موسوعة الآداب الشرعية

خامسًا: تَركُ التَّكَلُّفِ والتَّشَدُّقِ


لا ينبغي التَّكَلُّفُ والتَّشَدُّقُ في الكلامِ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ يُبغِضُ البَليغَ مِنَ الرِّجالِ، الذي يَتَخَلَّلُ بلسانِه تَخَلُّلَ الباقِرةِ بلِسانِها)) [822] أخرجه أبو داود (5005) واللَّفظُ له، والترمذي (2853)، وأحمد (6543). صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (5005)، وصَحَّحَ إسناده أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (10/53)، وحسَّنه ابن باز في ((حاشية بلوغ المرام)) (303)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (6543). .
((تخَلُّلَ الباقِرةِ بلِسانِها)) شَبَّه إدارةَ لسانِه حولَ الأسنانِ والفَمِ حالَ التَّكَلُّمِ تفاصُحًا بما تفعَلُ البَقَرةُ بلِسانِها، والباقِرةُ: جماعةُ البَقَرِ، وهو الذي يتشَدَّقُ في الكلامِ، ويُفخِّمُ به لسانَه، ويَلُفُّه كما تَلُفُّ البَقَرةُ بلِسانِها لَفًّا [823] يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (7/ 3020). .
فائِدةٌ:
قال الجاحِظُ واصِفًا كلامَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (هو الكلامُ الذي قَلَّ عدَدُ حروفِه، وكَثُر عَدَدُ معانيه، وجَلَّ عن الصَّنعةِ، ونُزِّه عن التَّكلُّفِ، وكان كما قال اللهُ تبارك وتعالى: قُلْ يا محمَّدُ: ... وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: 86] ، فكيف وقد عاب التَّشديقَ، وجانَبَ أصحابَ التَّقعيبِ، واستعمَلَ المبسوطَ في موضعِ البَسطِ، والمقصورَ في موضِعِ القصرِ، وهَجَر الغريبَ الوَحشيَّ، ورَغِبَ عن الهجينِ السُّوقيِّ، فلم ينطِقْ إلَّا عن ميراثِ حِكمةٍ، ولم يتكَلَّمْ إلَّا بكلامٍ قد حُفَّ بالعصمةِ، وشِيدَ بالتَّأييدِ، ويَسُر بالتَّوفيقِ، وهو الكلامُ الذي ألقى اللهُ عليه المحبَّةَ، وغشَّاه بالقَبولِ، وجمع له بَيْنَ المهابةِ والحلاوةِ، وبَينَ حُسنِ الإفهامِ، وقِلَّةِ عَدَدِ الكلامِ، مع استغنائِه عن إعادتِه، وقِلَّةِ حاجةِ السَّامِعِ إلى معاودتِه، لم تسقُطْ له كَلِمةٌ، ولا زَلَّت به قَدَمٌ، ولا بارت له حُجَّةٌ، ولم يَقُمْ له خَصمٌ، ولا أفحَمَه خَطيبٌ، بل يَبُذُّ الخُطَبَ الطِّوالَ بالكلامِ القِصارِ، ولا يلتَمِسُ إسكاتَ الخَصمِ إلَّا بما يَعرِفُه الخَصمُ، ولا يحتَجُّ إلَّا بالصِّدقِ، ولا يطلُبُ الفَلْجَ إلَّا بالحَقِّ، ولا يستعينُ بالخِلابةِ، ولا يَستعمِلُ الموارَبةَ، ولا يَهمِزُ ولا يَلمِزُ، ولا يُبطِئُ ولا يَعجَلُ، ولا يُسهِبُ ولا يَحصَرُ، ثمَّ لم يَسمَعِ النَّاسُ بكلامٍ قَطُّ أعَمَّ نفعًا، ولا أقصَدَ لفظًا، ولا أعدَلَ وَزنًا، ولا أجمَلَ مَذهبًا، ولا أكرمَ مَطلبًا، ولا أحسَنَ مَوقِعًا، ولا أسهَلَ مَخرَجًا، ولا أفصَحَ معنًى، ولا أبيَنَ في فحوى، من كلامِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كثيرًا.
قال محمَّدُ بنُ سلامٍ: قال يونُسُ بنُ حَبيبٍ: «ما جاءَنا عن أحَدٍ من روائِعِ الكلامِ ما جاءَنا عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم» ...) [824] ((البيان والتبين)) (2/ 13، 14). .
وقال الخَطَّابيُّ وهو يَتَكَلَّمُ عن فصاحةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وما يُؤثَرُ مِن حُسنِ بَيانِه: (إنَّ اللَّهَ جَلَّ وعَزَّ لمَّا وَضَعَ رَسولَه مَوضِعَ البَلاغِ مِن وَحيِه، ونَصَبه مَنصِبَ البَيانِ لدينِه، اختارَ له مِنَ اللُّغاتِ أَعرَبَها، ومِنَ الألسُنِ أفصَحَها وأبيَنَها؛ ليُباشِرَ في لباسِه مَشاهِدَ التَّبليغِ، ويَنبِذَ القَولَ بأوكَدِ البَيانِ والتَّعريفِ، ثُمَّ أمَدَّه بجَوامِعِ الكَلِمِ التي جَعَلها رِدءًا لنُبوَّتِه وعَلَمًا لرِسالتِه؛ ليَنتَظِمَ في القَليلِ مِنها عِلمُ الكَثيرِ، فيَسهُلَ على السَّامِعينَ حِفظُه، ولا يَؤودُهم حَملُه، ومَن تَتبَّع الجَوامِعَ مِن كَلامِه لم يَعدَمْ بَيانَها، وقد وصَفتُ مِنها ضُروبًا، وكَتَبتُ لك مَن أمثلتِها حُروفًا تَدُلُّ على ما وراءَها مِن نَظائِرِها وأخَواتِها؛ فمِنها في القَضايا والأحكامِ قَولُه: ((المُؤمِنونَ تَكافأُ دِماؤُهم، ويَسعى بذِمَّتِهم أدناهم، وهم يَدٌ على مَن سِواهم) [825] أخرجه أبو داود (4530)، والنسائي (4734)، وأحمد (993) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ أبي داودَ والنَّسائيِّ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((المُؤمِنونَ تَكافأُ دِماؤُهم، وهم يَدٌ على مَن سِواهم، ويَسعى بذِمَّتِهم أدناهم...)). صَحَّحه الحاكِمُ في ((المستدرك)) (2660) وقال: على شرط الشيخين، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/159)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4530)، وصحَّح إسناده محمد ابن عبد الهادي في ((تنقيح التحقيق)) (4/460)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (2/212)، وشعيب الأرناؤوط على شرط الشيخين في تخريج ((مسند أحمد)) (993). ، وقَولُه: ((المَنيحةُ مَردودةٌ، والعاريَّةُ مُؤَدَّاةٌ، والدَّينُ مَقضيٌّ، والزَّعيمُ غارِمٌ)) [826] أخرجه أبو داود (3565)، والترمذي (2120) باختلافٍ يسيرٍ، وابن ماجه (2405، 2398) مُفرَّقًا باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي أُمامةَ الباهليِّ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ أبي داودَ والترمذيِّ: ((العاريَّةُ مُؤَدَّاةٌ، والمِنحةُ مَردودةٌ، والدَّينُ مَقضيٌّ، والزَّعيمُ غارِمٌ)). صَحَّحه القرطبي في ((التفسير)) (6/426)، وابن الملقن في ((شرح البخاري)) (16/434)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3565)، وصحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3565)، وقال الترمذي: حسن صحيح. ، فهذان الحَديثانِ على خِفَّةِ ألفاظِهما يَتَضَمَّنانِ عامَّةَ أحكامِ الأنفُسِ والأموالِ... ومِن فصاحَتِه وحُسنِ بَيانِه أنَّه قد تَكَلَّمَ بألفاظٍ اقتَضَبَها لم تُسمَعْ مِنَ العَرَبِ قَبلَه، ولم توجَدْ في مُتَقدِّمِ كَلامِها، كقَولِه: (حَميَ الوطيسُ) [827] أخرجه مسلم (1775) من حديثِ العبَّاسِ بنِ عبدِ المطَّلِبِ رَضِيَ اللهُ عنه، بلفظِ: قالَ عَبَّاسٌ: ((شَهِدتُ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ حُنَينٍ، فلَزِمتُ أنا وأبو سفيانَ بنُ الحارِثِ بنِ عبدِ المطَّلِبِ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلم نفارِقْه، ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على بغلةٍ له بيضاءَ أهداها له فروةُ بنُ نُفاثةَ الجُذاميُّ، فلمَّا التقى المسلمون والكُفَّارُ ولَّى المسلمون مُدبِرين، فطَفِق رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يركُضُ بغلتَه قِبَلَ الكُفَّارِ، قال عبَّاسٌ: وأنا آخِذٌ بلِجامِ بغلةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أكُفُّها؛ إرادةَ أن لا تُسرِعَ، وأبو سفيانَ آخِذٌ بركابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيْ عبَّاسِ، نادِ أصحابَ السَّمُرةِ. فقال عبَّاسٌ -وكان رجلًا صَيِّتًا -: فقُلتُ بأعلى صوتي: أين أصحابُ السَّمُرةِ؟ قال: فواللهِ لكأنَّ عَطْفَتَهم حين سمعوا صوتي عَطفةُ البَقَرِ على أولادِها! فقالوا: يا لبَّيك يا لبَّيك! قال: فاقتتلوا والكُفَّارُ، والدَّعوةُ في الأنصارِ يقولون: يا معشَرَ الأنصارِ، يا معشَرَ الأنصارِ، قال: ثمَّ قَصُرت الدَّعوةُ على بني الحارِثِ بنِ الخزرجِ، فقالوا: يا بني الحارِثِ بنِ الخزرجِ، يا بني الحارثِ بنِ الخزرجِ، فنظر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو على بغلتِه كالمتطاوِلِ عليها إلى قتالِهم، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هذا حينَ حَمِي الوطيسُ)). ... في ألفاظٍ ذاتِ عَدَدٍ مِن هذا البابِ تَجري مَجرى الأمثالِ، وقد يَدخُلُ في هذا النَّوعِ إحداثُه الأسماءَ الشَّرعيَّةَ) [828] ((غريب الحديث)) (1/ 64-66). .
وقال عياضٌ في وَصفِ فصاحَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (وأمَّا فصاحةُ اللِّسانِ، وبَلاغةُ القَولِ، فقد كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن ذلك بالمَحَلِّ الأفضَلِ، والمَوضِعِ الذي لا يُجهَلُ؛ سَلاسةَ طَبعٍ، وبَراعةَ مَنزِعٍ، وإيجازَ مَقطَعٍ، ونَصاعةَ لفظٍ، وجَزالةَ قَولٍ، وصِحَّةَ مَعانٍ، وقِلَّةَ تَكَلُّفٍ) [829] ((الشفا بتعريف حقوق المصطفى)) (1/ 70). .

انظر أيضا: