موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الثَّالِثةُ: بَيانُ التَّغييرِ


بَيانُ التَّغييرِ: هو البَيانُ الذي فيه تَغييرٌ لموجِبِ الكَلامِ الأوَّلِ [519] يُنظر: ((الكافي)) للسغناقي (3/1441)، ((كشف الأسرار)) لعبد العزيز البخاري (3/ 117). .
فهذا النَّوعُ مِنَ البَيانِ يَكونُ أوَّلُ الكَلامِ فيه مَوقوفًا على آخِرِه، فيَثبُتُ حُكمُهما مَعًا لا أن يَثبُتَ الحُكمُ في الأوَّلِ فقَط [520] يُنظر: ((التلويح)) للتفتازاني (1/ 203-204). .
مِثالُ بَيانِ التَّغييرِ: قَولُ اللهِ تعالى: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [العنكبوت: 14] ؛ فإنَّ الألفَ اسمٌ مَوضوعٌ لعَدَدٍ مَعلومٍ، فما يَكونُ دونَ ذلك العَدَدِ يَكونُ غَيرَه لا مَحالةَ، فلَولا الاستِثناءُ لَكان العِلمُ يَقَعُ لَنا بأنَّه لَبِثَ فيهم ألفَ سَنةٍ، ومَعَ الاستِثناءِ إنَّما يَقَعُ العِلمُ لَنا بأنَّه لَبِثَ فيهم تِسعَمِائةٍ وخَمسينَ عامًا، فيَكونُ هذا تغييرًا لمُقتَضى مُطلَقِ تَسميةِ الألفِ [521] يُنظر: ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 221)، ((أصول السرخسي)) (2/35). .
وحُكمُ بَيانِ التَّغييرِ: أنَّه لا يَصِحُّ إلَّا موصولًا [522] يُنظر: ((أصول الشاشي)) (ص: 257)، ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 222). ، وقد حَكى البَزْدَويُّ إجماعَ الفُقَهاءِ على ذلك [523] قال: (بَيانُ التَّغييرِ نَوعانِ: التَّعليقُ بالشَّرطِ، والِاستِثناءُ، وإنَّما يَصِحُّ ذلك موصولًا، ولا يَصِحُّ مفصولًا. وعلى هذا أجمَعَ الفُقَهاءُ). ((أصول البزدوي)) (ص: 472). .
ما يَكونُ به بَيانُ التَّغييرِ:
يَكونُ بَيانُ التَّغييرِ بأُمورٍ كَثيرةٍ، أهَمُّها بَيانُ التَّغييرِ بطَريقِ الاستِثناءِ، وبَيانُ التَّغييرِ بطَريقِ الشَّرطِ [524] يُنظر: ((أصول الشاشي)) (ص: 249)، ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 222)، ((بديع النظام)) لابن الساعاتي (2/498)، ((الكافي)) للسغناقي (3/1445). .
وفيما يَلي بَيانُ هَذَينِ الطَّريقَينِ اللَّذَينِ يَكونُ بهما بَيانُ التَّغييرِ، مَعَ ذِكرِ أثَرِهما في اختِلافِ الفُقَهاءِ.
أوَّلًا: بَيانُ التَّغييرِ بطَريقِ الاستِثناءِ
الاستِثناءُ لُغةً: استِفعالٌ، مِن: ثَنَيتُ الشَّيءَ أَثنيه ثَنيًا: إذا عَطَفتَه ورَدَدتَه، ويُقالُ: ثَنَيتُه عن مُرادِه: إذا صَرَفتَه عنه [525] يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (6/2294)، ((المصباح المنير)) للفيومي (1/85). .
واصطِلاحًا: عِبارةٌ عن لَفظٍ مُتَّصِلٍ بجُملةٍ، لا يَستَقِلُّ بنَفسِه، دالٍّ بحَرفِ (إلَّا) أو إحدى أخَواتِها على أنَّ مَدلولَه غَيرُ مُرادٍ مِمَّا اتَّصَلَ به، وليس بشَرطٍ ولا صِفةٍ ولا غايةٍ [526] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/287). .
فالِاستِثناءُ: هو إخراجُ شَيءٍ مِنَ الكَلامِ، ولَولا الاستِثناءُ لدَخلَ ذلك الشَّيءُ فيه لُغةً، ويَكونُ بـ(إلَّا) وهيَ الغالِبُ، أو بإحدى أخَواتِها، وهيَ: غَيرُ، وسِوى، وحاشا، وعدا، ولا يَكونُ، ولا سيَّما، وغَيرِها.
مِثالُه: قَولُ اللهِ تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [النحل: 106] ، فلَفظُ مَنْ كَفَرَ يَشمَلُ الكُفرَ الخَفيَّ في القَلبِ، والكُفرَ الظَّاهِرَ الذي يَصدُرُ مِنَ اللِّسانِ، فجاءَ الاستِثناءُ مُخَصِّصًا لهذا العُمومِ، وقَصدُ الكُفرِ الحَرامِ بأنَّه الصَّادِرُ عن رِضًا واختيارٍ مِنَ القَلبِ، وأخرَج ما يَقَعُ باللِّسانِ نَتيجةَ الإكراهِ [527] يُنظر: ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (2/69). .
ويُعَدُّ الاستِثناءُ مِن بَيانِ التَّغييرِ؛ أمَّا البَيانُ فبالنَّظَرِ إلى أنَّه إظهارُ أنَّ المُتَكَلِّمَ أرادَ البَعضَ مِنَ الكَلامِ ابتِداءً، وأمَّا التَّغييرُ فبالنَّظَرِ إلى شُمولِ الحُكمِ للجَميعِ على تَقديرِ عَدَمِ الاستِثناءِ، وبالِاستِثناءِ تَغَيَّر ذلك [528] يُنظر: ((التلويح)) للتفتازاني (2/40). .
ثانيًا: بَيانُ التَّغييرِ بطَريقِ الشَّرطِ
الشَّرطُ بَيانُ تَغييرٍ عِندَ جُمهورِ الحَنَفيَّةِ [529] يُنظر: ((فصول البدائع)) للفناري (2/118). .
وذَهَبَ أبو زَيدٍ الدَّبوسيُّ والسَّرَخسيُّ إلى أنَّه بَيانُ تَبديلٍ [530] يُنظر: ((تقويم الأدلة)) (ص: 221)، ((أصول السرخسي)) (2/35). .
والرَّاجِحُ: أنَّه مِن بَيانِ التَّغييرِ كالِاستِثناءِ؛ لأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهما يَمنَعُ انعِقادَ الكَلامِ عنِ الإيجابِ، إلَّا أنَّ الاستِثناءَ يَمنَعُ انعِقادَه في بَعضِ الجُملةِ أصلًا.
والتَّعليقُ بالشَّرطِ يَمنَعُ انعِقادَه لأحَدِ الحُكمَينِ، وهو الإيجابُ في الحالِ؛ فلكَونِ كُلِّ واحِدٍ مِنهما مانِعًا مِنَ الانعِقادِ، كانا مِن قِسمٍ واحِدٍ، فكانا مِن بابِ التَّغييرِ دونَ التَّبديلِ؛ فإنَّ التَّبديلَ هو النَّسخُ، كما قال اللهُ تعالى: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ [النحل: 101] ، وهما ليسا مِنَ النَّسخِ في شَيءٍ؛ إذِ النَّسخُ رَفعٌ بَعدَ الوُجودِ، ولَم يوجَدْ ذلك فيهما. ومَعنى كَونِ الشَّرطِ مِن بَيانِ التَّغييرِ أنَّه يَصِحُّ موصولًا فقَط، ولا يَصِحُّ مفصولًا [531] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/120). .
الفَرقُ بَينَ الاستِثناءِ والتَّعليقِ بالشَّرطِ:
أنَّ تَقديمَ الشَّرطِ على الجَزاءِ وتَأخيرَه عنه جائِزانِ.
أمَّا تَقديمُ الاستِثناءِ على المُستَثنى منه في الإثباتِ فلا يَجوزُ، فلَو قال: (طَلَّقتُ إلَّا زَينَبَ جَميعَ نِسائي) أو قال: (إلَّا زَينَبَ جَميعُ نِسائيّ طَوالِقُ) لا يَصِحُّ الاستِثناءُ، ويُطَلَّقُ جَميعُ النِّساءِ؛ لأنَّ مَعنى الاستِثناءِ: جَعلُ بَعضِ الأشياءِ مَصروفًا عنِ المَعنى الذي دَخَلَ فيه سائِرُه، فلَو جازَ تَقديمُه على المُستَثنى منه لبَطَلَ هذا المَعنى. وذلك بخِلافِ الشَّرطِ؛ لأنَّ مَعناه -وهو تَعليقُ الجَزاءِ به- لا يَبطُلُ بالتَّقديمِ والتَّأخيرِ [532] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/120). .

انظر أيضا: