موسوعة الآداب الشرعية

سابعًا: الإلحاحُ في الدُّعاءِ وتَكريرُه ثَلاثًا


مِن آدابِ الدُّعاءِ الإلحاحُ فيه، وأنْ يُكرِّرَه ثلاثًا.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((بَينَما رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصَلِّي عِندَ البَيتِ، وأبو جَهلٍ وأصحابٌ له جُلوسٌ، وقد نُحِرَت جَزورٌ بالأمسِ، فقال أبو جَهلٍ: أيُّكُم يَقومُ إلى سَلا جَزورِ بَني فُلانٍ، فيَأخُذُه فيَضَعُه في كَتِفَي مُحَمَّدٍ إذا سَجَدَ؟ فانبَعَثَ أشقى القَومِ فأخذَه، فلَمَّا سَجَدَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وضَعَه بَينَ كَتِفَيه! قال: فاستَضحَكوا، وجَعَلَ بَعضُهم يَميلُ على بَعضٍ، وأنا قائِمٌ أنظُرُ، لَو كانت لي مَنَعةٌ طَرحتُه عن ظَهرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ساجِدٌ ما يَرفعُ رَأسَه حَتَّى انطَلَقَ إنسانٌ فأخبَرَ فاطِمةَ، فجاءَت وهيَ جُوَيريةٌ، فطَرَحَته عنه، ثُمَّ أقبَلَت عليهم تَشتُمُهم، فلَمَّا قَضى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَلاتَه رَفعَ صَوته، ثُمَّ دَعا عليهم، وكان إذا دَعا دَعا ثَلاثًا، وإذا سَألَ سَألَ ثَلاثًا، ثُمَّ قال: اللَّهُمَّ عليك بقُرَيشٍ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فلَمَّا سَمِعوا صَوتَه ذَهَبَ عنهمُ الضَّحِكُ، وخافوا دَعوتَه)) [2132] وجاهَ المنبرِ: أي: مواجهَه ومقابلَه. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (2/ 240). .
2- عن شَريكِ بنِ عَبدِ اللهِ بنِ أبي نَمِرٍ، أنَّه سَمِعَ أنَسَ بنَ مالِكٍ ((يَذكُرُ أنَّ رَجُلًا دَخَل يَومَ الجُمُعةِ مِن بابٍ كان وِجاهَ [2133] أخرجه البخاري (240)، ومسلم (1794) واللفظ له. المِنبَرِ، ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائِمٌ يَخطُبُ، فاستَقبَلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائِمًا، فقال: يا رَسولَ اللهِ، هَلَكَتِ المَواشي، وانقَطَعَتِ السُّبُلُ؛ فادعُ اللَّهَ يُغيثُنا، قال: فرَفعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدَيه، فقال: اللَّهُمَّ اسقِنا، اللَّهُمَّ اسقِنا، اللَّهُمَّ اسقِنا.
قال أنَسٌ: ولا واللَّهِ ما نَرى في السَّماءِ مِن سَحابٍ، ولا قَزَعةً [2134] القَزَعةُ: القِطعةُ مِنَ السَّحابِ، وجَماعَتُها قَزَعٌ، كَقَصَبةٍ وقَصَبٍ. يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (6/ 192). ولا شَيئًا، وما بَينَنا وبَينَ سَلْعٍ [2135] سَلْعٌ: جَبَلٌ بقُربِ المدينةِ. يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (6/ 192). مِن بَيتٍ ولا دارٍ، قال: فطَلَعَت مِن ورائِه سَحابةٌ مِثلُ التُّرسِ، فلَمَّا تَوسَّطَتِ السَّماءَ انتَشَرَت ثُمَّ أمطَرَت، قال: واللهِ ما رَأينا الشَّمسَ سِتًّا! ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِن ذلك البابِ في الجُمعةِ المُقبِلةِ، ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائِمٌ يَخطُبُ، فاستَقبَلَه قائِمًا، فقال: يا رَسولَ اللهِ، هَلَكَتِ الأموالُ، وانقَطَعَتِ السُّبُلُ؛ فادعُ اللَّهَ يُمسِكْها! قال: فرَفعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدَيه، ثُمَّ قال: اللَّهُمَّ حَوالَينا ولا علينا، اللَّهُمَّ على الآكامِ [2136] الآكام: جَمعُ الأكَمةِ، وهيَ ما ارتَفعَ مِنَ الأرضِ كالتَّلِّ، وجَمعُه أَكَمٌ، ثُمَّ يُجمَعُ على الإكامِ والآكامِ. يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (1/ 603)، ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (3/ 206)، ((فتح الباري)) لابن حجر (2/ 505). والجِبالِ والآجامِ [2137] الآجامُ: جَمَعُ أجَمةٍ، وهيَ مَنبَتُ الشَّجَرِ، كالغَيضةِ، والأجَمةُ: الشَّجَرُ الكَثيفُ المُلتَفُّ. يُنظر: ((تهذيب اللغة)) لأبي منصور الأزهري (11/ 154)، ((المحكم والمحيط الأعظم)) لابن سيده (7/ 496). والظِّرابِ [2138] الظِّرابُ: جَمعُ ظَرِبٍ، وهي صِغارُ الجِبالِ والتِّلالِ. يُنظر: ((تهذيب اللغة)) لأبي منصور الأزهري (14/ 270)، ((أعلام الحديث)) للخطابي (1/ 603)، ((المعلم)) للمازري (1/ 481)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (6/ 203). والأوديةِ ومَنابِتِ الشَّجَرِ [2139] مَنابِتُ الشَّجَرِ: أراد بالشَّجَرِ: المرعى، ومنابِتُه التي تُنبِتُ الزَّرعَ والكلأَ. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (7/ 41). . قال: فانقَطَعَت، وخَرَجْنا نَمشي في الشَّمسِ!))
. قال شَريكٌ: فسَألتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ: أهو الرَّجُلُ الأوَّلُ؟ قال: لا أدري [2140] أخرجه البخاري (1013) واللفظ له، ومسلم (897). .
قوله: ((اللَّهُمَّ اسقِنا، اللَّهُمَّ اسقِنا، اللَّهُمَّ اسقِنا)). وفي روايةٍ: ((اللهُمَّ أغِثْنا، اللهُمَّ أغِثْنا، اللهُمَّ أغِثْنا)) [2141] أخرجها البخاري (1014)، ومسلم (897) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. .
قال النَّوويُّ: (هَكَذا هو مُكَرَّرٌ ثَلاثًا؛ ففيه استِحبابُ تَكَرُّرِ الدُّعاءِ ثَلاثًا. وفي الحَديثِ أدَبُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الدُّعاءِ؛ فإنَّه لم يَسأَلْ رَفعَ المَطَرِ مِن أصلِه، بَل سَأل رَفعَ ضَرَرِه، وكَشْفَه عنِ البُيوتِ والمَرافِقِ والطُّرُقِ بحَيثُ لا يَتَضَرَّرُ به ساكِنٌ ولا ابنُ سَبيلٍ، وسَأل بَقاءَه في مَواضِعِ الحاجةِ، بحَيثُ يَبقى نَفعُه وخِصبُه، وهيَ بُطونُ الأوديةِ وغَيرُها مِنَ المَذكورِ) [2142] يُنظر: ((شرح مسلم)) (6/ 192، 193). وقال القَسطَلَّانيُّ: (لم يَدعُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ برَفعِه؛ لأنَّه رَحمةٌ، بَل دَعا بكَشفِ ما يَضُرُّهم، وتَصييرِه إلى حَيثُ يَبقى نَفعُه وخِصبُه، ولا يَستَضرُّ به ساكِنٌ ولا ابنُ سَبيلٍ. وهذا مِن أدَبِه الكَريمِ، وخُلُقِه العَظيمِ، فيَنبَغي التَّأدُّبُ بمِثلِ أدَبِه. واستُنبِطَ مِن هذا أنَّ مَن أنعَمَ اللهُ عليه بنِعمةٍ لا يَنبَغي له أن يَتَسَخَّطَها لعارِضٍ يَعرِضُ فيها، بَل يَسألُ اللَّهَ تعالى رَفعَ ذلك العارِضِ، وإبقاءَ النِّعمةِ). ((إرشاد الساري)) (2/ 242). ويُنظر: ((اللامع الصبيح)) للبرماوي (4/ 423)، ((شرح سنن أبي داود)) لابن رسلان (6/ 49)، ((فتح الباري)) لابن حجر (2/ 507). .

انظر أيضا: