرةِ المُكلَّفِ؛ فليس باستِطاعَتِه التَّحَكُّمُ في دُلوكِ الشَّمسِ، وكذا دُخولُ شَهرِ رَمَضانَ سَبَبٌ لوُجوبِ الصِّيامِ، وهو ليس في قُدرةِ المُكلَّفِ، والحيضُ مانِعٌ مِن صِحَّةِ الصَّلاةِ والصَّومِ، وهو خارِجٌ عن قُدرةِ المُكلَّفِ [60] يُنظر: ((القواعد)) للحصني (1/ 191)، ((التحبير)) للمرداوي (3/1051). .
6- يُفرَّقُ بينَهما أيضًا مِن حيثُ الحَدُّ والحَقيقةُ؛ فالخِطابُ في الحُكمِ الوَضعيِّ: خِطابُ إخبارٍ وإعلامٍ جَعله الشَّارِعُ عَلامةً على حُكمِه، ورَبَط فيه بينَ أمرينِ، بحيثُ يَكونُ أحَدُهما سَبَبًا للآخَرِ، أو شَرطًا لَه. بخِلافِ الخِطابِ في الحُكمِ التَّكليفيِّ؛ فإنَّه خِطابُ طَلَبِ الفِعلِ، أو طَلَبِ التَّركِ، أوِ التَّخييرِ بينَهما؛ فخِطابُ التَّكليفِ هو: طَلَبُ أداءِ ما تقَرَّر بالأسبابِ والشُّروطِ [61] يُنظر: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/436). ويُنظر أيضًا: ((المهذب)) لعبدالكريم النملة (1/ 383)، ((معالم أصول الفقه)) للجيزاني (ص: 315). .
ثالثًا: اجتِماعُ خِطابِ التَّكليفِ مَعَ خِطابِ الوَضعِ وانفِرادُ كُلِّ واحِدٍ مِنهما عنِ الآخَرِ
المُتَأمِّلُ في الحُكمِ التَّكليفيِّ والوَضعيِّ يَلحَظُ أنَّهما قَد يَجتَمِعانِ، وقد يَفتَرِقانِ بأن يَنفرِدَ الحُكمُ الوَضعيُّ بوُجودِه في شيءٍ، ويَكونُ ما يَتَرَتَّبُ عليه مِن خِطابِ التَّكليفِ في شيءٍ آخَرَ.
مِثالُ اجتِماعِهما في شيءٍ واحِدٍ: الزِّنا والسَّرِقةُ؛ فإنَّها أفعالٌ تَعَلَّق بها التَّحريمُ، وهي أسبابٌ للعُقوباتِ التي هي الجَلدُ والقَطعُ. والوُضوءُ عبادة برأسها، وهي شَرطٌ لصِحَّةِ الصَّلاةِ؛ فهو خِطابُ وَضعٍ وواجِبٍ أيضًا، فهو خِطابُ تَكليفٍ. والقَتلُ حَرامٌ وسَبَبٌ لحِرمانِ الإرثِ؛ فاجتَمَعَ فيما سَبَقَ مِنَ الأمثِلةِ الحُكمُ التَّكليفيُّ والوَضعيُّ في شيءٍ واحِدٍ [62] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص:75)، ((المحصول)) للرازي (1/110)، ((التقرير والتحرير)) لابن أمير الحاج (2/153). .
ومِثالُ ما انفرَدَ فيه خِطابُ الوَضعِ: زَوالُ الشَّمسِ وجَميعُ أوقاتِ الصَّلَواتِ؛ فإنَّها أسبابٌ لوُجوبِها، فالزَّوالُ سَبَبٌ، لَكِنَّه ليس هو الواجِبَ، بَل الواجِبُ الصَّلاةُ. ورُؤيةُ الهِلالِ سَبَبٌ لوُجوبِ رَمَضانَ؛ فالرُّؤيةُ سَبَبٌ، والواجِبُ هو صَومُ رَمَضانَ. وحَوَلانُ الحَولِ شَرطٌ في وُجوبِ الزَّكاةِ، والبُلوغُ شَرطٌ في التَّكليفِ، والحَيضُ مانِعٌ مِن صِحَّةِ الصَّلاةِ ومِن أداءِ الصَّومِ؛ فيُلاحَظُ أنَّ جَميعَ ما يَتَرَتَّبُ على هذه الأسبابِ والشُّروطِ والمَوانِعِ شيءٌ آخَرُ غَيرُها؛ فالوَضعُ في شيءٍ، والتَّكليفُ في شيءٍ آخَرَ [63] يُنطر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص:81)، ((القواعد)) للحصني (1/201). .
وأمَّا انفِرادُ الحُكمِ التَّكليفيِّ عنِ الوَضعيِّ، فقَدِ اختَلَف العُلَماءُ فيه على قَولينِ:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّ الحُكمَ التَّكليفيَّ يَنفرِدُ عنِ الحُكمِ الوَضعيِّ، ومُثِّلَ لَه بأداءِ الواجِباتِ واجتِنابِ المُحرَّماتِ، وإيقاعِ الصَّلَواتِ وتَركِ المُنكَراتِ؛ فهذه مِن خِطابِ التَّكليفِ، ولَم توضَعْ سَبَبًا لفِعلٍ آخَرَ نُؤمَرُ به أو نُنهى عنه، بَل وقَف الحالُ عِندَ أدائِها وتَرَتُّبِها على أسبابِها.
ولا يُعتَرَضُ بأنَّها قَد جُعِلَت سَبَبًا لبَراءةِ الذِّمَّةِ وتَرتيبِ الثَّوابِ ودَرءِ العِقابِ، فيَكونُ اجتَمَع فيها الحُكمانِ؛ لأنَّ هذه ليست أفعالًا للمُكلَّفِ، والمَقصودُ بكونِ الشَّيءِ سَبَبًا هو كونُه وُضِع سَبَبًا لفِعلٍ يُفعلُ مِن قِبَلِ المُكلَّفِ، ومِمَّن ذَهَبَ إلى هذا القَولِ: القَرافيُّ في الفُروقِ [64] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (1/163، 164). ، وهو اختيارُ تَقيِّ الدِّينِ الحِصْنيِّ؛ حيثُ ذَهَبَ إلى أنَّ الانفِرادَ مُتَصَوَّرٌ لَكِنَّه قَليلٌ، ومَثَّل لَه بالصَّومِ والحَجِّ والزَّكاةِ؛ فإنَّها ليست أسبابًا لشيءٍ آخَرَ ولا شُروطًا ولا مَوانِعَ [65] يُنظر: ((القواعد)) (1/201). .
القَولُ الثَّاني: أنَّ الحُكمَ التَّكليفيَّ لا يَنفرِدُ عنِ الحُكمِ الوضعيِّ؛ لأنَّه لا يوجَدُ تَكليفٌ إلَّا ولَه شُروطٌ وأسبابٌ ومَوانِعٌ، ولا يَعرَى تَكليفٌ عن شَرطِ البُلوغِ وغيرِه مِنَ الشُّروطِ، فلا يُتَصَوَّرُ حينَئِذٍ انفِرادُ التَّكليفِ عنِ الوَضعِ، وهو اختيارُ القَرافيِّ في شَرحِ التَّنقيحِ [66] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) (1/70). ، وصوَّبه الطُّوفيُّ [67] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) (1/440). ، والمَرداويُّ [68] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (2/811). .
والأوَّلُ أرجَحُ؛ لأنَّ البَحثَ إنَّما هو في كونِ الشَّيءِ في نَفسِه خِطابَ تَكليفٍ أو خِطابَ وَضعٍ، لا أنَّه مُتَوقِّفٌ على خِطابِ الوَضعِ [69] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (2/86)، ((حاشية التوضيح والتصحيح)) لابن عاشور (1/95). .

انظر أيضا: