تم اعتماد المنهجية من الجمعية الفقهية السعودية
برئاسة الشيخ الدكتور سعد بن تركي الخثلان
أستاذ الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود
عضو هيئة كبار العلماء (سابقاً)
يُشرعُ أن يُرسِلَ بالسَّلامِ إلى مَن غابَ عنه، وأنْ يردَّ المرسَلُ إليه السَّلامَ على المرسِلِ والمبلِّغِ [134] قال النَّوويُّ: (يُستَحَبُّ أن يُرسِلَ بالسَّلامِ إلى مَن غابَ عنه، وإذا بَعَثَ إنسانٌ مَعَ إنسانٍ سَلامًا، فقال الرَّسولُ: فُلانٌ يُسَلِّمُ عليك... يَجِبُ عليه أن يَرُدَّ على الفورِ، ويُستَحَبُّ أن يَرُدَّ على المبَلِّغِ أيضًا، فيَقولَ: وعليك وعليه السَّلامُ). ((الأذكار)) (ص: 247). . الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ والآثارِ: أ- مِنَ السُّنَّةِ 1- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أتى جِبريلُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رَسولَ اللهِ، هذه خَديجةُ قَد أتَت مَعَها إناءٌ فيه إدامٌ، أو طَعامٌ أو شَرابٌ، فإذا هي أتَتك فاقرَأْ عليها السَّلامَ مِن رَبِّها ومنِّي، وبَشِّرْها ببيتٍ في الجَنَّةِ مِن قَصَبٍ [135] مِن قَصَبٍ: المُرادُ به لُؤلُؤةٌ مُجَوَّفةٌ واسِعةٌ، كالقَصرِ المنيفِ قيل: النُّكتةُ في قَولِه: «مِن قَصَبٍ» ولم يَقُلْ: مِن لُؤلُؤٍ: أنَّ في لفظِ القَصَبِ مُناسَبـةً لكونِها أحرَزَت قَصَبَ السَّبقِ بمُبادَرَتِها إلى الإيمانِ دونَ غيرِها، وفي القَصَبِ مُناسَبةٌ أُخرى مِن جِهةِ استِواءِ أكثَرِ أنابيبِه، وكذا كان لخَديجةَ مِنَ الاستِواءِ ما ليس لغيرِها؛ إذ كانت حَريصةً على رِضاه بكُلِّ مُمكِنٍ، ولم يَصدُرْ مِنها ما يُغضِبُه قَطُّ كما وقَعَ لغيرِها. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (7/ 138). ، لا صَخَبَ [136] الصَّخَبُ: الصِّياحُ والمُنازَعةُ برَفعِ الصَّوتِ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (7/ 138). فيه ولا نَصَبَ [137] لا نَصَبَ، أي: لم تَتعَبْ بسَبَبِه. والنَّصَبُ: التَّعَبُ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (7/ 138). ) [138] أخرجه البخاري (3820) واللفظ له، ومسلم (2432). . 2- عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((جاءَ جِبريلُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعِندَه خَديجةُ، وقال: إنَّ اللَّهَ يُقرِئُ خَديجةَ السَّلامَ. فقالت: إنَّ اللَّهَ هو السَّلامُ، وعلى جِبريلَ السَّلامُ، وعليك السَّلامُ ورَحمةُ اللهِ)) [139] أخرجه النسائي في ((السنن الكبرى)) (10206) واللفظ له، والحاكم (4924). حَسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (110). وذهبَ إلى تصحيحِه الحاكمُ على شَرطِ مسلمٍ. . قال ابنُ حَجَرٍ: (قال العُلماءُ: في هذه القِصَّةِ دَليلٌ على وُفورِ فِقهِها؛ لأنَّها لم تَقُلْ: وعليه السَّلامُ، كما وقَعَ لبَعضِ الصَّحابةِ؛ حيثُ كانوا يَقولونَ في التَّشَهُّدِ: السَّلامُ على اللهِ، فنَهاهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقال: إنَّ اللَّهَ هو السَّلامُ، فقولوا: التَّحيَّاتُ للَّهِ [140] عَن عَبدِ اللَّهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كُنَّا إذا كُنَّا مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الصَّلاةِ، قُلنا: السَّلامُ على اللهِ مِن عِبادِه، السَّلامُ على فُلانٍ وفُلانٍ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا تَقولوا: السَّلامُ على اللهِ، فإنَّ اللَّهَ هو السَّلامُ، ولكِن قولوا: التَّحيَّاتُ للَّهِ، والصَّلواتُ والطّيِّباتُ، السَّلامُ عَليك أيُّها النَّبيُّ ورَحمةُ اللهِ وبَرَكاتُه، السَّلامُ عَلينا وعلى عِبادِ اللهِ الصَّالحينَ -فإنَّكُم إذا قُلتُم أصابَ كُلَّ عَبدٍ في السَّماءِ أو بينَ السَّماءِ والأرضِ- أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأشهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبدُه ورَسولُه، ثُمَّ يَتَخيَّرُ مِنَ الدُّعاءِ أعجَبَه إليه، فيَدعو)). أخرجه البخاري (835) واللفظ له، ومسلم (402). . فعَرفَت خَديجةُ لصِحَّةِ فهمِها أنَّ اللَّهَ لا يُرَدُّ عليه السَّلامُ كما يُرَدُّ على المَخلوقينَ؛ لأنَّ السَّلامَ اسمٌ مِن أسماءِ اللهِ، وهو أيضًا دُعاءٌ بالسَّلامةِ، وكِلاها لا يَصلُحُ أن يُرَدَّ به على اللهِ، فكأنَّها قالت: كيف أقولُ: عليه السَّلامُ، والسَّلامُ اسمُه، ومِنه يُطلَبُ ومِنه يَحصُلُ؟! فيُستَفادُ مِنه: أنَّه لا يَليقُ باللهِ إلَّا الثَّناءُ عليه، فجَعَلت مَكانَ رَدِّ السَّلامِ عليه الثَّناءَ عليه، ثُمَّ غايَرَت بينَ ما يَليقُ باللهِ وما يَليقُ بغيرِه، فقالت: وعلى جِبريلَ السَّلامُ، ثُمَّ قالت: وعليك السَّلامُ. ويُستَفادُ مِنه رَدُّ السَّلامِ على مَن أرسَل السَّلامَ وعلى مَن بَلَّغَه) [141] ((فتح الباري)) (7/ 139). . 3- عن أبي سَلَمةَ بنِ عَبدِ الرَّحمَنِ، أنَّ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها زَوجَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قالت: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يا عائِشُ، هذا جِبريلُ يُقرِئُكِ السَّلامَ. قُلتُ: وعليه السَّلامُ ورَحمةُ اللهِ، قالت: وهو يَرى ما لا نَرى)) [142] أخرجه البخاري (6201) واللفظ له، ومسلم (2447). . 4- عن أبي بُردةَ، عن أبيه رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((لمَّا فرَغَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن حُنَينٍ بَعَثَ أبا عامِرٍ على جَيشٍ إلى أوطاسٍ، فلَقيَ دُرَيدَ بنَ الصِّمَّةِ، فقُتِلَ دُرَيدٌ وهَزَمَ اللهُ أصحابَه، قال أبو موسى: وبَعَثَني مَعَ أبي عامِرٍ، فرُميَ أبو عامِرٍ في رُكبَتِه، رَماه جُشَميٌّ بسَهمٍ فأثبَتَه في رُكبَتِه ... قُلتُ لأبي عامِرٍ: قَتَلَ اللهُ صاحِبَك، قال: فانزِع هذا السَّهمَ، فنَزَعتُه فنَزا [143] فَنَزا: أي: ظَهَر وارتَفَع وجرى وانصَبَّ ولم ينقَطِعْ. يُنظر: ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (4/ 149)، ((شرح مسلم)) للنووي (16/ 59، 60)، ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (5/ 85) و (6/ 408). مِنه الماءُ! قال: يا ابنَ أخي، أقرِئِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم السَّلامَ، وقُلْ له: استَغفِرْ لي! واستَخلَفَني أبو عامِرٍ على النَّاسِ، فمَكَثَ يَسيرًا ثُمَّ ماتَ، فرَجَعتُ فدَخَلتُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بَيتِه على سَريرٍ مُرمَلٍ [144] سرير مُرمَل: أي: قد نُسِج وَجهُه بالسَّعَفِ. وقيل: مُرمَل: أي: منسوج بحَبلٍ ونحوِه. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (8/ 411)، ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (6/ 408). وعليه فِراشٌ، قد أثَّرَ رِمالُ السَّريرِ بظَهرِه وجَنبَيه، فأخبَرتُه بخَبَرِنا وخَبَرِ أبي عامِرٍ، وقال: قُلْ له: استَغفِرْ لي، فدَعا بماءٍ فتَوضَّأ، ثُمَّ رَفعَ يَدَيه فقال: اللَّهُمَّ اغفِرْ لعُبَيدٍ أبي عامِرٍ، ورَأيتُ بَياضَ إبطَيه، ثُمَّ قال: اللَّهُمَّ اجعَلْه يَومَ القيامةِ فوقَ كَثيرٍ مِن خَلقِك مِنَ النَّاسِ. فقُلتُ: ولي فاستَغفِرْ! فقال: اللَّهُمَّ اغفِرْ لعَبدِ اللهِ بنِ قَيسٍ ذَنبَه، وأدخِلْه يَومَ القيامةِ مُدخَلًا كَريمًا)). قال أبو بُردةَ: إحداهما لأبي عامِرٍ، والأُخرى لأبي موسى [145] أخرجه البخاري (4323) واللفظ له، ومسلم (2498). . 5- عن طَلقِ بنِ حَبيبٍ البَصريِّ، أنَّ أبا طَليقٍ حَدَّثَهم: ((أنَّ امرَأتَه أمَّ طَليقٍ أتَته فقالت له: حَضَرَ الحَجُّ يا أبا طَليقٍ، وكان له جَمَلٌ وناقةٌ، يَحُجُّ على النَّاقةِ ويَغزو على الجَمَلِ، فسَألَته أن يُعطيَها الجَمَلَ تَحُجُّ عليه، قال: ألم تَعلَمي أنِّي حَبَستُه في سَبيلِ اللهِ؟ قالت: إنَّ الحَجَّ مِن سُبُلِ اللهِ، فأعطِنيه يَرحَمُك اللهُ. قال: ما أريدُ أن أعطيَكِ. قالت: فأعطِني ناقَتَك وحُجَّ أنتَ على الجَمَلِ. قال: لا أوثِرُك بها على نَفسي. قالت: فأعطِني مِن نَفقَتِك، قال: ما عِندي فضلٌ عَنِّي وعَن عِيالي ما أخرُجُ به وما أنزِلُ لكُم، قالت: إنَّك لو أعطيتَني أخلَفَكها اللهُ. قال: فلمَّا أبيتُ عليها قالت: فإذا أتيتَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأقرِئْه مِنِّي السَّلامَ وأخبِرْه بالذي قُلتُ لك. قال: فأتيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأقرَأتُه مِنها السَّلامَ، وأخبَرتُه بالذي قالت أمُّ طَليقٍ، قال: صَدَقَت أمُّ طَليقٍ، لو أعطيتَها الجَمَلَ كان في سَبيلِ اللهِ، ولو أعطيتَها ناقَتَك كانت وكُنتَ في سَبيلِ اللهِ، ولو أعطيتَها مِن نَفقَتِك أخلَفَكها اللهُ. قال: وإنَّها تَسألُك يا رَسولَ اللهِ ما يَعدِلُ الحَجَّ مَعَك؟ قال: عُمرةٌ في رَمَضانَ)) [146] أخرجه البزار كما في ((كشف الأستار)) للهيثمي (1151) مختصرا، والطبراني (22/324) (816)، والدولابي في ((الكنى والأسماء)) (249) واللفظ له. صححه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (1121)، وحَسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1234)، وصَحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3/347)، وجوده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/177). . 6- عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((خَرَجَ رَجُلٌ مِن خيبَرَ، فتَبعَه رَجُلانِ ورَجُلٌ يَتلوهما [147] يتلوهما: أي: يَتبَعُهما، وقد تلاه يتلوه: إذا تَبِعَه. يُنظر: ((العين)) للخليل (8/ 134)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (1/ 259). يَقولُ: ارجِعا، حتَّى أدرَكَهما فرَدَّهما، ثُمَّ قال: إنَّ هَذينِ شيطانانِ، فاقرَأْ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم السَّلامَ، وأعلِمْه أنَّا في جَمعِ صَدَقاتِنا، لو كانت تَصلُحُ له لبَعَثْنا بها إليه. قال: فلمَّا قَدِمَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَدَّثَه، فنَهى عِندَ ذلك عَنِ الخَلوةِ)) [148] أخرجه أحمد (2719)، والبزار كما في ((كشف الأستار)) للهيثمي (2022)، والحاكم (2529) واللفظ له. صَحَّحه الحاكم وقال: على شرط البخاري، وابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (106)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (675)، وصحح إسناده أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (4/254)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (2719). . ب- مِنَ الآثارِ عَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (إنِّي لأرجو إن طالت بي حياةٌ أن أدرِكَ عيسى ابنَ مَريَمَ، فإن عَجِل بي مَوتٌ فمَن أدرَكَه فليُقرِئْه مِنِّي السَّلامَ) [149] أخرجه أحمد (7971). صَحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (15/122)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (7971) وقال: على شَرطِهما. . فوائِدُ: 1- عن مَعمَرٍ، عن أيُّوبَ، عن أبي قِلابةَ (أنَّ رجُلًا أتى سَلْمانَ الفارسيَّ فوجَده يعتَجِنُ، فقال: أين الخادِمُ؟ فقال: أرسَلْتُه في حاجةٍ، قال: لم يكُنْ ليجتَمِعَ عليه شيئانِ؛ أن نُرسِلَه ولا نكفيَه عَمَلَه! قال: فقال الرَّجُلُ: إنَّ أبا الدَّرداءِ يَقولُ: عليك السَّلامُ، قال: مَتى قَدِمتَ؟ قال: مُنذُ ثَلاثٍ، قال: أمَا إنَّك لو لم تُؤَدِّها كانت أمانةً عِندَك) [150] أخرجه معمر في ((الجامع)) (10/ 393)، وعبد الرزاق (19464)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (8921). . 2- قال المَلويُّ: (يُتَصَوَّرُ وُجوبُ ابتِداءِ السَّلامِ فيما لو أرسَل رَسولَه بسَلامٍ إلى غائِبٍ، فيَلزَمُه أن يُسَلِّمَ عليه؛ لأنَّه أمانةٌ، فيَجِبُ أداؤُها... ولو أرسَل سَلامَه لغائِبٍ يُشرَعُ له السَّلامُ عليه، كأن قال للرَّسولِ: "سَلِّمْ لي على فُلانٍ"، كان وكيلًا عنه في الإتيانِ بصيغَتِه الشَّرعيَّةِ. فإن أتى المُرسِلُ بصيغَتِه وقال له: "سَلِّمْ لي على فُلانٍ"، كفاه أن يَقولَ: "فُلانٌ يُسَلِّمُ عليك"... ويُندَبُ الرَّدُّ على المبلَّغِ، والبداءةُ بالمبلِّغِ فيقولُ: وعليكَ وعليه السلامُ) [151] ((فتح السلام)) (ص: 26). .