موسوعة التفسير

سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (26-29)

ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ

غريب الكلمات:

يَنْقُضُونَ: ينبذونه بعدَ القَبول، ويتركون العمل به، والنَّقض ضِدُّ الإِبرام: وهو فكُّ تركيب الشيء وردُّه إلى ما كان عليه أوَّلًا، فنقض البناء: هدمه، ونقض المبرم: حلُّه [312] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 44)، ((المفردات)) للراغب (ص: 821). .
مِيثَاقه: الميثاق: عقد مؤكَّد بيمين وعهد، أو العهد المُحكَم، وأصله: العقد والإحكام [313] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/85)، ((المفردات)) للراغب (ص: 853). .

مشكل الإعراب:

في قوله تعالى: أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً
ما: صفة للنكرة قبلها (مثلًا)؛ لتزداد النكرة شياعًا.
بَعُوضَةً: بدَل منصوب من (ما). وثمَّة أقوال أخرى كثيرة [314] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/83-84)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/43)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (1/224)، ((إعراب القرآن الكريم)) لدعاس (1/17). .

المعنى الإجمالي:

إنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يَستحيي أن يوضِّح ما يريد بواسطة ضرب المثل بأيٍّ من مخلوقاته، ولو كان في حقارته كالبَعوضة، فما فوقَها في الكِبَر أو الصِّغَر، وهنا يتمايز المخاطبون كلٌّ حسب اعتقاده ويقينه؛ فأمَّا المؤمنون، فهُم على يقينٍ أنَّ المثل المضروب حقٌّ؛ لكونه جاء من ربِّهم، وأمَّا غيرهم، فهُم يعترضون على ما يَضرِبُه الله تعالى من أمثال.
وإنَّ الحكمة من ضَرْب الله للأمثال أنْ يتمايزَ المؤمنُ من الكافر، فالأمثال المضروبة من الله تعالى سببٌ لإضلال الكثير، وهدايةِ الكثير، لكن لا يضلُّ به إلَّا الخارجين عن طاعةِ الله من أهل الكُفر والنِّفاق، الذين يُفسِدون العهودَ المأخوذةَ عليهم من الله بعد تأكيدها، ويقومون بقطْعِ كلِّ ما أمر الله بوصلِه كالأرحام، وغيرِها من شرائع الدِّين، ويفسدون في الأرض بالكفر والفسوق والعصيان، هؤلاء الذين ذُكرتْ أوصافُهم قد حَرَموا أنفسهم الرِّبح بنيل رحمةِ الله، والفوزِ بالفلاح الدَّائم.
ثمَّ يُنكر اللهُ على كلِّ مَن كفَر به كفره هذا؛ إذ كيف يَكفُرون مع وضوح الأدلَّة على وجودِه وعظيم قدرته، والحال أنَّهم كانوا عدمًا، ثم نَفَخ فيهم الرُّوح، ثم يَقبِض أرواحهم، ثم يُحييهم للبعث والنُّشور، ثم إليه يعودون يومَ القيامة.
هذا الربُّ جلَّ وعلا هو الذي أوجد لكم كلَّ ما على الأرض كرمًا وفضلًا منه، ثمَّ علا وارتفع قاصدًا إلى خلق السموات، فخَلَقها سبعًا بإتقان، وهو محيطٌ علمًا بكلِّ شيء.

تفسير الآيات:

إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا.
أي: إنَّ الله تعالى لا يَستحيي أن يبيِّن الحقَّ عبر التشبيه بأيِّ شيءٍ كائنًا ما كان، ولو كان في الحقارة والصِّغر كالبعوضة فما فوقَها ممَّا هو أكبرُ منها، أو دونها في الصِّغر؛ وذلك لاشتمال الأمثال على الحِكمة، وإيضاح الحقِّ، والله تعالى لا يَستحيي من الحقِّ، ولابتلاء عبادِه واختبارهم بهذه الأمثال؛ ليتميَّز أهلُ الهداية والإيمان، من أهل الضَّلالة والكُفران [315] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/425-430) ((تفسير ابن عطية)) (1/111)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (4/136)، ((تفسير ابن كثير)) (1/207-208) ((تفسير السعدي)) (ص: 47)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/436). وعرَّف ابن القيِّم أمثال القرآن بأنَّها: (تشبيه شيءٍ بشيءٍ في حكمه، وتقريب المعقول من المحسوس، أو أحد المحسوسين من الآخر، واعتبار أحدها بالآخر) ((إعلام الموقعين)) (1/116). .
ثم شرع في تفصيل مواقف الخلق من ضرب الأمثال في القرآن فقال:
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ.
أي: إنَّ الذين أقرُّوا وصدَّقوا بقلوبهم وجوارحهم، يَعلَمون أنَّ هذا المثَل المضروب حقٌّ، حتى لو خفي عليهم تفصيله، فهم يَعلَمون أنَّه حقٌّ في الجُملة؛ لعِلمهم بأنَّ الله لم يضربْه عبثًا، بل لحِكمةٍ بالغة، فيزدادون بذلِك إيمانًا مع إيمانهم [316] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/431)، ((تفسير السعدي)) (ص: 47). .
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا.
أي: إنَّ الذين كفروا فلم يقرُّوا بالحق وينقادوا إليه، لم يَفهَموا حِكمةَ المثل المضروب؛ لذا فهم يعترضون ويتحيَّرون، أو فهموه لكنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم؛ فيَزدادون كفرًا إلى كُفرهم [317] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/432)، ((تفسير السعدي)) (ص: 47)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/246). .
ثم بيَّن الله تعالى حكمة ضرب المثل في كتابه، فقال:
يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا.
أي: إنَّ ضرب المثل في القرآن بمثابة ابتلاء واختبار يتميَّز به المؤمن من الكافر، فهو إضلالٌ لكثيرٍ لم يَفهموه، وهم المنافقون والكفَّار، وهدايةٌ لكثيرٍ فهِموه، وهم المؤمنون [318] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/432)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (4/136)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/246)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/97). .
كما قال تعالى: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة: 124-125] .
وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلَّا الفَاسِقِينَ.
أي: لا يُضلُّ اللهُ سبحانه بهذا المَثَل المضروبِ إلَّا الخارجين عن طاعتِه من أهل الكفر والنِّفاق، وهذا ما تقتضيه حِكمتُه وعدلُه [319] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/434-435)، ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (16/588)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (4/136)، ((تفسير ابن كثير)) (1/209-210)، ((تفسير السعدي)) (ص: 47). .
كما قال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر: 31] .
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27).
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ الله مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ.
أي: يصِف اللهُ تعالى الفاسقين الذين يَضلُّون بالمَثل المضروب، فيُخبر أنَّهم الذين يُفسِدون العهدَ الذي أخذ عليهم من بعد تأكيدِه. وهو وصيةُ الله تعالى بالإيمان به سبحانه وبجميع رُسله- ومنهم محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ- كما عهد إلى بني إسرائيل بذلك فنقضه كفارهم [320] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/436-437)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/101-102)، ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (1 /370). جاء عن مقاتل بن حيان: (قوله: مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ في التوراة أن يؤمنوا بمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم ويصدِّقوه، فكفروا ونقضوا الميثاق الأول) ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/72). .
كما قال سبحانه: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ... إلى قوله: ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ... [البقرة: 84 - 85] .
وقال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا... إلى قوله: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ... [المائدة: 12- 13] .
وقال عزَّ وجلَّ: لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ [المائدة: 70] .
وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ.
أي: يَقطعون كلَّ ما أمر الله تعالى بوَصلِه، كالأرحام، والتَّصديق بالأنبياء، وغير ذلك من شرائع الدِّين [321] نَسبَ ابن عطية هذا القول للجمهور. ((تفسير ابن عطية)) (1/113)، ويُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 47)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/101). .
وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ.
أي: ويفسدون في الأرض بالكُفر والمعاصي [322] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/441)، ((تفسير ابن عطية)) (1/113)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/372). وبنحوِ هذا القول، قال السُّدِّي، ومقاتِل بن حيَّان. ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/72). .
أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ.
أي: إنَّهم بكُفرِهم وأفعالِهم التي يرتكبونها قد ضلُّوا، فحَرَموا أنفسهم من الرِّبحِ الحقيقيِّ بنَيلِ رحمة الله تعالى، والحصولِ على الفوزِ الأبديِّ [323] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/442)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/110)، ((تفسير ابن عطية)) (1/113)، ((تفسير السعدي)) (ص: 48)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/372). .
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28).
أي: يُنكر الله تعالى على مَن كفر به، مُتعجِّبًا من كُفرهم مع وضوح الأدلَّة على وجودِه سبحانه، وعلى قُدْرته العظيمة، والحال أنَّه أماتهم مرَّتين، وأحياهم مرَّتين؛ وذلك بأنْ يُخرِجَهم من العدَم بعد أنْ كانوا نُطُفًا في أصلابِ آبائهم، فيُحييهم بأنْ ينفُخَ الرُّوح فيهم؛ ليَخرجوا إلى عالم الوجود الدُّنيويِّ، ثم يُميتَهم بقَبْض أرواحهم من أجسادِهم، فتنقضيَ آجالُهم الدنيويَّة، ثم يُحييَهم في قُبورِهم للبَعث والنُّشور، ثم يُخرجَهم من قُبورِهم، ويَحشرَهم إليه يوم القِيامة [324] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/450-451)، ((الروح)) لابن القيم (ص: 35)، (1/114)، ((تفسير ابن كثير)) (1/213)، ((تفسير السعدي)) (ص: 48)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/374-375)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/273)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/220)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/105). وممَّن قال بهذا من السَّلف: ابن عبَّاس، وابن مسعود، وغيرُهما من أصحاب رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ، و أبو مالك، ومجاهدٌ، يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/443)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/73). .
كما أخبر تعالى عن الكفَّار، أنَّهم يقولون يومَ القيامة: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غافر: 11] .
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29).
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا.
أي: أوجَد لكم- من فَضله وكرمِه- جميعَ ما على الأرض؛ للانتفاعِ به، والاستمتاعِ، والاعتبار [325] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/454)، ((تفسير السعدي)) (ص: 48)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/378)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/109-110). .
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
أي: بعد أنْ خلَقَ اللهُ تعالى الأرض [326] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/215). ، علا وارتفع قاصدًا إلى خَلْقِ السَّموات، فخلَقها بإحكامٍ وإتقانٍ، وهو العليم بما يَخلُق، وكيف يَخلقُه، كما أنَّ عِلمه سبحانه محيطٌ بجميع ما خلَق [327] وممن ذهب إلى أن استوى هنا بمعنى قصد وأراد وأقبل: الواحدي في ((الوجيز)) (ص: 98)، وابن كثير في ((تفسيره)) (1/213)، والسعدي في ((تفسيره)) (ص: 48)، وابن عثيمين في ((تفسيرالفاتحة والبقرة)) (1/109-110). وممن ذهب إلى أن استوى هنا بمعنى علا وارتفع: ابن جرير في ((تفسيره)) (1/458). وقال البغوي: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ مُفَسِّري السَّلَف: أي ارْتَفَع إلى السَّماء) ((تفسير البغوي)) (1/78). يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) لصالح آل الشيخ (1/522). .
كما قال تعالى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [فصلت: 9-12] .
وقال سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ [المؤمنون: 17] .

الفوائد التربوية:

1- المؤمِن لا يمكن أن يُعارِض ما أنزل الله عزَّ وجلَّ بعقله؛ لقوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [328] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/99). .
2- أنَّ إضلال مَن ضَلَّ راجع إلى وجود العِلَّة التي كانت سببًا في إضلال الله العبد؛ لقوله تعالى: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الفَاسِقِينَ [329] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/101). .
3- في قوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ [البقرة: 27] ، التَّحذير من نقْض عهد الله من بعد ميثاقِه؛ لأنَّ ذلك يكون سببًا للفِسق [330] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/103). .

الفوائد العلميَّة واللَّطائف:

1- في قوله تعالى إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا، دلالةٌ على رحمة الله تعالى بعبادِه حيث يُقرِّر لهم المعاني المعقولة بضَرْب الأمثال المحسوسة؛ لتتقرَّرَ تلك المعاني العظيمة في عقولِهم [331] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/99). .
2- أنَّ القياس حُجَّة؛ لأنَّ كلَّ مَثَل ضربه الله في القرآن، فهو دليلٌ على ثبوت القياس [332] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/99). .
3- إثبات الرُّبوبيَّة الخاصَّة؛ لقوله تعالى: مِنْ رَبِّهِمْ [333] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/99). .
4- أنَّ دَيدنَ الكافرين الاعتراضُ على حُكم الله، وعلى حِكمة الله؛ لقوله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا [334] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/100). .
5- كثرة الضُّلَّال وكثرة المهديِّين، بالنَّظر إلى كلِّ واحد من القبيلين على حدة، لا بالقياس إلى مُقابليهم؛ فإنَّ المهديِّين قليلون بالإضافةِ إلى أهل الضَّلال، كما قال تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [335] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (1/63-64)، ((الدر المصون)) للحلبي (1/233)، ((تفسير الشربيني)) (1/40-41).
6- أنَّ الموت يُطلَق على ما لا رُوحَ فيه، وإن لم تسبقْه حياةٌ [336] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/106). .
7- أنَّ الجنين لو خرَج قبل أن تُنفَخ فيه الرُّوح، فإنَّه لا يثبت له حُكم الحيِّ؛ ولهذا لا يُغَسَّل، ولا يُكفَّن، ولا يُصلَّى عليه، ولا يَرِث، ولا يُورث [337] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/106). .
8- أنَّ الأصل الحِلُّ في كلِّ ما في الأرض من أشجار، ومياه، وثمار، وحيوان، وغير ذلك؛ وهذه قاعدة عظيمة، وتمَّ تأكيدُ هذا العموم بقوله تعالى: جَمِيعًا [338] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/110). .
9- كمال خَلْق السَّموات؛ لقوله تعالى: فسوَّاهنَّ [339] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/111). .
10- في قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ إثباتُ الأفعالِ لله تعالى، كالاستواءِ.

بلاغة الآيات:


1- قوله: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا فيه لَفٌّ ونَشْر [340] اللَّف والنَّشْر: هو ذكر شيئين أو أشياء، إمَّا تفصيلًا - بالنصِّ على كلِّ واحد، أو إجمالًا - بأن يُؤتى بلفظ يشتمل على متعدِّد - ثم يذكر أشياء على عدَد ذلك، كل واحد يرجِع إلى واحدٍ من المتقدِّم، ويُفوَّض إلى عقل السامع ردُّ كلِّ واحد إلى ما يَليق به. فاللّف يُشار به إلى المتعدِّد الذي يُؤتى به أوَّلًا. والنشر يُشار به إلى المتعدِّد اللَّاحق الذي يتعلَّق كلُّ واحد منه بواحد من السَّابق دون تعيين. مثل: قوله تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة: 111] ، أي: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا اليهود، وقالت النصارى: لن يدخُل الجنة إلا النصارى، وهذا لفٌّ ونَشْر إجمالي. يُنظر: في تفصيل أقسامه وأمثلة على ذلك: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 425)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/320)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/403). ؛ لأنَّه لَمَّا تقدَّم ذِكر المثل، وذكَر بعده الفريقين، عقَّبه ببيان أنَّه يُضلُّ به قومًا، ويَهدي به آخَرين [341] يُنظر: ((تفسير ابن عرفة)) (1/80). .
2- قوله: فَأَمَّا الذين فأمَّا حرف فيه معنى الشَّرط، وفائدته في الكلام أن يُعطيَه فَضْلَ توكيد [342] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/117). .
3- قوله: يُوصَل بناء يوصل لِمَا لم يُسمَّ فاعله أبلغُ من بِنائه لِمَا سُمِّي فاعله؛ لأنَّه يَشمل ما أمَر الله بأن يَصِلوه هم، أو يصِله غيرُهم [343] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/208). .
4- قوله: بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا، وفَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا... وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا، ويُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً، ووَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ فيها طِباق، ومُقابَلة- وهي تعدُّد الطِّباق في الكلام [344] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/208)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/72). . وفائدته: إبراز المعنى وتوضيحه بذِكر الشَّيء وضِده، وهو من محاسِن البيان.
5- قوله: الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ جاء ترتيب هذه الصِّلات في غاية من الحسن؛ لأنَّه قد بدأ أولًا بنقض العهد، وهو أخصُّ هذه الثَّلاث، ثم ثنَّى بقَطْع ما أمر الله بوصْله، وهو أعمُّ من نقْض العهد وغيره، ثم أتى ثالثًا بالإفساد الذي هو أعمُّ من القَطع، وكلُّها ثمرات الفِسق [345] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/208). .
6- في قوله: الفَاسِقِينَ أتى باسم الفاعل (فاسقين) صِلةً للألف واللام- والتقدير: الذين فسَقوا-؛ ليدلَّ على ثبوتهم في هذه الصِّفة، فيكون وصف الفِسق لهم ثابتًا، وتكون النتائج عنه متجددة متكرِّرة، فيكون الذمُّ لهم أبلغَ؛ لجمعهم بين ثبوت الأصل وتجدُّد فروعه ونتائجه [346] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/208). .
7- قوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ
استفهام عن حال، وصَحِبه معنى التقرير والتوبيخ، أو صحِبه الإنكارُ والتعجُّب؛ فخرَج عن حقيقةِ الاستفهام، وإنكار الحال بـ(كيف) يستلزم إنكارَ الذَّات ضرورةً، وهو أبلغُ [347] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/121)، ((تفسير ابن عطية)) (1/112)، ((تفسير أبي حيان)) (1/209)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/374). .
تَكْفُرُونَ: فيه التفات؛ لأنَّ الكلام قبلُ كان بصورة الغَيبة، وهنا بصيغة الخِطاب، ومن فوائده هنا: أنَّ الإنكار إذا توجَّه إلى المخاطَب كان أبلغَ من توجُّهه إلى الغائب؛ لجواز أنْ لا يصلَه الإنكار، كما أنَّ الإنكار على المخاطَب أردعُ له عن أن يقَعَ فيما أُنكر عليه [348] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/209). .