موسوعة الآداب الشرعية

أولًا: حُسنُ الِاستِماعِ واتِّباعُ الحَقِّ


مِن أدَبِ المَدعوِّ: أن يُحسِنَ الِاستِماعَ لمَن يَدعوه ويُريدُ الخَيرَ له، ولا يَلغوَ ولا يَلهوَ ولا يُعرِضَ، فإذا ظَهَرَ له الحَقُّ وجَبَ عليه اتِّباعُه، وحَرُمَ رَدُّه والإعراضُ عنه.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 17-18] .
2- قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [لقمان: 6-7] .
3- قال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف: 146] .
4- وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26] .
وفيه ذَمُّ المعرِضِينَ عن سماعِ القرآنِ [2322] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/588). . فإنَّهم عَلِموا أنَّ القُرآنَ كَلامٌ هو أكمَلُ الكَلامِ، وأيْقَنوا أنَّ كُلَّ مَن يَسمَعُه قَضى له فَهْمُه أنَّه حَقٌّ اتِّباعُه، وقد أدْرَكوا ذلك بأنْفُسِهم، ولكِنَّهم غالَبَتْهم مَحَبَّةُ الدَّوامِ على سِيادةِ قَومِهم، فتَمالَؤوا ودَبَّروا تَدبيرًا لِمَنعِ النَّاسِ مِنِ استِماعِه، وذلك خَشيةً مِن أنْ تَرِقَّ قُلوبُهم عِندَ سَماعِ القُرآنِ، فصَرَفوهم عن سَماعِه، وهذا مِن شَأنِ دُعاةِ الضَّلالِ والباطِلِ أنْ يَكُمُّوا أفواهَ النَّاطِقينَ بالحَقِّ والحُجَّةِ، بما يَستَطيعونَ مِن تَخويفٍ وتَسويلٍ، وتَرهيبٍ وتَرغيبٍ، ولا يَدَعوا النَّاسَ يَتَجادَلونَ بالحُجَّةِ، ويَتَراجَعونَ بالأدِلَّةِ؛ لِأنَّهم يُوقِنونَ أنَّ حُجَّةَ خُصومِهم أنهَضُ، فهمْ يَستُرونَها ويُدافِعونَها، لا بمِثلِها، ولكِنْ بأساليبَ مِنَ البُهتانِ والتَّضليلِ، فإذا أعيَتْهمُ الحِيَلُ، ورَأوْا بَوارِقَ الحَقِّ تَخفِقُ، وخَشُوا أنْ يَعُمَّ نُورُها النَّاسَ الَّذين فيهم بَقيَّةٌ مِن خَيرٍ ورَشَدٍ، عَدَلوا إلى لَغوِ الكَلامِ، ونَفَخوا في أبواقِ اللَّغوِ والجَعجَعةِ، لَعَلَّهم يَغلِبونَ بذلك على حُجَجِ الحَقِّ، ويَغمُرونَ القَولَ الصَّالِحَ باللَّغوِ، وكذلك شَأنُ هؤلاء [2323] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/277). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عَبدِ اللَّهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((ارحَموا تُرحَموا، واغفِروا يَغفِرِ اللهُ لكُم، وَيلٌ لأقماعِ القَولِ، وَيلٌ للمُصِرِّينَ الذينَ يُصِرُّونَ على ما فعَلوا وهم يَعلَمونَ)) [2324] أخرجه أحمد (6541) واللفظ له، والطبراني (13/651) (14579)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7236). صحَّحه الألباني في ((صحيح الجامع)) (897)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (10/52)، وحسَّنه ابنُ حَجَر في ((فتح الباري)) (1/137)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (6541)، وجَوَّده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/286)، والسخاوي في ((البلدانيات)) (49). .
قال الخَطَّابيُّ: (أقماعُ القَولِ: هم الذين يَسمَعونَ ولا يَعمَلونَ به، شَبَّه آذانَهم بالأقماعِ يُصَبُّ فيها الكلامُ صَبَّ الماءِ في الإناءِ) [2325] ((غريب الحديث)) (1/ 168). .
وقال ابنُ رَجَبٍ: (أقماعُ القَولِ: الذينَ آذانُهم كالقُمعِ يَدخُلُ فيه سَماعُ الحَقِّ مِن جانِبٍ ويَخرُجُ مِن جانِبٍ آخَرَ، لا يَستَقِرُّ فيه) [2326] ((فتح الباري)) (1/ 197). .
وقال أيضًا: (فُسِّرَ أقماعُ القَولِ بمَن كانت أذُناه كالقُمعِ لِما يَسمَعُ مِنَ الحِكمةِ والمَوعِظةِ الحَسَنةِ، فإذا دَخَل شيءٌ مِن ذلك في أذُنِه خَرَجَ في الأخرى، ولم يَنتَفِعْ بشيءٍ مِمَّا سَمِعَ) [2327] ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 416). .
2- عن عَبدِ اللَّهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يَدخُلُ الجَنَّةَ مَن كان في قَلبِه مِثقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبرٍ. قال رَجُلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أن يَكونَ ثَوبُه حَسَنًا ونَعلُه حَسَنةً، قال: إنَّ اللَّهَ جَميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، الكِبرُ بَطَرُ الحَقِّ، وغَمطُ النَّاسِ)) [2328] أخرجه مسلم (91). .
وبَطَرُ الحَقِّ: رَدُّه وجَحدُه، والدَّفعُ في صَدرِه، وغَمطُ النَّاسِ: احتِقارُهم وازدِراؤُهم، ومَتى احتَقَرَهم وازدَراهم دَفع حُقوقَهم وجَحَدَها، واستَهانَ بها [2329] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/ 317، 318). .
3- عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((كُنَّا عِندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فجاء رجلٌ من أهلِ الباديةِ، عليه جُبَّةُ سِيجانٍ [2330] السِّيجانُ: جَمعُ ساجٍ، وهو الطَّيلَسانُ الأخضَرُ، وقيل: هو الطَّيلَسانُ المقوَّرُ يُنسَجُ كذلك، وكانوا يعمَلون منه الجُبَبَ والقلانِسَ. يُنظر: ((نخب الأفكار)) للعيني (13/ 267). مَزرورةٌ بالدِّيباجِ [2331] أزرَرْتُ القميصَ: إذا جعَلتَ له أزرارًا، فتزَرَّر. والدِّيباجُ: نوعٌ من الثِّيابِ سَداه ولُحمتُه حريرٌ، وهو فارسيٌّ مُعَرَّبٌ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (1/ 312) و(2/ 669)، ((المعجم الوسيط)) (1/ 268). ، فقال: ألا إنَّ صاحِبَكم هذا قد وضع كُلَّ فارِسٍ ابنِ فارِسٍ، قال: يريدُ أن يَضَعَ كُلَّ فارسٍ ابنِ فارسٍ، ويرفَعَ كُلَّ راعٍ ابنِ راعٍ! قال: فأخذ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمجامِعِ جُبَّتِه، وقال: ألا أرى عليك لباسَ من لا يَعقِلُ؟! ثمَّ قال: إنَّ نبيَّ اللهِ نوحًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا حضرَتْه الوفاةُ قال لابنِه: إنِّي قاصٌّ عليك الوصيَّةَ: آمُرُك باثنَتَينِ، وأنهاك عن اثنَتَينِ؛ آمُرُك بلا إلهَ إلَّا اللهُ؛ فإنَّ السَّمَواتِ السَّبعَ والأرَضينَ السَّبعَ لو وُضِعَت في كِفَّةٍ، ووُضِعَت لا إلهَ إلَّا اللهُ في كِفَّةٍ، رجَحَت بهِنَّ لا إلهَ إلَّا اللهُ، ولو أنَّ السَّمَواتِ السَّبعَ والأرَضِينَ السَّبعَ كُنَّ حَلقةً مُبهَمةً، قَصَمَتْهُنَّ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وسُبحانَ اللهِ وبحَمْدِه؛ فإنَّها صلاةُ كُلِّ شَيءٍ، وبها يُرزَقُ الخَلقُ، وأنهاك عن الشِّركِ والكِبرِ. قال: قُلتُ -أو قيلَ-: يا رسولَ اللهِ، هذا الشِّركُ قد عرَفْناه، فما الكِبرُ؟ قال: الكِبرُ أن يكونَ لأحَدِنا نَعلانِ حَسَنتانِ لهما شِراكانِ حَسَنانِ؟ قال: لا، قال: هو أن يكونَ لأحَدِنا حُلَّةٌ يَلبَسُها؟ قال: لا، قال: الكِبرُ هو أن يكونَ لأحَدِنا دابَّةٌ يَركَبُها؟ قال: لا، قال: أفهو أن يكونَ لأحَدِنا أصحابٌ يجلِسونَ إليه؟ قال: لا، قيل: يا رسولَ اللهِ، فما الكِبرُ؟ قال: سَفهُ الحَقِّ [2332] سَفَهُ الحَقِّ: أن يرى الحَقَّ سَفَهًا وجَهلًا. يُنظر: ((غريب الحديث)) للقاسم بن سلام (3/ 314). ، وغَمصُ [2333] غَمصُ النَّاسِ وغَمطُهم: الاحتقارُ لهم، والازدراءُ بهم، وما أشبَهَ ذلك. يُنظر: ((غريب الحديث)) للقاسم بن سلام (3/ 314، 315). النَّاس)) [2334] أخرجه أحمد (6583) واللفظ له، والطبراني (13/660) (14585)، والحاكم (155). صحَّحه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (426)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (801)، وصحَّح إسنادَه الحاكم، وابن كثير في ((البداية والنهاية)) (1/112)، والعراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/396). .

انظر أيضا: