موسوعة الآداب الشرعية

رابعًا: عَدَمُ المَشيِ في نَعلٍ واحِدةٍ


يُكرَهُ المَشيُ في نَعلٍ واحِدةٍ أو خُفٍّ واحِدٍ أو مَداسٍ واحِدٍ وما أشبَهَ ذلك، مِن غَيرِ عُذرٍ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يَمشي أحَدُكُم في نَعلٍ واحِدةٍ، ليُحفِهما جَميعًا، أو ليُنعِلْهما جَميعًا)) [581] أخرجه البخاري (5855). .
وفي رِوايةٍ: ((إذا انتَعَل أحَدُكُم فليَبدَأْ باليُمنى، وإذا خَلعَ فليَبدَأْ بالشِّمالِ، وليُنعِلْهما جَميعًا، أو ليَخلَعْهما جَميعًا)) [582] أخرجها مسلم (2097). .
 2- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عنِ المَشيِ في النَّعلِ الواحِدةِ، وقال: إنَّ الشَّيطانَ يَمشي بالنَّعلِ الواحِدةِ)) [583] أخرجه الطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (1358). صحَّح إسنادَه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (348)، وشعيب الأرناؤوط على شرط الشيخين في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (1358). .
3- عن جابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى أن يَأكُلَ الرَّجُلُ بشِمالِه، أو يَمشيَ في نَعلٍ واحِدةٍ...)) [584] أخرجه مسلم (2099). .
وفي رِوايةٍ: ((إذا انقَطَعَ شِسعُ [585] الشِّسعُ: مِن سُيورِ النَّعلِ، وهو الذي يَدخُلُ بَينَ الإصبَعَينِ في الثُّقبِ الذي في صَدرِ النَّعلِ المَشدودِ في الزِّمامِ، والزِّمامُ: السَّيرُ الذي يُعقَدُ فيه الشِّسعُ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (10/ 652). أحَدِكُم فلا يَمشِ في نَعلٍ واحِدةٍ حتَّى يُصلِحَ شِسعَه، ولا يَمشِ في خُفٍّ واحِدٍ، ولا يَأكُلْ بشِمالِه)) [586] أخرجها مسلم (2099). .
قال الطَّحاويُّ: (مَن لَبِسَ نَعلًا واحِدةً أو خُفًّا واحِدًا كان بذلك عِندَ النَّاسِ سَخيفًا وسَخِروا مِنه، فمِثلُ هذا لو لم يَكُنْ فيه نَهيٌ وجَبَ أن يُنتَهى عنه) [587] ((شرح مشكل الآثار)) (3/ 389). .
وقال الخَطَّابيُّ: (هذا قد يَجمَعُ أُمورًا؛ مِنها: أنَّه قد يَشُقُّ عليه المَشيُ على هذه الحالِ؛ لأنَّ وَضعَ أحَدِ القدَمَينِ مِنه على الحَفاءِ إنَّما يَكونُ مَعَ التَّوقِّي والتَّهَيُّبِ لأذًى يُصيبُه أو حَجرٍ يَصدِمُه، ويَكونُ وَضعُه القدَمَ على خِلافِ ذلك مِنَ الاعتِمادِ به والوَضعِ له مِن غَيرِ مُحاشاةٍ أو تَقيَّةٍ، فيَختَلِفُ مِن أجلِ ذلك مَشيُه، ويَحتاجُ مَعَه إلى أن يَنتَقِلَ عن سَجيَّةِ المَشيِ وعادَتِه المُعتادةِ فيه، فلا يَأمَنُ عِندَ ذلك العِثارَ والعنَتَ، وقد يتَصَوَّرُ فاعِلُه عِندَ النَّاسِ بصورةِ مَن إحدى رِجلَيه أقصَرُ مِنَ الأُخرى، ولا خَفاءَ بقُبحِ مَنظَرِ هذا الفِعلِ. وكُلُّ أمرٍ يَشتَهِرُه النَّاسُ ويَرفعونَ إليه أبصارَهم فهو مَكروهٌ مَرغوبٌ عنه.
وقد يَدخُلُ في هذا المعنى كُلُّ لِباسٍ يُنتَفَعُ به، كالخُفَّينِ، وإدخالِ اليَدِ في الكُمَّينِ، والتَّرَدِّي بالرِّداءِ على المَنكِبَينِ. فلو أرسَله على إحدى المَنكِبَينِ وعَرى مِنه الجانِبُ الآخَرُ كان مَكروهًا على مَعنى الحَديثِ، ولو أخرج إحدى يَدَيه مِن كُمِّه وتَرَك الأُخرى داخِلَ الكُمِّ الآخَرِ كان كذلك في الكَراهةِ. واللَّهُ أعلَمُ) [588] ((معالم السنن)) (4/ 204). وقال الخَطَّابيُّ أيضًا: (أمرُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بلُبسِ النَّعلِ في رِجلِه اليُمنى أوَّلًا إنَّما هو لاستِحبابِه التَّيامُنَ في كُلِّ شَيءٍ مِن أمرِه، وتَفضيلِه اليُمنى على اليُسرى، والحِذاءُ كَرامةٌ للرِّجلِ ووِقايةٌ لها مِنَ الأذى، وإذا كانتِ اليُمنى أفضَلَ مِنَ اليُسرى استَحَقَّتِ التَّبديةَ في لُبسِ النَّعلِ بها والتَّأخيرِ في نَزعِها؛ ليَتَوفَّرَ بدَوامِ لُبسِها حَظُّها مِنَ الكَرامةِ. وأمَّا نَهيُه عنِ المَشيِ في النَّعلِ الواحِدةِ فإنَّ مَعلومًا أنَّ المَشيَ قد يَشُقُّ على هذه الحالِ؛ لأنَّ وَقعَ إحدى الرِّجلينِ مِنَ الماشي على الحَفاءِ إنَّما يَكونُ مَعَ التَّوقِّي لأذًى يُصيبُه وحَجرٍ يَنكُبُه، ويَكونُ في وَضعِه الرِّجلَ الأُخرى على خِلافِ ذلك مِنَ الاعتِمادِ بها الوَضعَ لها مِن غَيرِ مُحاشاةٍ وتَقيَّةٍ، فيَختَلِفُ مِن أجلِ ذلك مَشيُه ويَحتاجُ لذلك أن يَنتَقِلَ عن سَجيَّةِ المَشيِ المُعتادِ، فلا يَأمَنُ عِندَ ذلك مِنَ العِثارِ، مَعَ سَماجَتِه في الشَّكلِ وقُبحِ مَنظَرِه في العُيونِ؛ إذ كان يُتَصَوَّرُ فاعِلُ ذلك عِندَ النَّاسِ بصورةِ مَن إحدى رِجلَيه أقصَرُ مِنَ الأُخرى. وقد يَدخُلُ في النَّهيِ عن ذلك كُلُّ لباسٍ شَفعٍ، كالخُفَّينِ، ولُبسِ الرِّداءِ على المَنكِبَينِ، لا يُرسِلُ الرِّداءَ على أحَدِ الشِّقَّينِ ويُخلِّي الآخَرَ، وهو فِعلُ الأغثارِ مِن عَوامِّ النَّاسِ. وقد أبدَعَ عَوامُّ النَّاسِ في أواخِرِ الزَّمانِ لُبسَ الخَواتيمِ في اليَدَينِ، وليسَ ذلك مِن جُملةِ هذا البابِ، ولا هو بحَميدٍ في مَذاهِبِ أهلِ الفَضلِ والنُّبلِ، ورُبَّما ظاهَرَ بَعضُهم بلُبسِ العَدَدِ مِنَ الخَواتيمِ زَوجَينِ زَوجَينِ، وكُلُّ ذلك مَكروهٌ ومُستَهجَنٌ في حَميدِ العاداتِ ورَضيِّ الشَّمائِلِ ولُبسِ العِليةِ مِنَ النَّاسِ. وفي الجُملةِ فليسَ يُستَحسَنُ أن يَتَخَتَّمَ الرَّجُلُ إلَّا بخاتَمٍ واحِدٍ مَنقوشٍ، فيُلبَسُ للحاجةِ إلى نَقشِه، لا لحُسنِه وبَهجةِ لَونِه). ((أعلام الحديث)) (3/ 2149، 2150). .
وقال ابنُ هُبَيرةَ: (في هذا الحَديثِ كَراهيةُ أن يَمشيَ الرَّجُلُ في نَعلٍ واحِدةٍ، وذلك مُنافٍ لاستِعمالِ العَدلِ بَينَ الرِّجلَينِ، والعَدلُ في ذلك أن يُنعِلَهما مَعًا أو يُحْفيَهما مَعًا، ولأنَّ الشَّيطانَ قد يَمشي في نَعلٍ واحِدةٍ) [589] ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (6/ 293). .
وقال النَّوويُّ في فِقهِ الحَديثِ: (فيه ثَلاثُ مَسائِلَ؛ أحَدُها: يُستَحَبُّ البَداءةُ باليُمنى في كُلِّ ما كان مِن بابِ التَّكريمِ والزِّينةِ والنَّظافةِ ونَحوِ ذلك، كلُبسِ النَّعلِ والخُفِّ والمَداسِ، والسَّراويلِ والكُمِّ، وحَلقِ الرَّأسِ وتَرجيلِه، وقَصِّ الشَّارِبِ ونَتفِ الإبطِ، والسِّواكِ والاكتِحالِ، وتَقليمِ الأظفارِ، والوُضوءِ والغُسلِ والتَّيَمُّمِ، ودُخولِ المَسجِدِ، والخُروجِ مِنَ الخَلاءِ، ودَفعِ الصَّدَقةِ وغَيرِها مِن أنواعِ الدَّفعِ الحَسَنةِ، وتَناوُلِ الأشياءِ الحَسَنةِ، ونَحوِ ذلك.
الثَّانيةُ: يُستَحَبُّ البَداءةُ باليَسارِ في كُلِّ ما هو ضِدُّ السَّابقِ في المَسألةِ الأولى، فمِن ذلك خَلعُ النَّعلِ والخُفِّ والمَداسِ والسَّراويلِ والكُمِّ، والخُروجِ مِنَ المَسجِدِ، ودُخولِ الخَلاءِ، والاستِنجاءِ، وتَناوُلِ أحجارِ الاستِنجاءِ، ومَسِّ الذَّكَرِ، والامتِخاطِ والاستِنثارِ، وتَعاطي المُستَقذَراتِ وأشباهِها.
الثَّالثةُ: يُكرَهُ المَشيُ في نَعلٍ واحِدةٍ أو خُفٍّ واحِدٍ أو مَداسٍ واحِدٍ لا لعُذرٍ، ودَليلُه هذه الأحاديثُ.
قال العُلَماءُ: وسَبَبُه أنَّ ذلك تَشويهٌ ومُثْلةٌ ومُخالِفٌ للوَقارِ، ولأنَّ المُنتَعِلةَ تَصيرُ أرفَعَ مِنَ الأُخرى فيَعسُرُ مَشيُه، ورُبَّما كان سَبَبًا للعِثارِ...
واذا انقَطَعَ شِسعُه ونَحوُه فليَخلَعْهما، ولا يَمشي في الأُخرى وحدَها حتَّى يُصلِحَها ويُنعِلَها كَما هو نَصٌّ في الحَديثِ) [590] ((شرح مسلم)) (14/ 74، 75). .
وحُكِي الإجماعُ على كراهةِ المشيِ في نَعْلٍ واحدةٍ [591] قال النووي: (يُكْرَهُ المشْيُ في نَعْلٍ واحِدَةٍ أوْ خُفٍّ واحِدٍ ونحوِه لغيرِ عُذْرٍ صَرَّح به صاحبُ الإبانةِ وآخرونَ ولا خِلافَ فيه). ((المجموع شرح المهذب)) (4/ 466). ويُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (14/ 75). قال العراقي بعدَ أنْ ذكَر حديثَ أبي هريرةَ: (فيه النَّهْيُ عن المَشْيِ في نَعْلٍ واحِدةٍ وذلك على طريقِ الكراهةِ دونَ التَّحريمِ كما نقَل الإجماعَ على ذلك غيرُ واحدٍ منهم النَّوَوِيُّ وخالَف فيه ابنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ فقال: ولا يَحِلُّ المشيُ في خُفٍّ واحدٍ ولا نعلٍ واحِدَةٍ). ((طرح التثريب)) (8/ 134). ويُنظر: ((المحلى بالآثار)) لابن حزم (1/ 337). .

انظر أيضا: