موسوعة الآداب الشرعية

رابعَ عشرَ: تَركُ اللَّعنِ


يَجِبُ تَنزيهُ اللِّسانِ عن لَعنِ الآدَميِّ بغَيرِ حَقٍّ، وكَذا عن لَعنِ الحَيَوانِ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ والإجماعِ:
أ- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن ثابِتِ بنِ الضَّحَّاكِ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((مَن حَلَف بمِلَّةٍ غَيرِ الإسلامِ كاذِبًا فهو كما قال، ومَن قَتَل نَفسَه بشَيءٍ عُذِّب به في نارِ جَهَنَّمَ، ولَعْنُ المُؤمِنِ كقَتلِه، ومَن رَمى مُؤمِنًا بكُفرٍ فهو كقَتلِه)) [953] أخرجه البخاري (6105) واللَّفظُ له، ومسلم (110). .
2- عن سَمُرةَ بنِ جُندَبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((لا تَلاعَنوا بلعنةِ اللهِ، ولا بغَضَبِ اللهِ، ولا بالنَّارِ)) [954] أخرجه أبو داود (4906) واللَّفظُ له، والترمذي (1976)، وأحمد (20175). حسَّنه لغيره الألبانيُّ في ((صحيح الترغيب)) (2789)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4906). وذهَب إلى تصحيحِه ابنُ دقيقِ العيدِ في ((الاقتراح)) (127)، وقال الترمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ. .
قال المظهَريُّ: («لا تَلاعَنوا»: أصلُه: لا تَتَلاعَنوا، فحَذَف إحدى التَّاءَينِ للتَّخفيفِ، يَعني: لا تَقولوا لمُسلمٍ: عليك لعنةُ اللهِ، ولا تَقولوا: عليك غَضَبُ اللهِ، ولا تَقولوا: لك جَهَنَّمُ، أو لك النَّارُ، أو أدخَلك اللَّهُ جَهَنَّم، وما أشبَهَ ذلك؛ لأنَّ التَّكَلُّمَ بهذه الألفاظِ لأحَدٍ، فإن أرادَ المُتَكَلِّمُ الإخبارَ -يَعني: حُصولَ هذه الأشياءِ له- فقد أخبَرنا عنِ الغَيبِ، ولا يَعلمُ الغَيبَ أحَدٌ إلَّا اللَّهُ، وإن قال هذا الكَلامَ له على طَريقِ الدُّعاءِ عليه، فقدَ ضادَّ اللَّهَ ورَسولَه؛ لأنَّه لا يَحصُلُ له لعنةُ اللهِ وغَضَبُه إلَّا أن يَصيرَ كافِرًا، أو يَفعَلُ كَبيرةً مِنَ الذُّنوبِ، وكأنَّه أرادَ الكُفرَ أو فِعلَ كَبيرةٍ لأحَدٍ، وإرادةُ الكُفرِ وفِعلِ الكَبيرةِ مُضادَّةٌ للَّهِ ورَسولِه) [955] ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (5/ 185). .
3- عن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ العَبدَ إذا لعَنَ شيئًا صَعِدَتِ اللَّعنةُ إلى السَّماءِ فتُغلَقُ أبوابُ السَّماءِ دونَها، ثُمَّ تَهبِطُ إلى الأرضِ فتُغلَقُ أبوابُها دونَها، ثُمَّ تَأخُذُ يَمينًا وشِمالًا، فإذا لم تَجِدْ مَساغًا رَجَعَت إلى الذي لُعِنَ، فإن كان لذلك أهلًا وإلَّا رَجَعَت إلى قائِلِها)) [956] أخرجه أبو داود (4905) واللَّفظُ له، والبزار (4084)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (5162). حسَّنه لغيره الألبانيُّ في ((صحيح الترغيب)) (2792)، وجَوَّد إسنادَه ابنُ حجرٍ في ((فتح الباري)) (10/481)، والصنعانيُّ في ((التنوير)) (3/508). .
4- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَكونُ المُؤمِنُ لعَّانًا)) [957] أخرجه الترمذي (2019)، وأبو يعلى (5562) واللفظ لهما، والحاكم (146). حسَّنه الألبانيُّ في ((هداية الرواة)) (4776)، وصحَّح إسنادَه الحاكمُ. .
وفي حَديثِ عَبدِ اللَّهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ليسَ المُؤمِنُ بالطَّعَّانِ ولا اللَّعَّانِ ولا الفاحِشِ ولا البَذيءِ)) [958] أخرجه الترمذي (1977) واللَّفظُ له، وأحمد (3839). صَحَّحه ابنُ حبانَ في ((صحيحه)) (192)، والحاكمُ على شرطِ الشيخينِ في ((المستدرك)) (29)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (1977)، والوادعيُّ في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (853)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (3839). .
5- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يَنبَغي لصِدِّيقٍ أن يَكونَ لعَّانًا)) [959] أخرجه مسلم (2597). .
وفي رِوايةٍ: ((لا يَجتَمِعُ أن تَكونوا لعَّانينَ صِدِّيقينَ)) [960] أخرجها الحاكم (148). صَحَّحها الألبانيُّ في ((صحيح الترغيب)) (2784)، وصَحَّحَ إسنادَها الحاكمُ. .
وفي حَديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((مَرَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأبي بَكرٍ وهو يَلعنُ بَعضَ رَقيقِه، فالتَفتَ إليه، فقال: لعَّانينَ وصِدِّيقينَ! كَلَّا ورَبِّ الكَعبةِ. فأعتَقَ أبو بَكرٍ يَومَئِذٍ بَعضَ رَقيقِه، ثُمَّ جاءَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: لا أعودُ)) [961] أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (319)، والطبراني في ((الدعاء)) (2082)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (5154) واللفظ له. صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح الأدب المفرد)) (243). .
6- عن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَكونُ اللَّعَّانونَ شُفعاءَ ولا شُهَداءَ يَومَ القيامةِ)) [962] أخرجه مسلم (2598). .
قال البَغَويُّ: (قيل في قَولِه: «لا يَكونونَ شُهَداءَ»، أي: لا يَكونونَ في الجُملةِ التي يُستَشهدونَ يَومَ القيامةِ على الأُمَمِ التي كَذَّبَت أنبياءَها عليهمُ السَّلامُ؛ لأنَّ مِن فضيلةِ هذه الأُمَّةِ أنَّهم يَشهَدونَ للأنبياءِ عليهمُ السَّلامُ بالتَّبليغِ إذا كَذَّبَهم قَومُهم) [963] ((شرح السنة)) (13/ 135). .
وقال النَّوويُّ: (فيه الزَّجرُ عنِ اللَّعنِ، وأنَّ مَن تَخَلَّقَ به لا يَكونُ فيه هذه الصِّفاتُ الجَميلةُ؛ لأنَّ اللَّعنةَ في الدُّعاءِ يُرادُ بها الإبعادُ مِن رَحمةِ اللهِ تعالى، وليسَ الدُّعاءُ بهذا مِن أخلاقِ المُؤمِنينَ الذينَ وصَفهمُ اللَّهُ تعالى بالرَّحمةِ بَينَهم والتَّعاوُنِ على البرِّ والتَّقوى، وجَعَلهم كالبُنيانِ يَشُدُّ بَعضُه بَعضًا، وكالجَسَدِ الواحِدِ، وأنَّ المُؤمِنَ يُحِبُّ لأخيه ما يُحِبُّ لنَفسِه، فمَن دَعا على أخيه المُسلمِ باللَّعنةِ -وهي الإبعادُ مِن رَحمةِ اللهِ تعالى- فهو مِن نِهايةِ المُقاطَعةِ والتَّدابُرِ، وهذا غايةُ ما يَودُّه المُسلِمُ للكافِرِ ويَدعو عليه؛ ولهذا جاءَ في الحَديثِ الصَّحيحِ: لعنُ المُؤمِنِ كقَتلِه؛ لأنَّ القاتِلَ يَقطَعُه عن مَنافِعِ الدُّنيا، وهذا يَقطَعُه عن نَعيمِ الآخِرةِ ورَحمةِ اللهِ تعالى. وقيل: مَعنى لعنِ المُؤمِنِ كقَتلِه في الإثمِ، وهذا أظهَرُ.
وأمَّا قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إنَّهم لا يَكونونَ شُفعاءَ» فمَعناه: لا يَشفَعونَ يَومَ القيامةِ حينَ يَشفَعُ المُؤمِنونَ في إخوانِهمُ الذينَ استَوجَبوا النَّارَ.
«ولا شُهَداءَ» فيه ثَلاثةُ أقوالٍ أصَحُّها وأشهَرُها: لا يَكونونَ شُهَداءَ يَومَ القيامةِ على الأُمَمِ بتَبليغِ رُسُلِهم إليهمُ الرِّسالاتِ، والثَّاني: لا يَكونونَ شُهَداءَ في الدُّنيا، أي: لا تُقبَلُ شَهادَتَهم لفِسقِهم، والثَّالِثُ: لا يُرزَقونَ الشَّهادةَ، وهيَ القَتلُ في سَبيلِ اللهِ) [964] ((شرح مسلم)) (16/ 148، 149). .
7- عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما ((أنَّ رَجُلًا لعنَ الرِّيحَ عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: لا تَلعنِ الرِّيحَ؛ فإنَّها مَأمورةٌ، وإنَّه مَن لعنَ شَيئًا ليسَ له بأهلٍ رَجَعَتِ اللَّعنةُ عليه)) [965] أخرجه أبو داود (4908)، والترمذي (1978) واللَّفظُ له. صَحَّحه ابنُ حبانَ في ((صحيحه)) (5745)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (1978)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4908). .
8- عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((سارَ رَجُلٌ مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلعنَ بَعيرَه، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا عَبدَ اللهِ، لا تَسِرْ معنا على بَعيرٍ مَلعونٍ)) [966] أخرجه ابنُ أبي الدنيا في ((الصمت)) (387)، وأبو يعلى (3622) واللفظُ له، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (2179). حسَّنه لغيره الألبانيُّ في ((صحيح الترغيب)) (2795)، وجَوَّد إسنادَه المنذريُّ في ((الترغيب والترهيب)) (3/399)، والعراقيُّ في ((تخريج الإحياء)) (3/152)، والبوصيريُّ في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (6/62). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَفَرٍ يَسيرُ، فلعنَ رَجُلٌ ناقةً، فقال: أينَ صاحِبُ النَّاقةِ؟ فقال الرَّجُلُ: أنا، قال: أخِّرْها، فقد أُجِبتَ فيها)) [967] أخرجه أحمد (9522) واللفظ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8815)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (3540). قال الألبانيُّ في ((صحيح الترغيب)) (2796): حسنٌ صحيحٌ، وجَوَّد إسنادَه المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/399)، والشوكاني في ((الفتح الرباني)) (11/5438) وذهَب إلى تصحيحِه لغيرِه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (9522). .
وعن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((بينَما رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بَعضِ أسفارِه، وامرَأةٌ مِنَ الأنصارِ على ناقةٍ، فضَجِرَت فلعَنَتها، فسَمِعَ ذلك رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: خُذوا ما عليها ودَعوها؛ فإنَّها مَلعونةٌ. قال عِمرانُ: فكأنِّي أراها الآنَ تَمشي في النَّاسِ، ما يَعرِضُ لها أحَدٌ)) [968] أخرجه مسلم (2595). .
وعن أبي بَرزةَ الأسلَميِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((بينَما جاريةٌ على ناقةٍ عليها بَعضُ مَتاعِ القَومِ، إذ بَصُرَت بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتَضايَقَ بهمُ الجَبَلُ، فقالت: حَلْ [969] حَلْ: زَجرٌ للنَّاقةِ إذا حثَثْتَها على السَّيرِ. ((أعلام الحديث)) للخطابي (2/ 1336). ، اللَّهُمَّ العَنْها! قال: فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا تُصاحِبْنا ناقةٌ عليها لعنةٌ [970] قال النَّوويُّ: (المُرادُ النَّهيُ أن تُصاحِبَهم تلك النَّاقةُ، وليسَ فيه نَهيٌ عن بَيعِها وذَبحِها ورُكوبها في غَيرِ صُحبةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بَل كُلُّ ذلك وما سِواه مِنَ التَّصَرُّفاتِ جائِزٌ لا مَنعَ مِنه، إلَّا مِن مُصاحَبَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بها؛ لأنَّ هذه التَّصَرُّفاتِ كُلَّها كانت جائِزةً، فمُنِعَ بَعضٌ مِنها، فبَقيَ الباقي على ما كان). ((رياض الصالحين)) (ص: 442). ) [971] أخرجه مسلم (2596). .
9- عن زيدِ بنِ خالدٍ الجُهَنيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((لعَنَ رَجُلٌ ديكًا صاحَ عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا تَلعَنْه؛ فإنَّه يَدعو إلى الصَّلاةِ)) [972] أخرجه أحمدُ (17034) واللفظُ له، والطبرانيُّ (5/240) (5208)، والبيهقيُّ في ((شعب الإيمان)) (4808). صَحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريجِ ((شرح السنة)) (3269). .
ب- مِنَ الإجماعِ
نَقَل الإجماعَ على ذلك: النَّوَويُّ [973] قال النَّوويُّ: (اعلَمْ أنَّ لَعْنَ المسلمِ المَصونِ حَرامٌ بإجماعِ المسلِمينَ، ويَجوزُ لَعنُ أصحابِ الأوصافِ المَذمومةِ، كقَولِك: لعنَ اللهُ الظَّالمينَ، لعنَ اللهُ الكافِرينَ، لعنَ اللهُ اليَهودَ والنَّصارى، ولعنَ اللهُ الفاسِقينَ، لعنَ اللهُ المُصَوِّرينَ، ونَحو ذلك). ((الأذكار)) (ص: 353). .
فوائِدُ ومَسائِلُ:
1- قال الغَزاليُّ: (إيَّاكَ أن تَلعنَ شَيئًا مِمَّا خَلقَ اللهُ تعالى؛ مِن حَيَوانٍ أو طَعامٍ أو إنسانٍ بعَينِه، ولا تَقطَعْ بشَهادَتِك على أحَدٍ مِن أهلِ القِبلةِ بشِركٍ أو كُفرٍ أو نِفاقٍ؛ فإنَّ المُطَّلعَ على السَّرائِرِ هو اللهُ تعالى، فلا تَدخُلْ بَينَ العِبادِ وبَينَ اللهِ تعالى.
واعلَمْ أنَّك يَومَ القيامةِ لا يُقالُ لك: لمَ لم تَلعَنْ فُلانًا، ولمَ سَكَتَّ عنه؟ بَل لو لم تَلعَنْ إبليسَ طولَ عُمرِك، ولم تَشغَلْ لِسانَك بذِكرِه لم تُسأَلْ عنه، ولم تُطالَبْ به يَومَ القيامةِ، وإذا لعَنتَ أحَدًا مِن خَلقِ اللهِ تعالى طولِبتَ به) [974] ((بداية الهداية)) (ص: 55). .
2- قال النَّوويُّ في بَيانِ جَوازِ لَعنِ أصحابِ المَعاصي غَيرِ المُعَيَّنينَ والمَعروفينَ: (ثَبَتَ في الأحاديثِ الصَّحيحةِ المَشهورةِ، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لعنَ اللهُ الواصِلةَ والمُستَوصِلةَ...» الحَديثَ [975] أخرجه البخاري (5934) واللَّفظُ له، ومسلم (2123) من حديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. ، وأنَّه قال: «لعنَ اللهُ آكِلَ الرِّبا...» الحَديثَ [976] أخرجه أحمد (3725)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (9/61) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه ابنُ تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (20/263)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (5089)، وصَحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (3725). وأخرجه البخاري (5962) من حديث أبي جحيفة، ومسلم (1597) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، بلفظ: ((لعنَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم آكِلَ الرِّبا ومُؤكِلَه)). ، وأنَّه قال: «لعنَ اللهُ المُصَوِّرينَ...» [977] أخرجه البخاري (5347) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي جُحَيفةَ رَضِيَ اللهُ عنه، بلفظ: ((لعَنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الواشِمةَ والمُستَوشِمةَ، وآكِلَ الرِّبا وموكِلَه، ونَهى عن ثَمَنِ الكَلبِ، وكَسبِ البَغيِّ، ولَعَنَ المُصَوِّرينَ)). ، وأنَّه قال: «لعنَ اللهُ مَن غَيَّر مَنارَ الأرضِ...» [978] أخرجه مسلم (1978) من حديثِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ولَفظُه: ((لعنَ اللهُ مَن لعنَ والدَه، ولعنَ اللهُ مَن ذَبَحَ لغَيرِ اللهِ، ولعنَ اللهُ مَن آوى مُحدِثًا، ولعنَ اللهُ مَن غَيَّرَ مَنارَ الأرضِ)). ، وأنَّه قال: «لعنَ اللهُ السَّارِقَ يَسرِقُ البَيضةَ...» [979] أخرجه البخاري (6783)، ومسلم (1687) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُه: ((لعنَ اللهُ السَّارِقَ، يَسرِقُ البَيضةَ فتُقطَعُ يَدُه، ويَسرِقُ الحَبلَ فتُقطَعُ يَدُه)). ، وأنَّه قال: «لعنَ اللهُ مَن لعَنَ والدَيه، ولعنَ اللهُ مَن ذَبَحَ لغَيرِ اللهِ» [980] أخرجه مسلم (1978) من حديثِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُه: ((لعنَ اللهُ مَن ذَبَحَ لغَيرِ اللهِ، ولعنَ اللهُ مَن آوى مُحدِثًا، ولعنَ اللهُ مَن لعنَ والدَيه، ولعنَ اللهُ مَن غَيَّرَ المَنارَ)). ، وأنَّه قال: «مَن أحدَثَ فينا حَدَثًا، أو آوى مُحدِثًا، فعليه لعنةُ اللهِ والمَلائِكةِ والنَّاسِ أجمَعينَ» [981] أخرجه البخاري (1870)، ومسلم (1370) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُه: ((مَن أحدَثَ فيها حَدَثًا أو آوى مُحدِثًا، فعليه لعنةُ اللهِ والمَلائِكةِ والنَّاسِ أجمَعينَ)). ، وأنَّه قال: «اللهُمَّ العَنْ رِعْلًا وذَكوانَ وعُصَيَّةَ عَصَتِ اللَّهَ ورَسولَه» [982] أخرجه مسلم (675) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه؛ بلفظ: ((اللهُمَّ العَنْ لِحيانَ، ورِعلًا، وذَكوانَ، وعُصَيَّةَ؛ عَصَتِ اللَّهَ ورَسولَه)). ، وهذه ثَلاثُ قَبائِلَ مِنَ العَرَبِ.
وأنَّه قال: «لعنَ اللهُ اليَهودَ؛ حُرِّمَت عليهمُ الشُّحومُ فجَمَلوها [983] جَمَلوها، أي: أذابوها واستَخرَجوا دُهْنَها، وفيه لغتانِ، يقالُ: جَمَلتُ الشَّحمَ وأجمَلْتُه: إذا أذَبْتَه، قيل: وجَمَلتُ أفصَحُ مِن أَجْمَلتُ. يُنظر: ((غريب الحديث)) للقاسم بن سلام (4/ 298)، ((النهاية)) لابن الأثير (1/ 298). فباعوها» [984] أخرجه البخاري (3460)، ومسلم (1582) من حديثِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وأنَّه قال: «لعنَ اللهُ اليَهودَ والنَّصارى اتَّخَذوا قُبورَ أنبيائِهم مَساجِدَ» [985] أخرجه البخاري (1390)، ومسلم (529) من حديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. ، وأنَّه قال: «لَعَنَ المُتَشَبِّهينَ مِنَ الرِّجالِ بالنِّساءِ، والمُتَشَبِّهاتِ مِنَ النِّساءِ بالرِّجالِ» [986] أخرجه البخاري (5885) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، بلفظِ: ((لعنَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المُتَشَبِّهينَ مِنَ الرِّجالِ بالنِّساءِ، والمُتَشَبِّهاتِ مِنَ النِّساءِ بالرِّجالِ)). .
وجَميعُ هذه الألفاظِ في صحيحَيِ البخاريِّ ومسلِمٍ، بَعضُها فيهما، وبَعضُها في أحَدِهما.
ورُوِّينا في "صحيحِ مُسلمٍ" عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَأى حِمارًا قد وُسِمَ في وَجهِه، فقال: «لعنَ اللهُ الذي وسَمَه» [987] أخرجه مسلم (2117) باختلافٍ يسيرٍ، بلفظِ: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَرَّ عليه حِمارٌ قد وُسِمَ في وَجهِه، فقال: لعنَ اللهُ الذي وسَمَه)). .
وفي الصَّحيحَينِ أنَّ ابنَ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما مَرَّ بفِتيانٍ مِن قُرَيشٍ قد نَصَبوا طَيرًا وهم يَرمونَه، فقال ابنُ عُمَر: لعنَ اللهُ مَن فَعَل هذا؛ إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لعنَ اللهُ مَنِ اتَّخَذَ شَيئًا فيه الرُّوحُ غَرَضًا» [988] أخرجه البخاري (5515) مُختَصَرًا بنحوه، ومسلم (1958) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُ مسلمٍ: عن سَعيدِ بنِ جُبَيرٍ قال: ((مَرَّ ابنُ عُمَرَ بفِتيانٍ مِن قُرَيشٍ قد نَصَبوا طَيرًا وهم يَرمونَه، وقد جَعَلوا لصاحِب الطَّيرِ كُلَّ خاطِئةٍ مِن نَبلِهم، فلمَّا رَأوا ابنَ عُمَرَ تَفرَّقوا، فقال ابنُ عُمَرَ: مَن فعَل هذا؟ لعَنَ اللهُ مَن فعَل هذا؛ إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيئًا فيه الرُّوحُ غَرَضًا)). [989] ((الأذكار)) (ص: 353). .
وقال النَّوويُّ أيضًا: (إنَّما قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لا يَنبَغي لصِدِّيقٍ أن يَكونَ لعَّانًا» و«لا يَكونُ اللَّعَّانونَ شُفعاءَ» بصيغةِ التَّكثيرِ، ولم يَقُلْ: "لاعِنًا"، و"اللَّاعِنونَ"؛ لأنَّ هذا الذَّمَّ في الحَديثِ إنَّما هو لمَن كَثُرَ مِنه اللَّعنُ لا لمَرَّةٍ ونَحوِها، ولأنَّه يَخرُجُ مِنه أيضًا اللَّعنُ المُباحُ، وهو الذي ورَدَ الشَّرعُ به، وهو: لعنةُ اللهِ على الظَّالمِينَ، لعنَ اللهُ اليَهودَ والنَّصارى، لعنَ اللهُ الواصِلةَ والواشِمةَ، وشارِبَ الخَمرِ، وآكِلَ الرِّبا ومُوكِلَه وكاتِبَه وشاهِدَيه، والمُصَوِّرينَ، ومَنِ انتَمى إلى غَيرِ أبيه وتَولَّى غَيرَ مَواليه، وغَيَّرَ مَنارَ الأرضِ، وغَيرَهم مِمَّن هو مَشهورٌ في الأحاديثِ الصَّحيحةِ) [990] ((شرح مسلم)) (16/ 149). .

انظر أيضا: