موسوعة الآداب الشرعية

رابعَ عشرَ: الحِرصُ على الإتيانِ بأسبابِ إجابةِ الدُّعاءِ


يَنبَغي للدَّاعي أن يَحرِصَ أشَدَّ الحِرصِ على تَحصيلِ أسبابِ إجابةِ الدُّعاءِ، ومِنها سِوى ما سَبَقَ:
- التَّوبةُ ورَدُّ المَظالمِ، والإقبالُ على اللهِ عَزَّ وجَلَّ بكُنهِ الهمَّةِ؛ فذلك هو السَّبَبُ القَريبُ في الإجابةِ، وهو الأدَبُ الباطِنُ، وهو الأصلُ في الإجابةِ [2167] يُنظر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (1/ 307). .
- كَثرةُ الدُّعاءِ والتَّعَرُّفُ إلى اللهِ في الرَّخاءِ:
فعن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن سَرَّه أن يَستَجيبَ اللهُ له عِندَ الشَّدائِدِ والكُرَبِ، فليُكثِرِ الدُّعاءَ في الرَّخاءِ)) [2168] أخرجه الترمذي (3382)، وأبو يعلى (6396) واللفظ لهما، والحاكم (2023). قواه بغيره الألباني في ((هداية الرواة)) (2180). وذهب إلى تصحيح إسنادَه الحاكمُ. .
وعنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: ((كُنتُ رَديفَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا غُلامُ، ألا أعلِّمُك كلماتٍ ينفعُك اللهُ بهنَّ؟ قُلتُ: بلى، فقال: احفَظِ اللهَ يحفَظْك، احفَظِ اللهَ تجِدْه أمامَك، تعرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاءِ يعرِفْك في الشِّدَّةِ، إذا سألتَ فاسألِ اللهَ، وإذا استعنتَ فاستعِنْ باللهِ؛ فقد جفَّ القلمُ بما هو كائنٌ، فلو أنَّ الخَلقَ كُلَّهم جميعًا أرادوا أن ينفَعوك بشيءٍ لم يَقضِه اللهُ لك لم يَقدِروا عليه، وإن أرادوا أن يضُرُّوك بشيءٍ لم يَقضِه اللهُ لك لم يَقدِروا عليه، واعلَمْ أنَّ في الصَّبرِ على ما تكرَهُ خيرًا كثيرًا، وأنَّ النَّصرَ مع الصَّبرِ، وأنَّ الفَرَجَ مع الكَربِ، وأنَّ مع العُسرِ يُسرًا)) [2169] أخرجه من طرق أحمد (2803) واللفظ له، والطبراني (11/223) (11560)، والحاكم (6449). صححه عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الشرعية الكبرى)) (3/333)، والقرطبي في ((التفسير)) (8/335)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (2803)، وحسنه وجوده ابن رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (1/459)، وحسنه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/327). وأخرجه بنحوه الترمذي (2516)، وأحمد (2669)، ولفظُ التِّرمذيِّ: (كنتُ خَلفَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا، فقال: ((يا غُلامُ، إنِّي أعلِّمُك كَلِماتٍ: احفَظِ اللهَ يحفَظْك، احفَظِ اللهَ تَجِدْه تُجاهَك، إذا سألْتَ فاسأَلِ اللهَ، وإذا استعَنْتَ فاستَعِنْ باللهِ، واعلَمْ أنَّ الأُمَّة لو اجتمَعَت على أن ينفعوك بشَيءٍ لم ينفعوك إلَّا بشَيءٍ قد كتبه اللهُ لك، واعلَمْ أنَّ الأُمَّة لو اجتمَعَت على أن يضُرُّوك بشَيءٍ لم يضرُّوك إلَّا بشَيءٍ قد كتبه اللهُ عليك، رُفِعَت الأقلامُ وجَفَّت الصُّحُفُ). صحَّحه الترمذيُّ، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (1/160)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2516)، وصحَّحه لغيره الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (699). .
- تَحَرِّي الأوقاتِ الفاضِلةِ [2170] وسيأتي ذكرُ ذلك مُفرَدًا ضِمْنَ آدابِ الدُّعاءِ. ، والأحوالِ الصَّالحةِ، والأماكِنِ الشَّريفةِ، وألَّا يُخليَ يَومًا ولَيلةً مِنَ الدُّعاءِ؛ فإنَّه بذلك يُحصِّلُ ساعاتِ الإجابةِ [2171] يُنظر: «المنهاج في شعب الإيمان» للحليمي (1/ 535 - 540)، ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (1/ 307)، ((فيض القدير)) للمناوي (3/ 301، 541)، ((تحفة الذاكرين)) للشوكاني (ص: 64)، ((تصحيح الدعاء)) لبكر أبو زيد (ص: 32).   .
- الدُّعاءُ بدَعوةِ يونُسَ عليه السَّلامُ وهو في بَطنِ الحوتِ:
فعن سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((دَعوةُ ذي النُّونِ إذ دَعا وهو في بَطنِ الحوتِ: لا إلَهَ إلَّا أنتَ سُبحانَك إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمينَ؛ فإنَّه لَم يَدعُ بها رَجُلٌ مُسلِمٌ في شَيءٍ قَطُّ إلَّا استَجابَ اللهُ له)) [2172] أخرجه الترمذي (3505) واللفظ له، وأحمد (1462). صحَّحه لغيره الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1/325)، وحَسَّنه ابنُ حجر كما في ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (4/11)، وصحَّح إسنادَه الحاكم في ((المستدرك)) (1886)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (3/36). وذهب إلى تصحيحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3505). .
- التَّوسُّلُ بعَمَلٍ صالحٍ:
فعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِي اللهُ عنهما قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((انطلَق ثلاثةُ رهطٍ ممَّن كان قبلَكم حتَّى أوَوا المبيتَ إلى غارٍ، فدخلوه، فانحدَرَت صَخرةٌ من الجَبَلِ فسَدَّت عليهم الغارَ، فقالوا: إنَّه لا يُنجيكم من هذه الصَّخرةِ إلَّا أن تَدْعوا اللهَ بصالحِ أعمالِكم. فقال رجُلٌ منهم: اللَّهمَّ كان لي أبوانِ شيخانِ كبيرانِ، وكُنتُ لا أَغبِقُ [2173] لا أغبِقُ قَبلَهما أهلًا ولا مالًا: أي: ما كُنتُ أُقَدِّمُ عليهما أحَدًا في شُربِ نَصيبِهما مِنَ اللَّبَنِ الذي يَشرَبانِه. والغَبوقُ: شَرابُ آخِرِ النَّهارِ، مُقابِلُ الصَّبوحِ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (10/ 317)، ((النهاية)) لابن الأثير (3/ 341). قَبْلَهما أهلًا ولا مالًا، فنأى بي في طَلَبِ شيءٍ يومًا، فلم أُرِحْ عليهما حتَّى ناما، فحَلبْتُ لهما غَبوقَهما فوجَدْتُهما نائمَينِ، وكَرِهتُ أن أَغبِقَ قَبْلَهما أهلًا أو مالًا، فلَبِثتُ والقَدَحُ على يَديَّ أنتَظِرُ استيقاظَهما حتى بَرَق الفَجرُ، فاستيقَظا فشَرِبا غَبوقَهما، اللَّهُمَّ إنْ كنتُ فعَلْتُ ذلك ابتغاءَ وَجْهِك ففرِّجْ عنَّا ما نحن فيه من هذه الصَّخرةِ، فانفرجَت شيئًا لا يستطيعونَ الخروجَ. وقال الآخَرُ: اللَّهُمَّ كانت لي بنتُ عَمٍّ كانت أحَبَّ النَّاسِ إليَّ، فأرَدتُها عن نَفسِها، فامتَنَعَت مِنِّي حَتَّى ألَمَّت بها سَنةٌ مِنَ السِّنينَ، فجاءَتني فأعطَيتها عِشرينَ ومِائةَ دينارٍ على أن تُخَلِّيَ بَيني وبَينَ نَفسِها، ففعَلَت حَتَّى إذا قدَرتُ عليها قالت: لا أُحِلُّ لَك أن تَفُضَّ الخاتَمَ إلَّا بحَقِّه [2174] لا تَفُضَّ الخاتَمَ: أي: لا تَكسِرْه، وهيَ عِبارةٌ عنِ افتِراعِ البِكرِ وافتِضاضِ عُذرتِها وكَسرِ خاتَمِ اللَّهِ الذي خَلقَها عليه. إلَّا بحَقِّه: أي: بواجِبِه في الشَّرعِ الذي كانوا عليه، فالحَقُّ هنا: الوَجهُ الجائِزُ مِن نِكاحٍ لا بالباطِلِ مِنَ الفاحِشةِ، والخاتَمُ: كِنايةٌ عن عُذرَتِها، أي: لا يَستَبيحُ افتِضاضَها إلَّا بما يَحِلُّ مِنَ النِّكاحِ. يُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (8/ 237)، ((مشارق الأنوار)) لعياض (1/ 210، 230) و(2/ 160)، ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (2/ 346). ، فتَحَرَّجتُ مِنَ الوُقوعِ عليها، فانصَرَفتُ عنها وهيَ أحَبُّ النَّاسِ إليَّ وتَرَكتُ الذَّهَبَ الذي أعطَيتُها، اللَّهُمَّ إن كُنتُ فعَلتُ ذلك ابتِغاءَ وَجهِك فافرُجْ عنَّا ما نَحنُ فيه. فانفرَجَتِ الصَّخرةُ، غَيرَ أنَّهم لا يَستَطيعونَ الخُروجَ مِنها. قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وقال الثَّالِثُ: اللَّهمَّ إنِّي استأجرتُ أُجَراءَ، فأعطيتُهم أجرَهم غيرَ رَجُلٍ واحدٍ ترك الذي له وذهَب، فثمَّرتُ أجرَه حتى كَثُرت منه الأموالُ، فجاءني بعدَ حينٍ، فقال: يا عبدَ اللهِ، أدِّ إليَّ أجري، فقُلتُ له: كلُّ ما ترى من أجرِك من الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ والرَّقيقِ! فقال: يا عبدَ اللهِ، لا تستهزِئْ بي! فقُلتُ: إنِّي لا أستهزئُ بك، فأخذَه كُلَّه، فاستاقه، فلم يترُكْ منه شيئًا، اللَّهُمَّ فإن كُنتُ فعَلتُ ذلك ابتِغاءَ وَجهِك، فافرُجْ عنَّا ما نَحنُ فيه، فانفرَجَتِ الصَّخرةُ، فخَرَجوا يَمشونَ)) [2175] أخرجه البخاري (2272). .
- الدُّعاءُ بظَهرِ الغَيبِ
عن صَفوانَ -وهو ابنُ عبدِ اللهِ بنِ صَفوانَ، وكانت تَحتَه الدَّرداءُ-، قال: قَدِمتُ الشَّامَ، فأتيتُ أبا الدَّرداءِ في مَنزِلِه فلم أجِدْه، ووجَدتُ أمَّ الدَّرداءِ، فقالت: أتُريدُ الحَجَّ العامَ؟ فقُلتُ: نَعَم، قالت: فادعُ اللَّهَ لنا بخيرٍ [2176] قال ابنُ تَيميَّةَ: (مَن قال لغَيرِه مِنَ النَّاسِ: ادعُ لي -أو لنا- وقَصَدَ أن يَنتَفِعَ ذلك المَأمورُ بالدُّعاءِ، ويَنتَفِعَ هو أيضًا بأمرِه، ويَفعَلَ ذلك المَأمورُ به كَما يَأمُرُه بسائِرِ فِعلِ الخَيرِ، فهو مُقتَدٍ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُؤتَمٌّ به، ليسَ هذا مِنَ السُّؤالِ المَرجوحِ. وأمَّا إن لم يَكُنْ مَقصودُه إلَّا طَلبَ حاجَتِه لم يَقصِدْ نَفعَ ذلك والإحسانَ إليه، فهذا ليسَ مِنَ المُقتَدينَ بالرَّسولِ المُؤتَمِّينَ به في ذلك، بَل هذا هو مِنَ السُّؤالِ المَرجوحِ الذي تَركُه إلى الرَّغبةِ إلى اللهِ ورَسولِه أفضَلُ مِنَ الرَّغبةِ إلى المَخلوقِ وسُؤالِه. وهذا كُلُّه مِن سُؤالِ الأحياءِ السُّؤالَ الجائِزَ المَشروعَ. وأمَّا سُؤالُ المَيِّتِ فليسَ بمَشروعٍ لا واجِبٍ ولا مُستَحَبٍّ، بَل ولا مُباحٍ، ولم يَفعَلْ هذا قَطُّ أحَدٌ مِنَ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ لهم بإحسانٍ، ولا استَحَبَّ ذلك أحَدٌ مِن سَلفِ الأُمَّةِ؛ لأنَّ ذلك فيه مَفسَدةٌ راجِحةٌ، وليسَ فيه مَصلحةٌ راجِحةٌ، والشَّريعةُ إنَّما تَأمُرُ بالمَصالحِ الخالصةِ أوِ الرَّاجِحةِ، وهذا ليسَ فيه مَصلحةٌ راجِحةٌ، بَل إمَّا أن يَكونَ مَفسَدةً مَحضةً أو مَفسَدةً راجِحةً، وكِلاهما غَيرُ مَشروعٍ). ((مجموع الفتاوى)) (1/ 193، 194). ؛ فإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَقولُ: ((دَعوةُ المَرءِ المُسلمِ لأخيه بظَهرِ الغَيبِ مُستَجابةٌ، عِندَ رَأسِه مَلَكٌ موكَّلٌ، كُلَّما دَعا لأخيه بخيرٍ قال المَلَكُ الموكَّلُ به: آمينَ، ولك بمِثلٍ)) [2177] أخرجه مسلم (2733). .
وعن أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (إنَّ دَعوةَ الأخِ في اللهِ تُستَجابُ) [2178] أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (624). صحح إسناده الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (486). .

انظر أيضا: