موسوعة الآداب الشرعية

رابعًا: التَّلَطُّفُ في الرَّدِّ عليهم إن أخطؤوا


مِنَ الأدَبِ مَعَ العالِمِ: التَّلَطُّفُ في الرَّدِّ عليه إن أخطَأ، وبَيانُ ذلك له في السِّرِّ ما أمكَن، وبإخلاصٍ وأدَبٍ، مِن غَيرِ تَعالٍ وتَكَبُّرٍ [910] قال الخَطيبُ البَغداديُّ: (يَنبَغي للمُتَعَلِّمينَ ألَّا يَرُدُّوا على مَن أخطَأ بحَضرةِ العالمِ، ويَترُكوا العالِمَ حَتَّى يَكونَ هو الذي يَرُدُّ عليه... وأمَّا إذا أخطَأ الفقيهُ وتَبَيَّنَ لصاحِبِه الآخِذِ عنه خَطَؤُه، فإنَّ الصَّاحِبَ يَتَلَطَّفُ في رَدِّه عليه). ((الفقيه والمتفقه)) (2/ 288). .
الدليل على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن سَعيدِ بنِ عَبدِ الرَّحمنِ بنِ أَبزى، عن أبيه: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلَّى في الفَجرِ فتَرَكَ آيةً، فلَمَّا صلَّى قال: أفي القَومِ أُبَيُّ بنُ كَعبٍ؟ قال أُبَيٌّ: يا رَسولَ اللهِ، نُسِخَت آيةُ كَذا وكَذا، أو نَسيتَها؟ قال: نَسيتُها)) [911] أخرجه أحمد (15365) واللفظ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8240)، والطبراني كما في ((مجمع الزوائد)) للهيثمي (2/72). صحَّحه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (891)، وصحَّح إسناده الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (6/159)، وشعيب الأرناؤوط على شرط الشيخين في تخريج ((مسند أحمد)) (15365)، وقال الزيلعي في ((تخريج الكشاف)) (4/194): إسنادُه على شرطِ الشَّيخَينِ. .
2- عَنِ المُسَوَّرِ بنِ يَزيدَ المالِكيِّ: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -قال يُحيي: ورُبَّما قال: شَهِدتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يَقرَأُ في الصَّلاةِ، فتَرَكَ شَيئًا لَم يَقرَأْه، فقال له رَجُلٌ: يا رَسولَ اللهِ، آيةُ كَذا وكَذا! فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هَلَّا أذكَرتَنيها! قال سُلَيمانُ في حَديثِه: قال: كُنتُ أُراها نُسِخَت)) [912] أخرجه أبو داود (907) واللفظ له، وعبد الله بن أحمد في ((زوائد المسند)) (16692)، وابن خزيمة (1648). حسَّنه لغيره ابن باز في ((حاشية بلوغ المرام)) (214)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (907)، وحسنه بشواهده الألباني في ((صحيح ابن خزيمة)) (1648)، وجود إسناده النووي في ((المجموع)) (4/241). .
وأمَّا التَّعليلُ: فلئَلَّا تَنفِرَ نَفسُ العالمِ (وإذا نَفرَتِ النُّفوسُ عَميَتِ القُلوبُ، وجَمَدَتِ الخَواطِرُ، وانسَدَّت أبوابُ الفوائِدِ؛ فحُرِم الكُلُّ الفوائِدَ بسَفَهِ السَّفيهِ، وتَقصيرِ الجاهِلِ في حُقوقِ الصُّدورِ) [913] ((الواضح في أصول الفقه)) لابن عقيل الحنبلي (1/ 528). .
مِن أقوالِ السَّلفِ:
1- عَنِ الحَسَنِ بنِ عَليلٍ، قال: (حَدَّثَنا يَحيى بنُ مَعينٍ، قال: أخطَأ عَفَّانُ في نَيِّفٍ وعِشرينَ حَديثًا ما أعلَمتُ بها أحَدًا، وأعلَمتُه فيما بَيني وبَينَه، ولَقد طَلَبَ إليَّ خَلَفُ بنُ سالمٍ، فقال قُلْ لي: أيُّ شَيءٍ هيَ؟ فما قُلتُ له، وكان يُحِبُّ أن يَجِدَ عليه.
قال يَحيى: (ما رَأيتُ على رَجُلٍ قَطُّ خَطأً إلَّا سَتَرتُه، وأحبَبتُ أن أُزَيِّنَ أمرَه، وما استَقبَلتُ رَجُلًا في وَجهِه بأمرٍ يَكرَهُه، ولَكِنْ أُبَيِّنُ له خَطَأَه فيما بَيني وبَينَه، فإن قَبِلَ ذلك، وإلَّا تَرَكتُه) [914] ((تاريخ بغداد)) للخطيب (16/ 272). .
2- عن عَبدِ اللهِ بنِ المُبارَكِ، قال: (كان الرَّجُلُ إذا رَأى مِن أخيه ما يَكرَهُ أمَرَه في سَترٍ ونَهاه في سَترٍ؛ فيُؤجَرُ في سَترِه ويُؤجَرُ في نَهيِه، فأمَّا اليَومَ فإذا رَأى أحَدٌ مِن أحَدٍ ما يَكرَهُ استَغضَبَ أخاه وهَتَكَ سِترَه!) [915] ((روضة العقلاء)) لابن حبان (ص: 197). .
3- عن مُحَمَّدِ بنِ صالِحٍ المَعروفِ بالنَّطَّاحِ، قال: قال أبو عُبَيدةَ: (لا تَرُدَّنَّ على أحَدٍ خَطَأً في حَفلٍ [916] الحَفلُ: الجَمعُ. يُنظر: ((المنجد)) لكراع النمل (ص: 179). ؛ فإنَّه يَستَفيدُ ويَتَّخِذُك عَدوًّا) [917] ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (2/ 288). .
فَوائِدُ:
1- قال ابنُ رَجَبٍ الحَنبَليُّ: (إذا كان مُرادُ الرَّادِّ إظهارَ عَيبِ مَن رَدَّ عليه، وتَنقُّصَه وتَبيينَ جَهلِه وقُصورِه في العِلمِ، ونَحوَ ذلك، كان مُحَرَّمًا، سَواءٌ كان رَدُّه لذلك في وَجهِ مَن رَدَّ عليه أو في غَيبَتِه، وسَواءٌ كان في حَياتِه أو بَعدَ مَوتِه، وهذا داخِلٌ فيما ذَمَّه اللهُ تعالى في كِتابِه وتَوعَّدَ عليه في الهَمزِ واللَّمزِ ... وهذا كُلُّه في حَقِّ العُلَماءِ المُقتَدى بهم في الدِّينِ، فأمَّا أهلُ البدَعِ والضَّلالةِ ومَن تَشَبَّه بالعُلَماءِ وليس مِنهم، فيَجوزُ بَيانُ جَهلِهم، وإظهارُ عُيوبِهم؛ تَحذيرًا مِنَ الاقتِداءِ بهم) [918] ((الفرق بين النصيحة والتعيير)) (ص: 13). .
2- عن أحمَدَ بنِ عَبدِ الرَّحمَنِ ابنِ أخي ابنِ وَهبٍ قال: سَمِعتُ عَمِّي يَقولُ: (سَمِعتُ مالِكًا سُئِلَ عن تَخليلِ أصابعِ الرِّجلَينِ في الوُضوءِ، فقال: ليس ذلك على النَّاسِ، قال: فتَرَكتُه حَتَّى خَفَّ النَّاسُ، فقُلتُ له: عِندَنا في ذلك سُنَّةٌ! فقال: وما هيَ؟...) [919] ((الجرح والتعديل)) لابن أبي حاتم (1/ 31، 32). .
3- قال الخَطيبُ البَغداديُّ في تَرجَمةِ أبي بَكرِ ابنِ الأنباريِّ النَّحويِّ: (كان مِن أعلَمِ النَّاسِ بالنَّحوِ والأدَبِ، وأكثَرِهم حِفظًا له، وكان صَدوقًا، فاضِلًا، دَيِّنًا، خَيِّرًا، مِن أهلِ السُّنَّةِ، وصَنَّف كُتُبًا كَثيرةً في عُلومِ القُرآنِ، وغَريبِ الحَديثِ، والمُشكِلِ، والوَقفِ والابتِداءِ، والرَّدِّ على مَن خالَف مُصحَفَ العامَّةِ.
قال حَمزةُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ طاهِرٍ الدَّقَّاقُ: وكان مَعَ حِفظِه زاهدًا مُتَواضِعًا، حَكى أبو الحَسَنِ الدَّارَقُطنيُّ أنَّه حَضَرَه في مَجلِسٍ أمَلاه يَومَ الجُمُعةِ، فصَحَّف اسمًا أورَده في إسنادِ حَديثٍ، إمَّا كان حِبَّانَ، فقال: حَيَّانُ، أو حَيَّانَ، فقال: حِبَّانُ، قال أبو الحَسَنِ: فأعظَمتُ أن يُحمَلَ عن مِثلِه في فَضلِه وجَلالَتِه وَهمٌ. وهِبْتُه أن أوقِفَه على ذلك، فلَمَّا انقَضى الإملاءُ تَقدَّمتُ إلى المُستَملي وذَكَرتُ له وَهمَه، وعَرَّفتُه صَوابَ القَولِ فيه، وانصَرَفتُ!
ثُمَّ حَضَرتُ الجُمُعةَ الثَّانيةَ مَجلِسَه، فقال أبو بَكرٍ للمُستَملي: عَرِّفْ جَماعةَ الحاضِرينَ أنَّا صَحَّفْنا الاسمَ الفُلانيَّ لمَّا أملَينا حَديثَ كَذا في الجُمعةِ الماضيةِ، ونَبَّهَنا ذلك الشَّابُّ على الصَّوابِ، وهو كَذا، وعَرِّفْ ذلك الشَّابَّ أنَّا رَجَعْنا إلى الأصلِ فوجَدْناه كما قال) [920] يُنظر: ((تاريخ بغداد)) (4/ 299-301). .
4- عن أبي عَبدِ اللهِ الصَّيمَريِّ، قال: (دَرَّسَنا يَومًا أبو بَكرٍ الخَوارِزميُّ، فحَكى في تَدريسِه عن مُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ شَيئًا وَهِمَ في حِكايَتِه، وكان مُحَمَّدٌ قد نَصَّ في الجامِعِ الصَّغيرِ على خِلافِه، فلمَّا انقَضى تَدريسُه تَرَكتُ الإعادةَ على الأصحابِ، ومَضَيتُ إلى أبي بَكرٍ وقد دَخَلَ مَنزِلَه ومَعي كِتابُ الجامِعِ لمُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ، واستَأذَنتُ على أبي بَكرٍ، فأذِنَ لي في الدُّخولِ، فدَخَلتُ وسَلَّمتُ عليه، ثُمَّ قُلتُ له: هاهنا بابٌ فيه شَيءٌ قد أشكَل علَيَّ، وأحتاجُ إلى قِراءَتِه على الشَّيخِ، فقال: افعَلْ، فقَرَأتُ مِن قَبلِ المَوضِعِ الذي قَصَدتُ لأجلِه إلى أنِ انتَهَيتُ إليه وجاوَزتُه، فقال أبو بَكرٍ: قد كُنَّا حَكَينا في الدَّرسِ عن مُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ شَيئًا، والنَّصُّ هاهنا عَنه بخِلافِه، وهو كَذا! فعَرِّفِ الأصحابَ ذلك حَتَّى يَذكُروه ويُعَلِّقوه على الصَّوابِ، أو كما قال) [921] ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (2/ 289). .
5- قال ابنُ العَرَبيِّ: (أخبَرَني مُحَمَّدُ بنُ قاسِمٍ العُثمانيُّ غَيرَ مَرَّةٍ: وصَلتُ الفُسطاطَ مَرَّةً، فجِئْتُ مجلِسَ الشَّيخِ أبي الفَضلِ الجَوهَريِّ، وحضرْتُ كلامَه على النَّاسِ، فكان ممَّا قال في أوَّلِ مجلِسٍ جلسْتُ إليه: إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طلَّق وظاهَر وآلى، فلمَّا خرَج تبِعتُه حتَّى بلغتُ معَه إلى منزلِه في جماعةٍ، فجلَس معَنا في الدِّهليزِ، وعرَّفهم أمري؛ فإنَّه رأى إشارةَ الغُربةِ، ولم يَعرفِ الشَّخصَ قَبلَ ذلك في الوارِدينَ عليه، فلمَّا انفضَّ عنه أكثَرُهم قال لي: أراك غريبًا، هل لك مِن كلامٍ؟ قلتُ: نعَم، قال لجُلسائِه: أفرِجوا له عن كلامِه، فقاموا، وبقيتُ وحدي معَه، فقلتُ له: حضرتُ المجلِسَ اليومَ مُتبرِّكًا بك، وسمعتُك تقولُ: آلى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وصدَقتَ، وطلَّق رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وصدَقتَ، وقُلتَ: وظاهَر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! وهذا لم يكنْ، ولا يصِحُّ أن يكونَ؛ لأنَّ الظِّهارَ مُنكَرٌ مِن القولِ وزورٌ؛ وذلك لا يجوزُ أن يقعَ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فضمَّني إلى نَفسِه، وقبَّل رأسي، وقال لي: أنا تائِبٌ مِن ذلك، جزاك اللهُ عنِّي مِن مُعلِّمٍ خيرًا. ثُمَّ انقلَبتُ عنه، وبكَّرتُ إلى مجلِسِه في اليومِ الثَّاني، فألفَيتُه قد سبَقني إلى الجامِعِ، وجلَس على المِنبَرِ، فلمَّا دخلتُ مِن بابِ الجامِعِ ورآني نادى بأعلى صوتِه: مَرحبًا بمُعلِّمي، أفسِحوا لمُعلِّمي! فتطاوَلَت الأعناقُ إليَّ، وحدَّقَت الأبصارُ نحوي، قال: وتبادَر النَّاسُ إليَّ يرفعونَني على الأيدي، ويتدافَعونني حتَّى بلغتُ المِنبَرَ، وأنا لعِظَمِ الحياءِ لا أعرفُ في أيِّ بُقعةٍ أنا مِن الأرضِ، والجامِعُ غاصٌّ بأهلِه، وأسالَ الحياءُ بَدَني عرَقًا، وأقبَل الشَّيخُ على الخَلقِ، فقال لهم: أنا مُعلِّمُكم، وهذا مُعلِّمي؛ لمَّا كان بالأمسِ قُلتُ لكم: آلى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وطلَّق، وظاهَر، فما كان أحدٌ منكم فَقِه عنِّي ولا ردَّ عليَّ، فاتَّبعَني إلى منزلي، وقال لي كذا وكذا. وأعاد ما جرى بيني وبَينَه، وأنا تائِبٌ عن قولي بالأمسِ، وراجِعٌ عنه إلى الحقِّ؛ فمَن سمِعه ممَّن حضَر فلا يُعوِّلْ عليه، ومَن غاب فليُبلِّغْه مَن حضَر؛ فجزاه اللهُ خيرًا، وجعَل يحفلُ في الدُّعاءِ والخَلقُ يُؤمِّنونَ.
فانظُروا -رحمكم اللَّهُ- إلى هذا الدِّينِ المتينِ، والاعترافِ بالعِلمِ لأهلِه على رؤوسِ الملإِ من رجلٍ ظهَرَت رياستُه، واشتَهَرت نفاستُه، لغريبٍ مجهولِ العَينِ لا يُعرَفُ مَن ولا مِن أين؛ فاقتدوا به ترشُدوا) [922] ((أحكام القرآن)) (1/ 248، 249). .

انظر أيضا: