موسوعة الآداب الشرعية

ثامنًا: التَّواضُعُ في الثِّيابِ


يُستَحَبُّ التَّواضُعُ في الثِّيابِ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
عن أبي أُمامةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((ذكَرَ أصحابُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا عِندَه الدُّنيا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ألا تَسْمَعونَ، ألا تَسْمَعونَ، إنَّ البَذاذةَ [940] البَذاذةُ: رَثاثةُ الهَيئةِ. والمرادُ بها هنا: تَركُ التَّرَفُّهِ والتَّنَطُّعِ في اللِّباسِ، والتَّواضُعُ فيه مع القُدرةِ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/368). مِن الإيمانِ، إنَّ البَذاذةَ مِن الإيمانِ)) [941] أخرجه أبو داود (4161) واللفظ له، وابن ماجه (4118)، وأحمد (39/493). حسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4161)، وحسنه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2074). وقد ذهب إلى تصحيحه ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (10/381). .
قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (أرادَ به اطِّراحَ الشَّهوةِ في المَلبَسِ والإسرافِ فيه الدَّاعي إلى التَّبَختُرِ والبَطَرِ) [942] ((الاستذكار)) (1/ 330). .
وقال ابنُ بَطَّالٍ: (والمُرادُ بهذا الحَديثِ -واللهُ أعلمُ- بَعضُ الأوقاتِ، ولم يَأمُرْ بلُزومِ البَذاذةِ في جَميعِ الأحوالِ لتَتَّفِقَ الأحاديثُ، وقد أمَر اللَّهُ تعالى بأخذِ الزِّينةِ عِندَ كُلِّ مَسجِدٍ، وأمر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باتِّخاذِ الطِّيبِ، وحُسنِ الهَيئةِ واللِّباسِ في الجُمَعِ، وما شاكَل ذلك مِنَ المَحافِلِ) [943] ((شرح صحيح البخارى)) لابن بطال (9/ 164). .
فائِدةٌ: مَتى يُحمَدُ مَن تَواضَع في لباسِه ومَتى يُذَمُّ
كان بَعضُ الصَّالحينَ يَلبَسُ ثيابَ المَساكينِ مَعَ الغِنى تَواضُعًا للهِ عَزَّ وجَلَّ، وبُعدًا مِنَ الكِبرِ كَما كان يَفعَلُه الخُلفاءُ الرَّاشِدونَ الأربَعةُ، وبَعدَهم عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزيزِ، وكذلك كان جَماعةٌ مِنَ الصَّحابةِ، مِنهم: عَبدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ، وعَبدُ اللَّهِ بنُ عَمرِو بنِ العاصِ، وغَيرُهما رَضِيَ اللهُ عنهم، ورُوِي أنَّ أبا بَكرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللهُ عنه كان يُنشِدُ:
إذا أرَدتَ شَريفَ النَّاسِ كُلِّهمُ
فانظُرْ إلى مَلِكٍ في زيِّ مِسكينِ
ذاكَ الذي حَسُنَت في النَّاسِ سيرَتُه
وذاكَ يَصلُحُ للدُّنيا وللدِّينِ
وكان عليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه يُعاتَبُ على لباسِه، فيَقولُ: هو أبعَدُ مِنَ الكِبرِ، وأجدَرُ أن يَقتَديَ بي المُسلمُ. وعوتِبَ عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزيزِ على ذلك، فقال: إنَّ أفضَلَ القَصدِ عِندَ الجِدَةِ. يَعني: أفضَلُ ما اقتَصَدَ الرَّجُلُ في لباسِه مَعَ قُدرَتِه ووِجدانِه.
وفي سُنَنِ أبي داودَ وغَيرِه عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: "البَذاذةُ مِنَ الإيمانِ" يَعني: التَّقَشُّفَ... وإنَّما يُذَمُّ مَن تَرَك اللِّباسَ مَعَ قُدرَتِه عليه بُخلًا على نَفسِه، أو كِتمانًا لنِعمةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ [944] يُنظر: ((اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى)) لابن رجب (ص: 107). .
قال ابنُ القيمِ: (لُبسُ الدَّنيءِ مِنَ الثِّيابِ يُذَمُّ في مَوضِعٍ، ويُحمَدُ في مَوضِعٍ؛ فيُذَمُّ إذا كان شُهرةً وخُيَلاءَ، ويُمدَحُ إذا كان تَواضُعًا واستِكانةً، كما أنَّ لُبسَ الرَّفيعِ مِنَ الثِّيابِ يُذَمُّ إذا كان تَكَبُّرًا وفَخرًا وخُيَلاءَ، ويُمدَحُ إذا كان تَجَمُّلًا وإظهارًا لنِعمةِ اللهِ؛ ففي "صحيحِ مُسلِمٍ" عن ابنِ مَسعودٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لا يَدخُلُ الجَنَّةَ مَن كان في قَلبِه مِثقالُ حَبَّةِ خَردَلٍ مِن كِبرٍ، ولا يَدخُلُ النَّارَ مَن كان في قَلبِه مِثقالُ حَبَّةِ خَردَلٍ مِن إيمانٍ، فقال رَجُلٌ: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي أحِبُّ أن يَكونَ ثَوبي حَسَنًا ونَعلي حَسَنةً، أفمِنَ الكِبرِ ذاكَ؟ فقال: لا، إنَّ اللَّهَ جَميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، الكِبرُ بَطَرُ الحَقِّ وغَمطُ النَّاسِ» [945] أخرجه مسلم (91)، ولفظُه: عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((لا يَدخُلُ الجَنَّةَ مَن كان في قَلبِه مِثقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبرٍ، قال رَجُلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أن يَكونَ ثَوبُه حَسَنًا ونَعلُه حَسَنةً، قال: إنَّ اللَّهَ جَميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، الكِبرُ بَطَرُ الحَقِّ، وغَمطُ النَّاسِ)). وفي رِوايةٍ: ((لا يَدخُلُ النَّارَ أحَدٌ في قَلبِه مِثقالُ حَبَّةِ خَردَلٍ مِن إيمانٍ، ولا يَدخُلُ الجَنَّةَ أحَدٌ في قَلبِه مِثقالُ حَبَّةِ خَردَلٍ مِن كِبرياءَ)). [946] ((زاد المعاد)) (1/ 141). .

انظر أيضا: