موسوعة أصول الفقه

تَمهيدٌ: أقسامُ الحُكمِ التَّكليفيِّ الخَمسةُ، ووَجهُ انحِصارِه فيها


أقسامُ الحُكمِ التَّكليفيِّ خَمسةٌ، وهي:
الوُجوبُ، والتَّحريمُ، والنَّدبُ، والكراهةُ، والإباحةُ. وهو قَولُ الجُمهورِ [79] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 52)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/653). ، وهو المَشهورُ الذي أجمَعَ عليه المُتَأخِّرونَ [80] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/653). .
ووجهُ انحِصارِ الأقسامِ التَّكليفيَّةِ في هذه الخَمسةِ عِندَ الجُمهورِ:
أنَّ خِطابَ الشَّرعِ: إمَّا أن يَرِدَ باقتِضاءِ الفِعلِ، وإمَّا أن يَرِدَ باقتِضاءِ التَّركِ، وإمَّا أن يَرِدَ بالتَّخييرِ بينَ الفِعلِ والتَّركِ.
فإن وردَ باقتِضاءِ الفِعلِ: فإن أشعَرَ بالعِقابِ على التَّركِ فهو: الواجِبُ. وإن لَم يُشعِرْ بالعِقابِ على التَّركِ فهو: المَندوبُ.
وإن وردَ باقتِضاءِ التَّركِ: فإن أشعَرَ بالعِقابِ على الفِعلِ فهو: المَحظورُ. وإن لَم يُشعِرْ بالعِقابِ على الفِعلِ فهو: المَكروهُ.
وإن ورَد بالتَّخييرِ بينَ الفِعلِ والتَّركِ فهو: المُباحُ. فتَبيَّن بهذا أنَّ أقسامَ الحُكمِ الشَّرعيِّ خَمسةٌ [81] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 52)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/97)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/653). وقيلَ: الحُكمُ التَّكليفيُّ قِسمانِ، وهما: التَّحريمُ، والإباحةُ. وهو قَولُ المُتَقَدِّمينَ؛ لأنَّ مَعنى الإباحةِ عِندَهم: نَفيُ الحَرَجِ مُطلَقًا، ونَفيُ الحَرَجِ أعَمُّ مِنَ الوُجوبِ، والنَّدبِ، والكراهةِ، والإباحةِ المُستَويةِ الطَّرَفينِ، ومَعنى الإباحةِ عِندَ المُتَأخِّرينَ: استِواءُ الطَّرَفينِ. وإنَّما يَشمَلُ نَفيُ الحَرَجِ هذه الأحكامَ الأربَعةَ؛ إذ لا حَرَجَ على فاعِلِها. يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 70)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/654). وقيلَ: الحُكمُ التَّكليفيُّ أربَعةُ أقسامٍ، وهي: الوُجوبُ، والتَّحريمُ، والنَّدبُ، والكراهةُ. دونَ عَدِّ الإباحةِ مِن أحكامِ الشَّرعِ. يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 70)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/654). وقيلَ: الحُكمُ التَّكليفيُّ سِتَّةُ أقسامٍ: الوُجوبُ، والنَّدبُ، والإباحةُ، والتَّحريمُ، والكراهةُ، وخِلافُ الأَولى. يُنظر: ((جمع الجوامع)) (ص: 13)، ((الأشباه والنظائر)) (2/78) كِلاهما للسُّبكيِّ. .
وأمَّا أقسامُ الحُكمِ التَّكليفيِّ عِندَ الحَنَفيَّةِ فسَبعةٌ، وهي:
الفَرضُ، والإيجابُ، والنَّدبُ، والإباحةُ، والكراهةُ التَّنزيهيَّةُ، والكراهةُ التَّحريميَّةُ، والتَّحريمُ.
ووَجهُ هذا التَّقسيمِ عِندَ الحَنَفيَّةِ:
أنَّ خِطابَ الشَّارِع المُتَعَلِّقَ بأفعالِ المُكلَّفينَ: إمَّا أن يَرِدَ بطَلَبِ الفِعلِ، أوِ الكفِّ عنه، أوِ التَّخييرِ بينَ الفِعلِ والتَّركِ.
وطَلَبُ الفِعلِ إمَّا أن يَكونَ على وَجهِ الحَتمِ والجَزمِ، أو لا يَكونُ كذلك.
فإن ثَبت الطَّلَبُ الجازِمُ بقَطعيِّ الدَّلالةِ مِنَ القُرآنِ الكريمِ، أوِ الثُّبوتِ كالسُّنَّةِ المُتَواتِرةِ والإجماعِ، فهو الفَرضُ.
فإن ثَبت الطَّلَبُ الجازِمُ بظَنِّيِّ الدَّلالةِ مِنَ القُرآنِ الكريمِ، أوِ الدَّلالةِ أوِ الثُّبوتِ مِنَ السُّنَّةِ أوِ الإجماعِ، فهو الإيجابُ.
وإن لَم يَكُنْ طَلَبُ الفِعلِ على وَجهِ الحَتمِ والجَزمِ سُمِّيَ الخِطابُ نَدبًا.
وكذلك طَلَبُ الكَفِّ عنِ الفِعلِ، إمَّا أن يَكونَ على وَجهِ الحَتمِ والجَزمِ، أو لا يَكونُ كذلك.
فإن كان على وَجهِ الحَتمِ والجَزمِ، فقَد يَكونُ دَليلُه قَطعيًّا، وقد يَكونُ ظَنِّيًّا.
فإن كان الأوَّلَ فهو التَّحريمُ، وإن كان الثَّانيَ فهو الكراهةُ التَّحريميَّةُ.
وإن لَم يَكُنْ طَلَبُ الكفِّ عنِ الفِعلِ على وَجهِ الحَتمِ والجَزمِ، فهو الكَراهةُ التَّنزيهيَّةُ.
وإذا ورَدَ الخِطابُ بالتَّخييرِ بينَ الفِعلِ والتَّركِ فهو الإباحةُ [82] يُنظر: ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (2/80)، ((فواتح الرحموت)) للكنوي (1/48). .
الحِكمةُ مِن تَنَوُّعِ الأحكامِ التَّكليفيَّةِ:
مِن حِكَمِ تَنَوُّعِ الأحكامِ التَّكليفيَّةِ وانقِسامِها إلى واجِبٍ ومَندوبٍ وحَرامٍ ومَكروهٍ ومُباحٍ:
1- رَفعُ الحَرَجِ والمَشَقَّةِ عنِ المُكلَّفينَ؛ فالأحكامُ التَّكليفيَّةُ وُضِعَت لمَصلَحةِ العِبادِ، فلَو كانتِ التَّكاليفُ مَقصورةً على الوُجوبِ والتَّحريمِ فقَط؛ لَلَزِمَ مِن ذلك الحَرَجُ والتَّضييقُ على العِبادِ، فكانتِ المُباحاتُ، والمَندوباتُ، والمَكروهاتُ؛ تَخفيفًا عليهم.
2- الابتِلاءُ والامتِحانُ مِنَ اللهِ تعالى للمُكلَّفينَ؛ فامتِثالُ الواجِباتِ، واجتِنابُ الحُرُماتِ أقرَبُ إلى النَّفسِ الضَّعيفةِ التي تَخافُ العِقابَ دونَ رَغبةٍ في زيادةِ الثَّوابِ. لَكِن إذا قَويَ إيمانُ العَبدِ فإنَّه لا يَرضى أن يَقِفَ عِندَ حُدودِ الواجِبِ، بَل يَتَعَدَّاه إلى فِعلِ المَندوباتِ؛ ليَتَقَرَّبَ إلى اللهِ تعالى بذلك، كما ورَدَ في الحَديثِ القُدسيِّ: ((وما يَزالُ عَبدي يَتَقَرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ حَتَّى أُحِبَّه...)) [83] لَفظُه: عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ قال: من عادى لي وليًّا فقد آذَنتُه بالحَربِ، وما تَقَرَّبَ إليَّ عَبدي بشيءٍ أحَبَّ إليَّ مِمَّا افتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبدي يَتَقَرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ حَتى أحِبَّه، فإذا أحبَبتُه كُنتُ سَمعَه الذي يَسمَعُ به، وبَصَرَه الذي يُبصِرُ به، ويَدَه الَّتي يَبطِشُ بها، ورِجلَه التي يَمشي بها، وإن سَألني لأعطِيَنَّه، ولَئِنِ استَعاذَني لأُعيذَنَّه، وما تَرَدَّدتُ عن شيءٍ أنا فاعِلُه تَردُّدي عن نَفسِ المُؤمِنِ؛ يَكرَهُ المَوتَ، وأنا أكرَهُ مَساءَتَه)). أخرجه البخاري (6502). ، وكذلك لا يَرضى هذا العَبدُ أن يَقتَصِرَ على اجتِنابِ المُحرَّماتِ، بَل يَتَعَدَّى ذلك فيَجتَنِبُ المَكروهاتِ [84] يُنظر: ((المهذب)) لعبدالكريم النملة (1/ 141). .
دُخولُ المَندوبِ في الأحكامِ التَّكليفيَّةِ:
اختُلِف في المَندوبِ هل هو مِنَ الأحكامِ التَّكليفيَّةِ أو لا؟ على قَولينِ:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّ المَندوبَ مِنَ الأحكامِ التَّكليفيَّةِ.
وممن ذهب إلى هذا القول: الإسْفَرايِينيُّ [85] قال الآمِديُّ: (اختَلَف أصحابُنا في المَندوبِ: هل هو مِن أحكامِ التَّكاليفِ؟ فأثبتَه الأُستاذُ أبو إسحاقَ) ((الإحكام)) (1/ 121)، قال الطُّوفيُّ: (ومَن قال: هي تَكليفٌ -وهو الأُستاذُ أبو إسحاقَ الإسْفَرايِينيُّ....). ((شرح مختصر الروضة)) (1/ 264). ، والباقِلَّانيُّ [86] قال الجُوَينيُّ: (ذَهَبَ القاضي أبو بَكرٍ رَحِمَه اللهُ في جَماعةٍ مِنَ الأُصوليِّينَ إلى أنَّ المَندوبَ إليه مَأمورٌ به، والنَّدبُ أمرٌ على الحَقيقةِ...). ((البرهان)) (1/ 82). وقال ابنُ مُفلحٍ: (النَّدبُ تَكليفٌ، ذَكرَه ابنُ عَقيلٍ، وصاحِبُ الرَّوضةِ وغيرُهما، وقاله ابنُ الباقِلَّانيِّ). ((أصول الفقه)) (1/ 234). وعِبارةُ أبي بَكرٍ الباقِلَّانيِّ التي يُفهَمُ مِنها ذلك: (أمَّا حَدُّ النَّدبِ فإنَّه "المَأمورُ به الذي لا يَلحَقُ الذَّمُّ والمَأثَمُ بتَركِه مِن حيثُ هو تَركٌ لَه على وجهٍ ما، وما لا يَلحَقُ الذَّمُّ بتَركِه مِن حيثُ هو تَركٌ لَه مِن غيرِ حاجةٍ إلى فِعلٍ بَدَلٍ له". وكُلُّ نَدبٍ فهذه حالُه. وهذا أَولى مِن قَولِ مَن قال: "هو المَأمورُ به الذي ليس بمَنهيٍّ عن تَركِه"؛ لأنَّ المَندوبَ مَنهيٌّ عن تَركِه على وَجهِ ما الآمِرُ آمِرٌ به). ((التقريب والإرشاد)) (1/ 291). ، وابنُ عَقيلٍ [87]نَقَلَ ابنُ مُفلِحٍ أنَّ مَذهَبَ ابنِ عَقيلٍ أنَّه تَكليفٌ، قال: (النَّدبُ تَكليفٌ، ذَكَره ابنُ عَقيلٍ). ((أصول الفقه)) (1/ 234). ، وابنُ قُدامةَ [88] قال ابنُ مُفلِحٍ: (النَّدبُ تَكليفٌ، ذَكرَه ابنُ عَقيلٍ، وصاحِبُ الرَّوضةِ). ((أصول الفقه)) (1/ 234). قال ابنُ قُدامةَ: (والمندوبُ مأمورٌ به). ((روضة الناظر)) (1/ 125). ويُنظر: ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 35). ، ونُسِبَ إلى الجماهيرِ [89] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (2/ 643). .
وذلك للآتي:
1- أنَّ التَّكليفَ طَلَبُ ما فيه كُلفةٌ ومَشَقَّةٌ، وفِعلُ المَندوبِ رَغبةً في الثَّوابِ واحتياطًا للدِّينِ فيه مَشَقَّةٌ، وتَركُه فيه مَشَقَّةٌ على المُكلَّفِ القَويِّ الإيمانِ؛ نَظَرًا لفواتِ الثَّوابِ الجَزيلِ بفِعلِه، ورُبَّما كان ذلك أشَقَّ عليه مِنَ الفِعلِ.
2- أنَّ تَخصيصَ الفِعلِ بوَعدِ الثَّوابِ يَحُثُّ العاقِلَ على الفِعلِ، وهذا مِنَ الكُلفةِ.
3- أنَّ التَّكليفَ مِنَ الشَّارِعِ هو: طَلَبُ ما فيه كُلفةٌ ومَشَقَّةٌ، إلَّا أنَّ ذلك قَد يَكونُ بإلزامٍ، وذاك هو الإيجابُ، وقد لا يَكونُ بإلزامٍ، وذاك هو المَندوبُ، فهُما قَد طَلَبَهما الشَّارِعُ، ولَم يُخيِّرْ في فِعلِهما أو تَركِهما، وهما في فِعلِهما مَشَقَّةٌ وكُلفةٌ، إلَّا أنَّهما يَختَلفانِ في التَّركِ؛ فتَركُ الواجِبِ يَزيدُ في المَشَقَّةِ؛ لأنَّ التَّارِكَ يُعاقَبُ، أمَّا تَركُ المَندوبِ فلا مَشَقَّةَ فيه؛ لأنَّه لا عِقابَ عليه، فتبقى المَشَقَّةُ في المَندوبِ في الفِعلِ فقَط. ومِنهم مَن ذَكرَ أنَّه مِنَ الأحكامِ التَّكليفيَّةِ باعتِبارِ وُجوبِ اعتِقادِ كونِه مَندوبًا [90] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (1/ 121)، ((المهذب)) لعبدالكريم النملة (1/ 247). .
القَولُ الثَّاني: أنَّ المَندوبَ ليس مِنَ الأحكامِ التَّكليفيَّةِ.
ومِمَّن ذَهَبَ إلى ذلك: إمامُ الحَرَمينِ [91] يُنظر: ((البرهان)) (1/ 82). ، وابنُ بَرهانَ [92] يُنظر: ((الوصول)) (1/75- 76). ، والآمِديُّ [93] يُنظر: ((الإحكام)) (1/ 120). ، وابنُ الحاجِبِ [94] يُنظر: ((بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب)) (1/ 393). ، وتاجُ الدِّينِ ابنُ السُّبكيِّ [95] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (1/ 236). ، ونُسِبَ إلى الأكثَرين [96] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (1/ 121). .
والخِلافُ في هذه المَسألةِ لَفظيٌّ لا ثَمَرةَ لَه؛ حيثُ إنَّه راجِعٌ إلى تَفسيرِ التَّكليفِ ما هو؟ فمَن فسَّرَ التَّكليفَ بأنَّه "الخِطابُ بأمرٍ أو نَهيٍ"، أو "الأمرُ بما فيه كُلفةٌ، أوِ "النَّهيُ عَمَّا في الامتِناعِ عنه كُلفةٌ": قال: المَندوبُ مِنَ التَّكليفِ. ومَن فسَّرَ التَّكليفَ بأنَّه: "إلزامُ ما فيه كُلفةٌ" قال: المَندوبُ ليس مِنَ التَّكليفِ؛ لأنَّه لا إلزامَ في طَلَبِ المَندوبِ. فيَكونُ أصحابُ المَذهَبينِ مُتَّفِقينَ على أنَّ المَندوبَ مَطلوبٌ فِعلُه، إلَّا أنَّ أحَدَهما نُفي عنه اسمُ التَّكليفِ؛ نَظَرًا لعَدَمِ الإلزامِ في طَلَبِه، والآخَرُ أُثبِت لَه اسمُ التَّكليفِ؛ لعَدَدٍ مِنَ الاعتِباراتِ التي سَبَقَ ذِكرُها [97] يُنظر: ((المهذب)) لعبدالكريم النملة (1/ 247). .
دُخولُ المَكروهِ في الأحكامِ التَّكليفيَّةِ:
اختَلَف الأُصوليُّونَ في المَكروهِ: هل هو مِنَ الأحكامِ التَّكليفيَّةِ أو لا؟ على قَولينِ:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّ المَكروهَ مِنَ الأحكامِ التَّكليفيَّةِ
ونُسِبَ هذا القَولُ إلى الجُمهورِ [98] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/673). .
واستَدَلَّ الجُمهورُ بالإجماعِ؛ فإنَّ تَرْكَ المَكروهِ يُسَمَّى طاعةً بالإجماعِ، وتَسميَتُه طاعةً يَستَلزِمُ امتِثالَ الأمرِ، فامتِثالُ الأمرِ طاعةٌ بالإجماعِ [99] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/673). .
وأيضًا بالنَّظَرِ إلى وُجودِ مُطلَقِ مَعنى المَنعِ في الكراهةِ، لَحِقَ بالحَظرِ في تَناوُلِ التَّكليفِ لَه، بالإضافةِ إلى طَلَبِ الثَّوابِ المُتَرَتِّبِ على التَّركِ، فكما أنَّ النَّدبَ مَمنوعٌ مِن تَركِه بالإضافةِ إلى طَلَبِ ثَوابِه المُرَتَّبِ عليه؛ إذ ليس ثَوابُ مَن تَرَك المَندوباتِ كثَوابِ مَن فعَلَها وحافظَ عليها، فكذلك المَكروهُ مَمنوعٌ مِن فِعلِه بالإضافةِ إلى طَلَبِ الثَّوابِ المُتَرَتِّبِ على التَّركِ؛ لأنَّهما مُتَقابلانِ وسيَّانِ في الوِزانِ [100] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/248). .
القَولُ الثَّاني: أنَّ المَكروهَ ليس مِنَ الأحكامِ التَّكليفيَّةِ
وهو قَولُ بَعضِ الحَنَفيَّةِ [101] يُنظر: ((فصول البدائع)) للفناري (1/260)، ((فواتح الرحموت)) للكنوي (1/90). ونُسِبَ إلى الجُمهورِ [102] يُنظر: ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (2/ 225). .
ومَأخَذُ الخِلافِ في المَسألةِ يَرجِعُ إلى اختِلافِ الأُصوليِّينَ في تَفسيرِ التَّكليفِ:
فعِندَ مَن يَرى أنَّه إلزامُ ما فيه كُلفةٌ، يَقولُ: المَكروهُ لا يَدخُلُ تَحتَ التَّكليفِ؛ لأنَّ الإلزامَ لا يَشمَلُ مِن أقسامِ الحُكمِ التَّكليفيِّ إلَّا الإيجابَ والتَّحريمَ؛ لأنَّه يُنافي ما فيه التَّخييرُ، والمَكروهُ فيه تَخييرٌ، ويَكونُ دُخولُ المَكروهِ في الأقسامِ مِن بابِ التَّغليبِ.
وعِندَ مَن يَرى أنَّه طَلَبُ ما فيه كُلفةٌ. يَقولُ: المَكروهُ يَدخُلُ تَحتَ التَّكليفِ؛ لتَحَقُّقِ الطَّلَبِ فيه [103] يُنظر: ((سلاسل الذهب)) للزركشي (ص111)، ((أسباب اختلاف الأصوليين)) للودعاني (1/270). .
وأيضًا مَن يَقولُ بأنَّ في المَكروهِ تَكليفًا يرى ذلك مِن جِهةِ اعتِقادِ كَونِه مَكروهًا، وأمَّا مَن يَقولُ بأنَّه غيرُ مُكلَّفٍ به فلأنَّ فيه سَعةً، ولا تَكليفَ في السَّعةِ، فالخِلافُ لَم يَتَوارَدْ على مَحَلٍّ واحِدٍ، فعِندَ التَّحقيقِ يَتَبيَّنُ أنَّ الخِلافَ في المَسألةِ لَفظيٌّ [104] يُنظر: ((فواتح الرحموت)) للكنوي (1/90). . وأيضًا فأصحابُ المَذهَبينِ قَدِ اتَّفقوا على المَعنى، وهو: أنَّ المَكروهَ مَطلوبٌ تَركُه [105] يُنظر: ((المهذب)) لعبدالكريم النملة (1/ 293). .
دُخولُ المُباحِ في الأحكامِ التَّكليفيَّةِ:
المُباحُ ليس مُكلَّفًا به، ولا يَدخُلُ تَحتَ التَّكليفِ، وهو قَولُ جُمهورِ الأُصوليِّينَ [106] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (1/126)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (1/403)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (1/238). .
وقيلَ: يَدخُلُ المُباحُ تَحتَ التَّكليفِ مِن بابِ وُجوبِ اعتِقادِ إباحَتِه. وهو قَولُ أبي إسحاقَ الإسْفَرايِينيِّ [107] يُنظر: ((البرهان)) لإمام الحرمين (1/14)، ((المستصفى)) للغزالي (ص: 60). .
الدَّليلُ على أنَّ المُباحَ ليس مُكلَّفًا به:
أوَّلًا: أنَّ التَّكليفَ هو: الأمرُ بما فيه كُلفةٌ، والنَّهيُ عَمَّا في الامتِناعِ عنه كُلفةٌ، أي: طَلَبُ ما فيه مَشَقَّةٌ بصيغَتيِ الأمرِ أوِ النَّهيِ، والإباحةُ ليس فيها مَشَقَّةٌ جازِمةٌ كمَشَقَّةِ الوُجوبِ والتَّحريمِ، ولا مَشَقَّةٌ غيرُ جازِمةٍ كمَشَقَّةِ النَّدبِ والكراهةِ، وهي مَشَقَّةُ فواتِ الفضيلةِ. فالمُباحُ غيرُ مَأمورٍ به، ولا يَشتَمِلُ على كُلفةٍ ومَشَقَّةٍ؛ لأنَّ المُكلَّفَ في المُباحِ يُخيَّرُ بينَ الفِعلِ والتَّركِ مُطلَقًا، وهذا لا تَكليفَ فيه، وبناءً عليه فلا تَكليفَ في المُباحِ [108] يُنظر: ((البرهان)) لإمام الحرمين (1/14)، ((المهذب)) لعبدالكريم النملة (1/275). .
ثانيًا: أنَّ المُباحَ عِندَ الشَّارِعِ هو المُخيَّرُ فيه بينَ الفِعلِ والتَّركِ، مِن غيرِ مَدحٍ ولا ذَمٍّ لا على الفِعلِ ولا على التَّركِ، فإذا تَحَقَّقَ الاستِواءُ شَرعًا والتَّخييرُ، لَم يُتَصَوَّرْ أن يَكونَ التَّارِكُ به مُطيعًا؛ لعَدَمِ تَعَلُّقِ الطَّلَبِ بالتَّركِ؛ فإنَّ الطَّاعةَ لا تَكونُ إلَّا مَعَ الطَّلَبِ، ولا طَلَبَ فيه؛ فلا طاعةَ [109] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (1/172). .
وَجهُ دُخولِ المُباحِ في الأحكامِ التَّكليفيَّةِ:
يَدخُلُ المُباحُ في الأحكامِ التَّكليفيَّةِ -مَعَ كونِه غيرَ مَأمورٍ به- مِن عِدَّةِ أوجُهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّه يختَصُّ بالمُكلَّفينَ، أي: أنَّ الإباحةَ والتَّخييرَ لا يَكونُ إلَّا مِمَّن يَصِحُّ إلزامُه بالفِعلِ أوِ التَّركِ، أمَّا فِعلُ النَّاسي، والنَّائِمِ، والمَجنونِ، والصَّبيِّ، ومَن في حُكمِهم، فلا يوصَفُ بالإباحةِ، فهذا مَعنى جَعلِ المُباحِ مِن أقسامِ الأحكامِ التَّكليفيَّةِ الخَمسةِ، لا بمَعنى أنَّ المُباحَ مُكلَّفٌ به [110] يُنظر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (1/248)، ((المهذب)) لعبدالكريم النملة (1/275). .
الوَجهُ الثَّاني: أنَّه مِن بابِ التَّغليبِ؛ فإنَّ ما خيَّرَ فيه الشَّارِعُ المُكلَّفينَ ليس فيه تَكليفٌ في الحَقيقةِ [111] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (1/139)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (1/378). .
الوَجهُ الثَّالِثُ: أنَّ تَسميةَ المُباحِ تَكليفًا مِن بابِ تَتميمِ القِسمةِ؛ فإنَّ خِطابَ الشَّرعِ إمَّا أن يَرِدَ باقتِضاءِ الفِعلِ، أوِ اقتِضاءِ التَّركِ، أوِ التَّخييرِ بينَهما؛ فالذي يَرِدُ باقتِضاءِ الفِعلِ أمرٌ، فإنِ اقتَرَنَ به إشعارٌ بعَدَمِ العِقابِ على التَّركِ فهو نَدبٌ، وإلَّا فيَكونُ إيجابًا، والذي يَرِدُ باقتِضاءِ التَّركِ نَهيٌ، فإن أشعَرَ بعَدَمِ العِقابِ على الفِعلِ فكراهةٌ، وإلَّا فحَظرٌ. وبَقيَ قِسمٌ اقتَضَته القِسمةُ، وهو ما ليس في فِعلِه ولا في تَركِه ثَوابٌ ولا عِقابٌ، فكان ذِكرُ هذا القِسمِ تَتميمًا للقِسمةِ [112] يُنظر: ((نشر البنود)) لعبدالله الشنقيطي (1/25)، ((الشرح الكبير لمختصر الأصول)) للمنياوي (ص: 122). .
الوَجهُ الرَّابعُ: الإباحةُ داخِلةٌ في التَّكليفِ مِن جِهةِ تَعَلُّقِها بالمَقاصِدِ الشَّرعيَّةِ والأُمورِ الخارِجةِ، وذلك على النَّحوِ الآتي يُنظر في تفصيل ذلك: ((الموافقات)) للشاطبي (1/ 203-210). :
1- أنَّ الإباحةَ بالنَّظَرِ إلى الجُزئيَّةِ والكُلِّيَّةِ تَتَجاذَبُها بَقيَّةُ الأحكامِ، فالمُباحُ يَكونُ مُباحًا بالجُزءِ مَطلوبًا أو مَنهيًّا عنه بالكُلِّ؛ وذلك أنَّ مِنَ المُباحاتِ ما يَكونُ مَطلوبًا إذا تَرَكه الإنسانُ بالكُلِّيَّةِ أو تَرَكه كُلُّ النَّاسِ، وقد يَكونُ مَذمومًا في حالِ المُداوَمةِ عليه.
2- إذا كان المُباحُ خادِمًا لمَقصَدٍ شَرعيٍّ أو لناقِضٍ لَه فإنَّه يَأخُذُ حُكمَ أحَدِ الأحكامِ التَّكليفيَّةِ الأُخرى [114] سيَأتي تَفصيلُ ذلك في مَسألةِ المُباحِ بالجُزءِ والمُباحِ بالكُلِّ. .
الوَجهُ الخامِسُ: أنَّ المُباحَ فيه تَكليفٌ مِن جِهةِ اعتِقادِ كَونِه مُباحًا، باعتِبارِ أنَّه طُلبَ مِنَ المُكلَّفِ اعتِقادُ إباحَتِه، لا أنَّه طُلبَ مِنه فِعلُه، فالمُكلَّفُ به حينَئِذٍ هو اعتِقادُ المُباحِ لا المُباحُ نَفسُه [115] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (2/628). .
وهذا الاعتِقادُ واجِبٌ على المُكلَّفِ؛ ففي حَديثِ جابرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم النُّعمانُ بنُ قَوقَلٍ، فقال: يا رَسولَ الله، أرَأيتَ إذا صَلَّيتُ المَكتوبةَ، وحَرَّمتُ الحَرامَ، وأحلَلتُ الحَلالَ، أأدخُلُ الجَنَّةَ؟ فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((نَعَم)) [116] أخرجه مسلم (15). .
ومِن هذا الوَجهِ الأخيرِ: يَتَبيَّنُ أنَّ الخِلافَ في المَسألةِ لَفظيٌّ؛ فالمرادُ بقَولِ أبي إسحاق الإسفراييني: المُباحُ مُكلَّفٌ به: أنَّه يَجِبُ اعتِقادُ إباحَتِه، لا طلَب فعلِهِ، والوُجوبُ مِن خِطابِ التَّكليفِ. والجُمهورُ لا يُخالفونَه في كونِ المُباحِ مِنَ التَّكليفِ بهذا الاعتِبارِ، وهو لا يُخالِفُهم في أنَّ المُباحَ ليس مِنَ التَّكليفِ باعتِبارِ الفِعلِ والتَّركِ. فالخِلافُ في المَسألةِ لَم يَرِدْ على مَحَلٍّ واحِدٍ؛ فكان خِلافًا لَفظيًّا لا يُفيدُ فرعًا مِنَ الفُروعِ؛ لعَدَمِ بناءِ حُكمٍ عليه [117] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (2/628)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/264)، ((نشر البنود)) لعبدالله الشنقيطي (1/25)، ((الخلاف اللفظي)) لعبدالكريم النملة (1/208). .

انظر أيضا: