ثانيًا: توقيرُهم واحتِرامُهم
مِنَ الأدَبِ مَعَ العُلَماءِ: تَوقيرُهم واحتِرامُهم
[894] قال المُناويُّ: (احتِرامُ العُلَماءِ ورِعايةُ حُقوقِهم تَوفيقٌ وهدايةٌ، وإهمالُ ذلك خِذلانٌ وعُقوقٌ وخُسرانٌ). ((التيسير بشرح الجامع الصغير)) (2/ 331). ، ومَعرِفةُ أقدارِهم، وإنزالُهم مَنازِلَهم
[895] إنزالُ النَّاسِ مَنازِلَهم يَعني حِفظَ حُرمةِ كُلِّ واحِدٍ على قَدْرِه، ومُعامَلَتَه بما يُلائِمُ حالَه في عُمرٍ ودينٍ وعِلمٍ وشَرَفٍ، وهذا مِمَّا أدَّبَ به المُصطَفى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُمَّتَه مِن إيفاءِ النَّاسِ حُقوقَهم مِن تَعظيمِ العُلَماءِ والأولياءِ، وإكرامِ ذي الشَّيبةِ وإجلالِ الكَبيرِ وما أشبَهَه. يُنظر: ((فيض القدير)) للمناوي (3/ 57). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ والإجماعِ والآثارِ:أ- مِن السُّنَّةِ:عن عَمرِو بنِ شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ليس مِنَّا مَن لَم يَرحَمْ صَغيرَنا، ويَعرِفْ شَرَفَ كَبيرِنا)) [896] أخرجه من طرقٍ: أبو داود (4943) بلفظِ: "ويَعرِفْ حَقَّ كَبيرِنا"، والترمذي (1920) واللفظ له، وأحمد (6937) بلفظ: "يُوَقِرْ كبيرَنا". صحَّحه النووي في ((رياض الصالحين)) (173)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1920)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (788)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (6937)، وقال الترمذي: حسن صحيح. .
وجه الدلالةقَولُه:
((ويَعرِف شَرَفَ كَبيرِنا)) بما يَستَحِقُّه مِنَ التَّعظيمِ والتَّبجيلِ، وقَولُه:
((كَبيرنا)) سِنًّا أو عِلمًا. قيل: يُؤخَذُ مِنه أنَّه إنَّما يَستَحِقُّ الكَبيرُ الإكرامَ إذا كان له شَرَفٌ بعِلمٍ أو صَلاحٍ أو نَسَبٍ زَكيٍّ
[897] يُنظر: ((فيض القدير)) للمناوي (5/ 494)، (تحفة الأحوذي)) للمباركفوري (5/ 144). .
ب- من الإجماعِقال ابنُ حَزمٍ: (اتَّفَقوا على تَوقيرِ أهلِ القُرآنِ والإسلامِ، والنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكذلك الخَليفةُ والفاضِلُ والعالِمُ)
[898] ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (1/ 408). ويُنظر: ((مراتب الإجماع)) لابن حزم (ص: 157). .
ج- مِنَ الآثارِ1- عن سَعيدِ بنِ المُسَيِّبِ أنَّ عَليَّ بنَ أبي طالِبٍ رَضيَ اللهُ عنه قال: (مِن حَقِّ العالِمِ ألَّا تُكثِرَ عليه بالسُّؤالِ، ولا تُعنِتْه بالجَوابِ، وألَّا تُلِحَّ عليه إذا كَسِلَ، ولا تَأخُذْ بثَوبِه إذا نَهَضَ، ولا تُفشِينَّ له سِرًّا، ولا تَغتابَنَّ عِندَه أحَدًا، ولا تَطلُبَنَّ عَثرتَه، وإن زَلَّ قَبِلتَ مَعذِرَتَه، وعليك أن توقِّرَه وتُعَظِّمَه للَّهِ ما دامَ يَحفظُ أمرَ اللهِ، ولا تَجلِسَنَّ أمامَه، وإن كانت له حاجةٌ سَبَقتَ القَومَ إلى خِدمَتِه)
[899] ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (1/ 519). .
2- عَنِ الشَّعبيِّ، قال: (رَكِب زَيدُ بنُ ثابتٍ فدَنا عَبدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ ليَأخُذَ برِكابِه، فقال: لا تَفعَلْ يا ابنَ عَمِّ رَسولِ اللهِ! فقال: هكذا أُمِرْنا أن نَفعَلَ بعُلَمائِنا. فقال زَيدٌ: أرِني يَدَك، فأخرَجَ يَدَه فقَبَّلَها زَيدٌ! ثُمَّ قال: هكذا أُمِرْنا أن نَفعَلَ بأهلِ بَيتِ نَبيِّنا عليه السَّلامُ)
[900] ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (1/ 380). ويُنظر: ((الطبقات الكبير)) لابن سعد (2/ 310)، ((المستدرك)) للحاكم (5785)، ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (1/ 514)، ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (19/ 325، 326). .
3- عَنِ الحَسَنِ قال: (رُئيَ ابنُ عَبَّاسٍ يَأخُذُ برِكابِ أُبَيِّ بنِ كَعبٍ، فقيلَ له: أنتَ ابنُ عَمِّ رَسولِ اللهِ، تَأخُذُ برِكاب رَجُلٍ مِنَ الأنصارِ! فقال: إنَّه يَنبَغي للحَبرِ أن يُعَظَّمَ ويشرفَ)
[901] ((الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)) للخطيب البغدادي (1/ 188). .
مِن أقوالِ السَّلفِ وقصصِهم في توقيرِ العلماءِ:1- عَنِ ابنِ طاوُسٍ، عن أبيه، قال: (مِنَ السُّنَّةِ أن يُوَقَّرَ أربَعةٌ: العالِمُ، وذو الشَّيبةِ، والسُّلطانُ، والوالِدُ)
[902] ((الجامع)) لمعمر بن راشد (11/ 137). .
2- قال سَهلٌ التُّستَريُّ: (لا يَزالُ النَّاسُ بخَيرٍ ما عَظَّموا السُّلطانَ والعُلَماءَ؛ فإذا عَظَّموا هَذَين أصلَحَ اللهُ دُنياهم وأُخراهم، وإذا استَخَفُّوا بهَذَين أفسَدوا دُنياهم وأُخراهم)
[903] ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (5/ 261). .
3- قال أيُّوبُ بنُ القِرِّيَّةِ: (أحَقُّ النَّاسِ بالإجلالِ ثَلاثةٌ: العُلَماءُ، والإخوانُ، والسُّلطانُ؛ فمَنِ استَخَفَّ بالعُلَماءِ أفسَدَ دينَه، ومَنِ استَخَفَّ بالإخوانِ أفسَدَ مُروءتَه، ومَنِ استَخَفَّ بالسُّلطانِ أفسَدَ دُنياه، والعاقِلُ لا يَستَخِفُّ بأحَدٍ)
[904] ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (1/ 581). .
4- عن يَحيى بنِ المُثَنَّى، قال: (سُئِلَ ابنُ المُبارَكِ وسُفيانُ بنُ عُيَينةَ حاضِرٌ، فقال: نُهِينا أن نَتَكَلَّمَ عِند أكابِرِنا!)
[905] ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (27/ 64). .
5- عن إسماعيلَ بنِ عَليِّ بنِ إسماعيلَ، قال: (بَلَغَني عَنِ ابنِ المُبارَكِ أنَّه حَضَرَ عِندَ حَمَّادِ بنِ زَيدٍ مُسَلِّمًا عليه، فقال أصحابُ الحَديثِ لحَمَّادِ بنِ زَيدٍ: يا أبا إسماعيلَ، تَسألُ أبا عَبدِ الرَّحمَنِ أن يُحَدِّثَنا؟ فقال: يا أبا عَبدِ الرَّحمَنِ تُحَدِّثُهم؛ فإنَّهم قد سَألوني.
قال: سُبحانَ اللهِ يا أبا إسماعيلَ، أُحَدِّثُ وأنتَ حاضِرٌ!
فقال: أقسَمتُ لتَفعَلَنَّ، أو نَحوَه.
فقال ابنُ المُبارَكِ: خُذوا، حَدَّثَنا أبو إسماعيلَ حَمَّادُ بنُ زَيدٍ! فما حَدَّثَ بحَرفٍ إلَّا عن حَمَّادِ بنِ زَيدٍ!)
[906] ((تاريخ بغداد)) للخطيب (11/ 391)، ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (32/ 444). .