أولًا: إلقاءُ السَّلامِ على مَن عَرَف ومَن لم يَعرِفْ
من السُّنَّةِ إلقاءُ السَّلامِ على مَن عَرَف ومَن لم يَعرِفْ
[48] قال المُتَولِّي: (إذا لقيَ رَجُلٌ جَماعةً، فأرادَ أن يَخُصَّ طائِفةً مِنهم بالسَّلامِ كُرِهَ؛ لأنَّ القَصدَ مِنَ السَّلامِ المُؤانَسةُ والأُلفةُ، وفي تَخصيصِ البَعضِ إيحاشٌ للباقينَ، ورُبَّما صارَ سَبَبًا للعَداوةِ). ((الأذكار)) للنوويّ (ص: 256، 257). .
الدَّليلُ على ذلك مِن السُّنَّةِ والآثارِ:أ- مِنَ السُّنَّةِ:1- عن عَبدِ اللَّهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما:
((أنَّ رَجُلًا سَأل النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّ الإسلامِ خيرٌ؟ قال: تُطعِمُ الطَّعامَ، وتَقرَأ السَّلامَ على مَن عَرَفتَ ومَن لم تَعرِفْ)) [49] أخرجه البخاري (12) واللفظ له، ومسلم (39). .
2- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا تَدخُلونَ الجَنَّةَ حتَّى تُؤمِنوا، ولا تُؤمِنوا حتَّى تَحابُّوا، أوَلا أدُلُّكُم على شيءٍ إذا فعَلتُموه تَحابَبتُم؟ أفشُوا السَّلامَ بينَكُم)) [50] أخرجه مسلم (54). .
قال النَّوويُّ: (فيه الحَثُّ العَظيمُ على إفشاءِ السَّلامِ وبَذلِه للمُسلِمينَ كُلِّهم؛ مَن عَرَفتَ ومَن لم تَعرِفْ... وبَذلُ السَّلامِ للعالَمِ، والسَّلامُ على مَن عَرَفتَ ومَن لم تَعرِفْ، وإفشاءُ السَّلامِ: كُلُّها بمَعنًى واحِدٍ، وفيها لطيفةٌ أخرى، وهي أنَّها تَتَضَمَّنُ رَفعَ التَّقاطُعِ والتَّهاجُرِ والشَّحناءِ، وفسادِ ذاتِ البَينِ التي هي الحالِقةُ، وأنَّ سَلامَه للَّهِ لا يَتَّبعُ فيه هَواه، ولا يَخُصُّ أصحابَه وأحبابَه به، واللَّهُ سُبحانَه وتعالى أعلَمُ بالصَّوابِ)
[51] ((شرح مسلم)) (2/ 36). .
3- عن طارِقِ بنِ شِهابٍ، قال: كُنَّا عِندَ عَبدِ اللَّهِ يَعني: ابنَ مَسعودٍ جُلوسًا، فجاءَ رَجُلٌ فقال: قَد أقيمَتِ الصَّلاةُ، فقامَ وقُمنا مَعَه، فلمَّا دَخَلنا المَسجِدَ، رَأينا النَّاسَ رُكوعًا في مُقَدَّمِ المَسجِدِ، فكبَّرَ ورَكعَ، ورَكعْنا ثُمَّ مَشَينا، وصَنَعنا مِثلَ الذي صَنَعَ، فمَرَّ رَجُلٌ يُسرِعُ، فقال: عليك السَّلامُ يا أبا عَبدِ الرَّحمنِ، فقال: صَدَقَ اللهُ ورَسولُه
[52] الظَّاهِرُ أنَّ هذه الواقِعةَ كانت قَبلَ النَّهيِ عن المَشيِ في الصَّلاةِ والكلامِ فيها. يُنظر: ((الفتح الرباني مع بلوغ الأماني)) للساعاتي (17/ 332). ! فلمَّا صَلَّينا ورَجَعنا دَخَل إلى أهلِه، جَلَسْنا، فقال بَعضُنا لبَعضٍ: أمَا سَمِعتُم رَدَّه على الرَّجُلِ: صَدَقَ اللهُ، وبَلَّغَت رُسُلُه؟! أيُّكُم يَسألُه؟ فقال طارِقٌ: أنا أسألُه، فسَأله حينَ خَرَجَ، فذَكرَ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ بينَ يَدَيِ السَّاعةِ: تَسليمَ الخاصَّةِ، وفُشُوَّ التِّجارةِ حتَّى تُعينَ المَرأةُ زَوجَها على التِّجارةِ، وقَطعَ الأرحامِ، وشَهادةَ الزُّورِ، وكِتمانَ شَهادةِ الحَقِّ، وظُهورَ القَلَمِ)) [53] أخرجه أحمد (3870) واللفظ له، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (1049)، والحاكم (7239). حَسَّن إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (3870). وذهب إلى تصحيح إسناده الحاكم، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (5/333)، والألباني على شرط مسلم في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (647) .
وفي رِوايةٍ أنَّ طارِقًا قال لعَبدِ اللَّهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه: سَلَّمَ الرَّجُلُ عليك فرَدَدتَ عليه: صَدَقَ اللهُ، وبَلَّغَ رَسولُه! قال: فرَوى عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال:
((ما بينَ يَديِ السَّاعةِ: تَسليمُ الخاصَّةِ، وفُشوُّ التِّجارةِ حتَّى تُعينَ المَرأةُ زَوجَها على التِّجارةِ، وقَطعُ الأرحامِ، وظُهورُ شَهادةِ الزُّورِ، وكِتمانُ شَهادةِ الحَقِّ)) [54] أخرجها الطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (1590). حَسَّنها شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (1590). .
قولُه:
((تَسليمُ الخاصَّةِ)) أي: تسليمُ الرَّجلِ على ناسٍ مَخصوصينَ يَعرِفُهم
[55] ((الفتح الرباني)) للساعاتي (17/ 332). .
قال أبو جَعفَرٍ الطَّحاويُّ: (المُسلِّمُ على الواحِدِ مِنَ الجَماعةِ قَد كان عليه السَّلامُ على كُلِّ واحِدٍ مِن تلك الجَماعةِ، كما عليه السَّلامُ للذي سَلَّمَ عليه؛ فاختِصاصُه ذلك الواحِدَ بذلك السَّلامِ دونَ بَقيَّتِهم ظُلمٌ مِنه لبَقيَّتِهم؛ لأنَّ مِن حَقِّ المُسلمِ على المُسلمِ أن يُسَلِّمَ عليه إذا لَقيَه)
[56] ((مشكل الآثار)) (4/ 271). .
ب- مِنَ الآثارِ:عَن عَمَّارٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (ثَلاثٌ مَن جَمعَهنَّ جَمَع الإيمانَ: الإنصافُ مِن نَفسِك، والإنفاقُ مِنَ الإقتارِ، وبَذلُ السَّلام للعالَمِ)
[57] أخرجه البخاري مُعَلَّقًا بصيغة الجَزم قَبل حَديث (28)، وأخرجه مَوصولًا ابنُ أبي شيبة (31080) واللفظ له، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (49). صَحَّحه ابنُ حجر في ((تغليق التعليق)) (2/37)، والألباني في ((الكلم الطيب)) (197). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (قال أبو الزِّنادِ بنُ سِراجٍ وغيرُه: إنَّما كان مَن جَمَع الثَّلاثَ مُستَكمِلًا للإيمانِ؛ لأنَّ مَدارَه عليها؛ لأنَّ العَبدَ إذا اتَّصَف بالإنصافِ لم يَترُكْ لمَولاه حَقًّا واجِبًا عليه إلَّا أدَّاه، ولم يَترُكْ شيئًا مِمَّا نَهاه عنه إلَّا اجتَنَبَه، وهذا يَجمَعُ أركانَ الإيمانِ. وبَذلُ السَّلامِ يَتَضَمَّنُ مَكارِمَ الأخلاقِ، والتَّواضُعَ وعَدَمَ الاحتِقارِ، ويَحصُلُ به التَّآلُفُ والتَّحابُبُ. والإنفاقُ مِنَ الإقتارِ يَتَضَمَّنُ غايةَ الكرَمِ؛ لأنَّه إذا أنفقَ مَعَ الاحتياجِ كان مَعَ التَّوسُّعِ أكثَرَ إنفاقًا، والنَّفَقةُ أعَمُّ مِن أن تَكونَ على العيالِ واجِبةً ومَندوبةً، أو على الضَّيفِ والزَّائِرِ، وكونُه مِنَ الإقتارِ يَستَلزِمُ الوُثوقَ باللهِ، والزُّهدَ في الدُّنيا، وقِصَرَ الأمَلِ، وغيرَ ذلك مِن مُهمَّاتِ الآخِرةِ)
[58] ((فتح الباري)) (1/ 83). .
وقال النَّوويُّ: (قَد جَمَعَ في هذه الكَلِماتِ الثَّلاثِ خيراتِ الآخِرةِ والدُّنيا؛ فإنَّ الإنصافَ يَقتَضي أن يُؤَدِّيَ إلى اللهِ تعالى جَميعَ حُقوقِه وما أمَرَه به، ويَجتَنِبَ جَميعَ ما نَهاه عنه، وأن يُؤَدِّيَ للنَّاسِ حُقوقَهم، ولا يَطلُبَ ما ليس له، وأن يُنصِفَ أيضًا نَفسَه، فلا يوقِعَها في قَبيحٍ أصلًا.
وأمَّا بَذلُ السَّلامِ للعالَمِ فمَعناه: لجَميعِ النَّاسِ، فيَتَضَمَّنُ ألَّا يَتَكبَّرَ على أحَدٍ، وألَّا يَكونَ بينَه وبينَ أحَدٍ جَفاءٌ يَمتَنِعُ بسَبَبِه مِنَ السَّلامِ عليه بسَبَبِه.
وأمَّا الإنفاقُ مِنَ الإقتارِ فيَقتَضي كمالَ الوُثوقِ باللهِ تعالى، والتَّوكُّلَ عليه، والشَّفقةَ على المُسلمينَ، إلى غيرِ ذلك، نَسألُ اللَّهَ تعالى الكريمَ التَّوفيقَ لجَميعِه)
[59] ((الأذكار)) (ص: 243). .