موسوعة أصول الفقه

الفرعُ الأوَّلُ: الدَّلالةُ اللَّفظيَّةُ وأقسامُها


الدَّلالةُ اللَّفظيَّةُ: هيَ المُستَنِدةُ إلى وُجودِ اللَّفظِ، فإذا ذُكِرَ وُجِدَت [11] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (1/317)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/126). .
والمُرادُ بها: كُلُّ دَلالةٍ كان الانتِقالُ فيها إلى المَعنى ناشِئًا عنِ اللَّفظِ [12] يُنظر: ((طرق الاستدلال ومقدماتها)) للباحسين (ص: 59). .
وهذه الدَّلالةُ مُنحَصِرةٌ في ثَلاثةِ أقسامٍ بحُكمِ الاستِقراءِ: وضعيَّةٍ، وطَبيعيَّةٍ، وعَقليَّةٍ [13] يُنظر: ((تحفة المسؤول)) للرهوني (1/ 294). .
القِسمُ الأوَّلُ: الدَّلالةُ اللَّفظيَّةُ الوضعيَّةُ
وتَعني أنَّ اللَّفظَ إذا أُطلِقَ فُهمَ منه المَعنى الذي هو له بالوضعِ [14] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (1/317). . أي: فَهِم منه المَعنى مَن كان عالِمًا بوَضعِه له [15] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (3/519)، ((البحر المحيط)) للزركشي (2/268)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (2/778)، ((الغيث الهامع)) لأبي زرعة العراقي (ص: 116). .
سَواءٌ كان بوضعِ اللُّغةِ، أوِ الشَّرعِ، أوِ العُرفِ لذلك اللَّفظِ، بحَيثُ يَلزَمُ مِنَ العِلمِ باللَّفظِ العِلمُ بالمَعنى؛ بناءً على العِلمِ بأنَّ ذلك اللَّفظَ مَوضوعٌ لذلك المَعنى بخُصوصِه [16] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (1/317)، ((الذخر الحرير)) للبعلي (ص: 96)، ((طرق الاستدلال ومقدماتها)) للباحسين (ص: 59). .
مِثالُها: دَلالةُ لَفظِ (الرَّجُلِ) على الإنسانِ الكَبيرِ الذَّكَرِ، ودَلالةُ (الأسَدِ) على الحَيَوانِ الذي يَفتَرِسُ، ودَلالةُ (الفرَسِ) على الحَيَوانِ الذي يَصهَلُ، وغَيرُ ذلك مِن دَلالةِ الأسماءِ على مُسَمَّياتِها، والألفاظِ على مَعانيها المُفرَدةِ والمُرَكَّبةِ [17] يُنظر: ((تحفة المسئول)) للرهوني (1/294)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/206)، ((آداب البحث والمناظرة)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 18). .
أقسامُ الدَّلالةِ اللَّفظيَّةِ الوضعيَّةِ:
تَنحَصِرُ الدَّلالةُ اللَّفظيَّةُ الوضعيَّةُ في ثَلاثِ دَلالاتٍ: دَلالةِ المُطابَقةِ، ودَلالةِ التَّضَمُّنِ، ودَلالةِ الالتِزامِ.
وذلك لأنَّ الكَلامَ إمَّا أن يُساقَ ليَدُلَّ على تَمامِ مَعناه، وإمَّا أن يُساقَ ليَدُلَّ على بَعضِ مَعناه، وإمَّا أن يُساقَ ليَدُلَّ على معنًى آخَرَ خارِجٍ عن مَعناه، إلَّا أنَّه لازِمٌ له عقلًا أو عُرفًا.
فدَلالةُ اللَّفظِ على تَمامِ مَعناه تُسَمَّى (مُطابَقةً).
ودَلالةُ اللَّفظِ على بَعضِ مَعناه تُسَمَّى (تَضَمُّنًا).
ودَلالةُ اللَّفظِ على مَعنًى آخَرَ خارِجٍ عن مَعناه لازِمٍ له تُسَمَّى (التِزامًا) [18] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (1/219)، ((الإحكام)) للآمدي (1/15)، ((ضوابط المعرفة)) للميداني (ص: 27). .
بَيانُ الأقسامِ الثَّلاثةِ:
1- دَلالةُ المُطابَقةِ: وهيَ دَلالةُ اللَّفظِ على تَمامِ مُسَمَّاه [19] يُنظر: ((التحصيل)) للأرموي (1/200)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (1/121). .
ومِثالُها: دَلالةُ لَفظِ (الإنسانِ) على الحَيَوانِ النَّاطِقِ، ودَلالةُ البَيتِ على المَجموعِ المُرَكَّبِ مِنَ السَّقفِ والجِدارِ [20] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (3/21)، ((البحر المحيط)) للزركشي (2/269). .
وسُمِّيَت بدَلالةِ المُطابَقةِ؛ لأنَّ اللَّفظَ موافِقٌ لتَمامِ ما وُضِعَ له [21] يُنظر: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/126). .
2- دَلالةُ التَّضَمُّنِ: وهيَ دَلالةُ اللَّفظِ الوضعيَّةُ على جُزءِ مُسَمَّاه. وسُمِّيَت بذلك؛ لأنَّ اللَّفظَ دَلَّ على ما في ضِمنِ المُسَمَّى، أو لأنَّ فهمَ الجُزءِ يَتَضَمَّنُ فَهمَ الكُلِّ [22] يُنظر: ((تيسير الوصول)) لابن إمام الكاملية (2/208)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/213)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/126). .
ومِثالُها: دَلالةُ لَفظِ (الإنسانِ) على حَيَوانٍ فقَط، أو على ناطِقٍ فقَط، ودَلالةُ البَيتِ على الجِدارِ فقَط [23] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (3/521)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/126). .
3- دَلالةُ الالتِزامِ: وهيَ دَلالةُ اللَّفظِ على لازِم مُسَمَّاه الخارِجِ عن مَعناه، وسُمِّيَت كذلك لكَونِ المَعنى المَدلولِ لازِمًا للمَعنى المَوضوعِ له [24] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (1/121)، ((تيسير الوصول)) لابن إمام الكاملية (2/208). .
ومِثالُها: دَلالةُ لَفظِ (الإنسانِ) على كَونِه ضاحِكًا، أو قابلًا لصَنعةِ الكِتابةِ [25] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (2/269)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/127). .
القِسمُ الثَّاني: الدَّلالةُ اللَّفظيَّةُ الطَّبيعيَّةُ (العاديَّةُ)
وهيَ ما كان الانتِقالُ فيها مِنَ اللَّفظِ إلى المَعنى بواسِطةِ اقتِضاءِ الطَّبعِ، أي: أنَّ مَنشَأَ الفَهمِ هو العادةُ الطَّبيعيَّةُ [26] يُنظر: ((طرق الاستدلال ومقدماتها)) للباحسين (ص: 60). .
فيَكونُ طَريقُ العِلمِ بالِارتِباطِ بَينَ الدَّالِّ والمَدلولِ: العادةَ والنِّظامَ الذي وضَعَه اللهُ تعالى في الطَّبيعةِ [27] يُنظر: ((ضوابط المعرفة)) للميداني (ص: 26). .
مِثالُها: دَلالةُ لَفظِ (أَح أَح) أي: السُّعال، على وجَعٍ في الصَّدرِ [28] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (3/518)، ((البحر المحيط)) للزركشي (2/269). .
القِسمُ الثَّالِثُ: الدَّلالةُ اللَّفظيَّةُ العَقليَّةُ
وهيَ: ما كان الانتِقالُ فيها مِنَ اللَّفظِ إلى المَعنى ناشِئًا بواسِطةِ العَقلِ [29] يُنظر: ((طرق الاستدلال ومقدماتها)) للباحسين (ص: 59). .
مِثالُها: دَلالةُ الصَّوتِ على حَياةِ صاحِبِه؛ لأنَّه لو لم يَكُنْ حَيًّا لَما صَدَرَ منه الصَّوتُ؛ إذِ العَقلُ يَدُلُّ على أنَّ المَيِّتَ غَيرُ قابِلٍ لإخراجِ الصَّوتِ، ومِثلُ دَلالةِ اللَّفظِ المَسموعِ مِن وراءِ الجِدارِ على وُجودِ اللَّافِظِ، فإذا سُمِعَ كَلامٌ مِن وراءِ جِدارٍ فعَقلُ السَّامِعِ يَعلَمُ بوُجودِ اللَّافِظِ هنالِكَ؛ لاستِحالةِ وُجودِ فِعلٍ بدونِ فاعِلٍ [30] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (3/518)، ((تحفة المسئول)) للرهوني (1/294)، ((البحر المحيط)) للزركشي (2/269)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/206). .
الفَرقُ بَينَ دَلالةِ اللَّفظِ والدَّلالةِ باللَّفظِ:
قال القَرافيُّ: (التَّفرِقةُ بَينَ الدَّلالةِ باللَّفظِ ودَلالةِ اللَّفظِ مِن مُهمَّاتِ مَباحِث الألفاظِ) [31] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 26). .
تَقَدَّم بَيانُ دَلالةِ اللَّفظِ. أمَّا الدَّلالةُ باللَّفظِ: فهيَ استِعمالُ اللَّفظِ إمَّا في مَوضوعِه -أي: في مُسَمَّاه- الذي وُضِعَ له في اللُّغةِ، وهو الاستِعمالُ الحَقيقيُّ. أوِ استِعمالِ اللَّفظِ في غَيرِ مُسَمَّاه الذي وُضِعَ له في اللُّغةِ، بشَرطِ ثُبوتِ العَلاقةِ بَينَ المَوضوعِ الأوَّلِ وغَيرِه، وهو الاستِعمالُ المَجازيُّ [32] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 26)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/224). .
مِثالُ ذلك: لَفظُ الأسَدِ؛ فإن أُريدَ به الحَيَوانُ المُفتَرِسُ فذلك حَقيقةُ وضعِه، وإن أُريدَ به الرَّجُلُ الشُّجاعُ فذلك: مَجازٌ، والعَلاقةُ بَينَهما ظاهِرةٌ، وهيَ الشَّجاعةُ [33] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/224). .
فالمُرادُ بالدَّلالةِ باللَّفظِ أن يَدُلَّك المُخاطِبُ باللَّفظِ الذي تَكَلَّمَ به على أنَّه استَعمَلَه في حَقيقَتِه أو مَجازِه [34] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/223). .
والفَرقُ بَينَ الدَّلالةِ باللَّفظِ ودَلالةِ اللَّفظِ مِن وُجوهٍ [35] يُنظر: ((نفائس الأصول)) للقرافي (2/565)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (3/529)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 86)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/226)، ((التحبير)) للمرداوي (1/327). :
الفرقُ الأوَّلُ: مِن جِهةِ المَحَلِّ: فمَحَلُّ دَلالةِ اللَّفظِ هو القَلبُ؛ إذ هيَ عِلمٌ أو ظَنٌّ قائِمٌ بالقَلبِ، وهو مَوطِنُ العُلومِ. ومَحَلُّ الدَّلالةِ باللَّفظِ اللِّسانُ [36] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/227). ، فالدَّلالةُ باللَّفظِ لَفظيَّةٌ، ودَلالةُ اللَّفظِ اعتِقاديَّةٌ.
الفرقُ الثَّاني: مِن جِهةِ الوُجودِ؛ فكُلَّما وُجِدَت دَلالةُ اللَّفظِ وُجِدَتِ الدَّلالةُ باللَّفظِ؛ لأنَّ فَهمَ مُسَمَّى اللَّفظِ مِنَ اللَّفظِ فَرعُ النُّطقِ باللَّفظِ. وقد توجَدُ الدَّلالةُ باللَّفظِ ولا توجَدُ دَلالةُ اللَّفظِ؛ لعَدَمِ تَفطُّنِ السَّامِعِ لكَلامِ المُتَكَلِّمِ؛ لصارِفٍ، إمَّا لكَونِه لا يَعرِفُ لُغَتَه، أوِ استَعمَلَ المُتَكَلِّمُ لَفظًا مُشتَركًا بدونِ القَرينةِ، أو بقَرينةٍ لَم يَفهَمْها السَّامِعُ.
الفَرقُ الثَّالِثُ: مِن جِهةِ الأنواعِ: فأنواعُ كُلِّ واحِدةٍ مِنَ الدَّلالَتَينِ تَختَصُّ بها، ولا توجَدُ في الدَّلالةِ الأُخرى؛ فدَلالةُ اللَّفظِ لها ثَلاثةُ أنواعٍ: المُطابَقةُ، والتَّضَمُّنُ، والِالتِزامُ، وهيَ لا توجَدُ في الدَّلالةِ باللَّفظِ.
والدَّلالةُ باللَّفظِ لها نَوعانِ: الحَقيقةُ، والمَجازُ، وهما لا يوجَدانِ في دَلالةِ اللَّفظِ؛ إذ لا توصَفُ دَلالةُ اللَّفظِ بالحَقيقةِ ولا بالمَجازِ؛ لأنَّ مَعناها عِبارةٌ عن كَونِ اللَّفظِ إذا سُمِعَ فُهِمَ مَعناه؛ إذ مِن شَرطِ الحَقيقةِ والمَجازِ إرادةُ الاستِعمالِ في مَوضوعِه، أو في غَيرِ مَوضوعِه؛ لعَلاقةٍ بَينَهما، وذلك مُنتَفٍ في دَلالةِ اللَّفظِ، فلا توصَفُ بالحَقيقةِ ولا بالمَجازِ.
الفَرقُ الرَّابِعُ: مِن جِهةِ المَوصوفِ: فدَلالةُ اللَّفظِ صِفةٌ للسَّامِعِ؛ لأنَّها فَهمُ السَّامِع مِن كَلامِ المُتَكَلِّمِ، والدَّلالةُ باللَّفظِ صِفةٌ للمُتَكَلِّمِ؛ لأنَّها استِعمالُ المُتَكَلِّمِ للَّفظِ.

انظر أيضا: