موسوعة الآداب الشرعية

فوائِدُ


مِن أدبِ الخطابِ
(دَخَل الكِسائيُّ والمَأمونُ على الرَّشيدِ وهو يَتَسَوَّكُ، فقال للكِسائيِّ: كَيف تَأمُرُك، قال: استَكْ، فابتَسَمَ وقال: ما أفحَشَ هذا الخِطابَ! ثُمَّ قال للمَأمونِ وهو طِفلٌ: كيف؟ قال: سُكْ فاك، قال: يا أميرَ المُؤمِنينَ، هكذا فليَكُنْ أدَبُ الخِطابِ) [1705] ((فيض القدير)) (4/ 148). والقِصَّةُ رَواها الخَطيبُ البَغداديُّ في ((تاريخ بَغداد)) (13/ 348) عن سَلَمةَ، قال: (كان عِندَ المَهديِّ مُؤَدِّبٌ يُؤَدِّبُ الرَّشيدَ، فدَعاه يَومًا المَهديُّ وهو يَستاكُ، فقال: كَيف تَأمُرُ مِنَ السِّواكِ؟ فقال: استَكْ يا أميرَ المُؤمِنينَ! فقال المَهديُّ: إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجِعونَ، ثُمَّ قال: التَمِسوا لنا مَن هو أفهَمُ مِن ذا، فقالوا: رَجُلٌ يُقالُ له: عَليُّ بنُ حَمزةَ الكِسائيُّ، مِن أهلِ الكوفةِ، قَدِمَ مِنَ الباديةِ قَريبًا، فكَتَبَ بإزعاجِه مِنَ الكوفةِ، فساعةَ دَخَل عَليه قال: يا عَليُّ بنَ حَمزةَ، قال: لبَّيكَ يا أميرَ المُؤمِنينَ، قال: كَيف تَأمُرُ مِنَ السِّواكِ؟ قال: سُكْ، يا أميرَ المُؤمِنينَ، قال: أحسَنتَ وأصَبتَ! وأمَرَ له بعَشَرةِ آلافِ دِرهَمٍ). .
جملةٌ مِن آدابِ المخاطِبِ
1- عن هِشامِ بنِ عُروةَ، عن أبيه، قال: (مَكتوبٌ في الحِكمةِ: بُنيَّ، لتَكُنْ كَلِمَتُك طَيِّبةً، وليَكُنْ وَجهُك بَسيطًا، تَكُنْ أحَبَّ إلى النَّاسِ مِمَّن يُعطيهمُ العَطاءَ) [1706] رواه أحمد في ((الزهد)) (274). .
2- عن حَبيبِ بنِ أبي ثابتٍ، قال: (مِن حُسنِ خُلُقِ الرَّجُلِ أن يُحَدِّثَ صاحِبَه وهو يَبتَسِمُ) [1707] رواه ابنُ حبان في ((روضة العقلاء)) (ص: 77). .
وفي رِوايةٍ: (مِن حُسنِ خُلُقِ الرَّجُلِ أن يُحَدِّثَ صاحِبَه وهو مُقبِلٌ عليه بوَجهِه) [1708] رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)) (11/ 54) رقم (8166). .
وفي أُخرى: (إنَّ مِنَ السُّنَّةِ إذا حَدَّثَ الرَّجُلُ القَومَ أن يُقبِلَ عليهم جَميعًا، ولا يَخُصَّ أحَدًا دونَ أحَدٍ) [1709] رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (5/ 61). .
وفي رِوايةٍ أُخرى: (كانوا يُحِبُّونَ إذا حَدَّثَ الرَّجُلُ ألَّا يُقبِلَ على الرَّجُلِ الواحِدِ، ولكِنْ ليَعُمَّهم) [1710] رواه البخاري في ((الأدب المفرد)) (1304). .
3- قال القاسِميُّ: (الكَلامُ مِعيارُ فَضلِ المَرءِ وأدَبِه؛ لأنَّ فَضلَه لا يَظهَرُ إلَّا بمَنطِقِه، فيَنبَغي اعتيادُ النُّطقِ بالحِكمةِ بكَثرةِ سَماعِها، واجتِنابِ التَّكَلُّفِ والتَّعقيدِ، ويَنبَغي التَّكَلُّمُ بصَوتٍ مُتَوسِّطٍ وعلى قَدرِ اللُّزومِ؛ فإنَّ مَن رَفعَ صَوتَه زيادةً عنِ العادةِ وقَدرِ الحاجةِ نَفَرَ السَّامِعُ مِن سَماعِ كَلامِه، وأوجَبَ كَراهةَ النَّاسِ له، فلا يُحِبُّونَ مُحادَثَتَه ومُؤانَسَتَه، على أنَّ كَثرةَ الصِّياحِ والصُّراخِ توجِبُ ضَعفَ أعضاءِ التَّنَفُّسِ، ويَحصُلُ للإنسانِ بها بحَّةُ الصَّوتِ وصُداعُ الرَّأسِ وضَعفُ العَينَينِ، كما أنَّ زيادةَ خَفضِ الصَّوتِ توجِبُ صُعوبةَ سَماعِه، وتَكَلُّفَ المُستَمِعِ زيادةَ الإصغاءِ، ورُبَّما تَخفى بَعضُ ألفاظِه فلا تُسمَعُ، أو تَشتَبِهُ على السَّامِعِ بغَيرِها، فيُفهَمُ مِنها خِلافُ غَرَضِ قائِلِه.
فمِن تَمامِ الأدَبِ والصِّحَّةِ أن يَكونَ صَوتُ الإنسانِ في خِطابِه مُتَوسِّطًا مُعتَدِلًا بقَدرِ اللُّزومِ، لا عاليًا يُتعِبُ المُتَكَلِّمَ ويُزعِجُ السَّامِعَ، ولا مُنخَفِضًا جِدًّا يَضعُفُ عنِ الوُصولِ إلى المَسامِعِ.
ويَنبَغي ألَّا يَكونَ كَلامُه بسُرعةٍ شَديدةٍ، فيَعسُرَ على المُخاطَبِ تَمييزُه وضَبطُه وحُسنُ فَهمِه، ولا يَكونَ بتَأنٍّ زائِدٍ وبُطءٍ يُمِلُّ السَّامِعَ ويَطولُ به الوقتُ، بَل يَكونُ وسَطًا. ولا يَكونَ بشِدَّةٍ وحِدَّةٍ مِثلَ المُغتاظِ والغَضبانِ، ولا برَخاوةٍ وتَكَسُّرٍ ككَلامِ النِّسوانِ. ولا بتَشَدُّقٍ يَنقَذِفُ مَعَه لُعابٌ أو بُصاقٌ. بَل يَكونُ كَلامُه كَلامَ الرِّجالِ الشُّجعانِ، مَعَ بَشاشةِ الوَجهِ وحَلاوةِ اللِّسانِ، فكم مِن أُمورٍ صَعبةٍ مُتَعَسِّرةٍ يُسَهِّلُها عُذوبةُ اللَّفظِ وحُسنُ البَيانِ!
ولا يَهشَّ إلى كافَّةِ النَّاسِ هَشاشةً تُجَسِّرُهم عليه فيَضيقُ بهم ذَرعًا، ولا يَصبرَ على ما يُحِبُّونَ مِنه، ولا يَنقَبضَ عنهمُ انقِباضًا يوحِشُه مِنهم، ويَمنَعُه مِن رِفدِهم، ولكِنْ ليَلْقَ الأعيانَ بالتَّرحيبِ والمُفاوَضةِ، ومِن قَصَرَ عنهم بحُسنِ اللِّقاءِ والصَّمتِ، وسِفلَهم بالرَّأفةِ وحُسنِ المَعونةِ.
وعليه إذا كَلَّمَه أحَدٌ أن يُقبِلَ عليه، ويُحسِنَ الإصغاءَ عليه، ولا يَتَشاغَلَ عن كَلامِه، ولا يَقطَعَ عليه القَولَ، حتَّى إذا خَطَرَ ببالِه شَيءٌ يَجِبُ أن يَذكُرَه يَصبرُ حتَّى يَفرُغَ صاحِبُه ثُمَّ يَتَكَلَّمُ.
وعليه ألَّا يَذكُرَ أحَدًا مِن رُفقائِه إلَّا باسمِه مَقرونًا بتَفخيمٍ أو بلقَبِه الذي يُعجِبُه ويُحِبُّه، ولا يُسَمِّيَ أحَدًا باسمٍ يَكرَهُه، ولا يُناديَه ولا يُخاطِبَه به.
وعليه أن يَكُفَّ لسانَه عن لفظٍ قَبيحٍ مَعيبٍ كأعضاءِ العَورةِ، فيُكَنِّي عنها لدى الضَّرورةِ.
وعليه أن يَتَّخِذَ الصِّدقَ في أقوالِه عادةً لازِمةً، وطَبيعةً دائِمةً؛ فإنَّ فيه السَّلامةَ والنَّجاحَ، والكَذَّابُ فاقِدُ الثِّقةِ بَينَ أهلِه، ولا صَديقَ له، ولا يُقبَلُ قَولُه حتَّى في الصِّدقِ، وضَرَرُه يَعودُ على نَفسِه وغَيرِه.
وعليه إذا اضطُرَّ لمُعارَضةِ أحَدٍ أن يَقولَ: لعَلَّ الشَّأنَ كذا.
وعليه إذا رَغِبَ لأحَدٍ في أمرٍ أن يَسألَه ما يَتَحَمَّلُه طَبعُه، وما تَنشَرِحُ إليه نَفسُه.
ويَجِبُ الاحتِرازُ عنِ الألفاظِ الحَشويَّةِ التي تَتَخَلَّلُ كَلامَ بَعضِ اللُّكْنِ والرُّعنِ...
وعلى المُتَكَلِّمِ أن يَتَجَنَّبَ الحَلِفَ في كَلامِه وإن كان صادِقًا؛ تَوقيرًا للَّفظِ الكَريمِ، وتَباعُدًا عن إيهامِ الدَّخَلِ [1711] الدَّخَلُ: الغِشُّ والفَسادُ. ((غريب الحديث)) للخطابي (2/ 436). في كَلامِه لتَرويجِ مَأرَبِه.
وعليه ألَّا يُباحِثَ في المَسائِلِ المَذهَبيَّةِ التي تولِّدُ الضَّغائِنَ والتَّعَصُّبَ؛ فإنَّها مِن أعظَمِ آفاتِ العُمرانِ، وأشَدُّ عامِلٍ على التَّفرِقةِ والانقِسامِ.
وعليه ألَّا يَكونَ مِكثارًا مِنَ القَولِ مُستَغرِقًا الجَلسةَ في طولِ حَديثِه، مُلجِمًا غَيرَه عنِ المُشارَكةِ؛ فإنَّ ذلك مُضجِرٌ للجُلساءِ، ومِن دَلائِلِ الطَّيشِ والخِفَّةِ، فمَن بَسَطَ لسانَه قَبَضَ إخوانَه، ودَواؤُه الإعراضُ؛ لأنَّ حُسنَ الاستِماعِ قوَّةٌ للمُحَدِّثِ) [1712] ((جوامع الآداب)) (ص: 129-133). .
4- قال ابنُ المُقَفَّعِ: (مِنَ الدَّليلِ على سَخافةِ المُتَكَلِّمِ أن يَكونَ ما يُرى مِن ضَحِكِه ليسَ على حَسَبِ ما عِندَه مِنَ القَولِ، أوِ الرَّجُلُ يُكَلِّمُ صاحِبَه فيُجاذِبُه الكَلامَ ليَكونَ هو المُتَكَلِّمَ، أو يَتَمَنَّى أن يَكونَ صاحِبُه قد فرَغَ وأنصَتَ له، فإذا أنصَت له لم يُحسِنِ الكَلامَ) [1713] ((الأدب الصغير)) (ص: 64، 65). .

انظر أيضا: