موسوعة الآداب الشرعية

رابعًا: النِّيَّةُ والاحتِسابُ في الوَطءِ


يُستَحَبُّ أن يَنويَ بالجِماعِ إعفافَ نَفسِه وزَوجِه، وابتِغاءَ الولَدِ.
الدَّليلُ على ذلك مِن السُّنَّةِ والآثارِ:
أ- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه، ((أنَّ ناسًا مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالوا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا رَسولَ اللهِ، ذَهَبَ أهلُ الدُّثورِ [1401] الدُّثورُ: الأموالُ الكَثيرةُ، واحِدُها: دَثْرٌ. يُنظر: ((غريب الحديث)) للقاسم بن سلَّام (5/ 511). بالأُجورِ، يُصَلُّونَ كما نُصَلِّي، ويَصومونَ كما نَصومُ، ويَتَصَدَّقونَ بفُضولِ أموالِهم! قال: أوَليس قد جَعَلَ اللَّهُ لكم ما تَصَّدَّقونَ؟ إنَّ بكُلِّ تَسبيحةٍ صَدَقةً، وكُلِّ تَكبيرةٍ صَدَقةً، وكُلِّ تحميدةٍ صَدَقةً، وكُلِّ تهليلةٍ صَدَقةً، وأمرٌ بالمَعروفِ صَدَقةٌ، ونَهيٌ عن مُنكَرٍ صَدَقةٌ، وفي بُضعِ أحَدِكم صَدَقةٌ. قالوا: يا رَسولَ اللهِ، أيَأتي أحَدُنا شَهوَتَه ويَكونُ له فيها أجرٌ؟! قال: أرَأيتُم لو وضَعَها في حَرامٍ أكانَ عليه فيها وِزرٌ؟ فكذلك إذا وضَعَها في الحَلالِ، كان له أجرٌ)) [1402] أخرجه مسلم (1006). .
قال النَّوويُّ: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «وفي بُضعِ أحَدِكُم صَدَقةٌ» هو بضَمِّ الباءِ، ويُطلقُ على الجِماعِ، ويُطلقُ على الفَرجِ نَفسِه، وكِلاهما تَصِحُّ إرادَتُه هنا، وفي هذا دَليلٌ على أنَّ المُباحاتِ تَصيرُ طاعاتٍ بالنِّيَّاتِ الصَّادِقاتِ؛ فالجِماعُ يَكونُ عِبادةً إذا نَوى به قَضاءَ حَقِّ الزَّوجةِ ومُعاشَرَتَها بالمَعروفِ الذي أمَرَ اللَّهُ تعالى به، أو طَلَبَ ولَدٍ صالحٍ، أو إعفافَ نَفسِه أو إعفافَ الزَّوجةِ ومَنعَهما جَميعًا مِنَ النَّظَرِ إلى حَرامٍ، أوِ الفِكرِ فيه أوِ الهَمِّ به، أو غَيرَ ذلك مِنَ المَقاصِدِ الصَّالحةِ) [1403] ((شرح مسلم)) (7/ 92). .
2- عن جابرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: ((كُنتُ مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غَزاةٍ، فأبطَأ بي جَمَلي وأعيا [1404] أعيا: أي: تَعِبَ وكَلَّ وعَجَز عن الذَّهابِ إلى مَقصَدِه لعِيِّه وعَجزِه عن المشيِ. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (11/ 215)، ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (4/ 35). ، فأتى عليَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: جابرٌ؟ فقُلتُ: نَعَم، قال: ما شَأنُك؟ قُلتُ: أبطَأ عليَّ جَمَلي وأعيا، فتَخَلَّفتُ، فنَزَلَ يَحجُنُه بمِحجَنِه [1405] يَحجُنُه: أي: يَجذِبُه ويُحَرِّكُه للسَّيرِ ويَنخَسُه ويَتَناولُه بمِحجَنِه، أي: بعَصاه المُعوجَّةِ مِن رَأسِها، كالمِخطَفِ والصَّولجانِ، وهو مُعَدٌّ لأن يَلتَقِطَ به الرَّاكِبُ ما يَسقُطُ مِنه. يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (2/ 1022)، مطالع الأنوار)) لابن قرقول (2/ 237)، ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (4/ 35). ، ثُمَّ قال: اركَبْ، فرَكِبتُ، فلَقد رَأيتُه أكُفُّه عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! قال: تَزَوَّجتَ؟ قُلتُ: نَعَم، قال: بِكرًا أم ثَيِّبًا؟ قُلتُ: بَل ثَيِّبًا، قال: أفلا جاريةً تُلاعِبُها وتُلاعِبُك؟ قُلتُ: إنَّ لي أخَواتٍ، فأحبَبتُ أن أتَزَوَّجَ امرَأةً تَجمَعُهنَّ وتَمشُطُهنَّ وتَقومُ عليهنَّ، قال: أمَا إنَّك قادِمٌ، فإذا قدِمتَ فالكَيسَ الكَيسَ! ثُمَّ قال: أتَبيعُ جَمَلَك؟ قُلتُ: نَعَم، فاشتَراه مِنِّي بأوقيَّةٍ، ثُمَّ قدِمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَبلي، وقَدِمتُ بالغَداةِ، فجِئْنا إلى المَسجِدِ فوجَدتُه على بابِ المَسجِدِ، قال: آلآنَ قَدِمتَ؟! قُلتُ: نَعَم، قال: فدَع جَمَلَك، فادخُلْ، فصَلِّ رَكعَتَينِ، فدَخَلتُ فصَلَّيتُ، فأمَرَ بلالًا أن يَزِنَ له أوقيَّةً، فوزَنَ لي بلالٌ فأرجَحَ لي في الميزانِ، فانطَلَقتُ حَتَّى ولَّيتُ، فقال: ادعُ لي جابرًا، قُلتُ: الآنَ يَرُدُّ علَيَّ الجَمَلَ! ولَم يَكُنْ شَيءٌ أبغَضَ إليَّ مِنه! قال: خُذْ جَمَلَك ولَك ثَمَنُه)) [1406] أخرجه البخاري (2097) واللفظ له، ومسلم (715). .
وفي رِوايةٍ عن جابرٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((كُنتُ مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غَزوةٍ، فلَمَّا قَفَلْنا تَعَجَّلتُ على بَعيرٍ قُطوفٍ [1407] القَطوفُ مِنَ الدَّوابِّ والإبِلِ: البَطيءُ المتقارِبُ الخَطوِ. يُنظر: ((العين)) للخليل (5/ 105). ، فلَحِقَني راكِبٌ مِن خَلفي، فالتَفَتُّ فإذا أنا برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ما يُعجِلُك؟ قُلتُ: إنِّي حَديثُ عَهدٍ بعُرسٍ، قال: فبِكرًا تَزَوَّجتَ أم ثَيِّبًا؟ قُلتُ: بَل ثَيِّبًا، قال: فهَلَّا جاريةً تُلاعِبُها وتُلاعِبُك؟ قال: فلَمَّا قَدِمنا ذَهَبنا لنَدخُلَ، فقال: أمهِلوا، حَتَّى تَدخُلوا لَيلًا -أي عِشاءً- لكَي تَمتَشِطَ الشَّعثةُ، وتَستَحِدَّ المُغيبةُ. وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: الكَيسَ الكَيسَ يا جابِرُ)) يَعني: الولَدَ [1408] أخرجها البخاري (5245). .
هذا الحَديثُ تَرجَمَ له البُخاريُّ: (بابُ طَلَبِ الولَدِ) [1409] يُنظر: ((صحيح البخاري)) (7/ 39). .
وقال المازَريُّ: (قال ابنُ الأعرابيِّ: الكَيسُ الجِماعُ، والكَيسُ العَقلُ، فكَأنَّه جَعَلَ طَلَبَ الولَدِ عَقلًا) [1410] ((المعلم بفوائد مسلم)) (2/ 182). وقال النَّوويُّ: (المُرادُ حَثُّه على ابتِغاءِ الولَدِ). ((شرح مسلم)) (10/ 55). .
وقال ابنُ قُرْقُولٍ: ("الكَيسُ الكَيسُ" يُريدُ الولَدَ وطَلَبَ النَّسلِ، يُقالُ: كاسَ الرَّجُلُ في عَمَلِه: حَذِقَ، وكاسَ: ولَدَ كَيِّسًا. وقال الكِسائيُّ: أكاسَ: وُلِدَ له كَيِّسٌ) [1411] ((مطالع الأنوار)) (3/ 397). وقال ابنُ الجَوزيِّ: (الكَيسُ: العَقلُ، وكأنَّه أمَرَه باستِعمالِ الحِلمِ والمُداراةِ للأهلِ، وذلك مُقتَضى العَقلِ. وقال ابنُ الأعرابيِّ: الكَيسُ: الجِماعُ، والكَيسُ: العَقلُ. فكأنَّه جَعَلَ طَلَبَ الولَدِ بالجِماعِ عَقلًا، وكَنَّى به عَنِ الجِماعِ. وكذلك قال أبو عُبَيدٍ: ذَهَبَ بهذا إلى طَلَبِ الولَدِ والنِّكاحِ. وقال أبو سُلَيمانَ: ويحتملُ أن يَكونَ أمرَه بالتَّوقِّي والحَذَرِ مِن إصابةِ أهَلِه إذا كانت حائِضًا لطُولِ غَيبَتِه). ((كشف المشكل)) (3/ 24). ويُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (2/ 1022، 1023). .
ب- من الآثارِ
1- عن عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّه تَزَوَّجَ امرَأةً فأصابَها شَمطاءَ [1412] الشَّمَطُ: بَياضُ شَعرِ الرَّأسِ يُخالطُ سَوادَه، والرَّجُلُ أشمَطُ، وقد شَمِطَ بالكَسرِ يَشمَطُ شَمَطًا، والمَرأةُ شَمطاءُ. وقيل: الشَّمَطُ في الرَّجُلِ: شَيبُ اللِّحيةِ، وهو في المَرأةِ: شَيبُ الرَّأسِ. يُنظر: ((العين)) للخليل (6/ 240)، ((الصحاح)) للجوهري (3/ 1138). فطَلَّقَها وقال: ما أقرَبُكُنَّ شَهوةً، ولَكِنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((تَزَوَّجوا الوَلودَ الوَدودَ؛ فإنِّي مُكاثِرٌ بكُمُ الأمَمَ يَومَ القيامةِ)) [1413] أخرجه الخطيب في ((تاريخ بغداد)) (12/377). جوَّد إسنادَه الهيتمي المكي في ((الإفصاح)) (35). .
وفي رِوايةٍ: (ما آتي النِّساءَ لشَهوةٍ، ولَولا الولَدُ ما آتي النِّساءَ) [1414] أخرجه ابن أبي الدنيا في ((النفقة على العيال)) (390). .
2- عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه، قال: (إنِّي لأُكرِه نَفسي على الجِماعِ؛ كَي تَخرُجَ مِنِّي نَسَمةٌ تُسَبِّحُ اللَّهَ تعالى) [1415] أخرجه ابن أبي الدنيا في ((النفقة على العيال)) (392). .
وفي لَفظٍ: (واللَّهِ إنِّي لأُكرِهُ نَفسي على الجِماعِ؛ رَجاءَ أن يُخرِجَ اللهُ مِنِّي نَسَمةً تُسَبِّحُ اللَّهَ) [1416] أخرجه البيهقي (13842). .
فَوائِدُ:
1- قال الغَزاليُّ عَنِ النِّكاحِ: (فيه فوائِدُ خَمسةٌ: الولَدُ، وكَسرُ الشَّهوةِ، وتَدبيرُ المَنزِلِ، وكَثرةُ العَشيرةِ، ومُجاهَدةُ النَّفسِ بالقيامِ بهنَّ.
الفائِدةُ الأولى: الولَدُ، وهو الأصلُ، ولَه وُضِع النِّكاحُ، والمَقصودُ إبقاءُ النَّسلِ وأن لا يَخلوَ العالمُ عن جِنسِ الإنسِ، وإنَّما الشَّهوةُ خُلِقَت باعِثةً مُستَحِثَّةً، كالموكَّلِ بالفَحلِ في إخراجِ البَذرِ، وبالأُنثى في التَّمكينِ مِنَ الحَرثِ تَلَطُّفًا بهما في السِّياقةِ إلى اقتِناصِ الولَدِ بسَبَبِ الوِقاعِ، كالتَّلَطُّفِ بالطَّيرِ في بَثِّ الحَبِّ الذي يَشتَهيه ليُساقَ إلى الشَّبَكةِ، وكانتِ القُدرةُ غَيرَ قاصِرةٍ عَنِ اختِراعِ الأشخاصِ ابتِداءً مِن غَيرِ حِراثةٍ وازدِواجٍ، ولَكِنَّ الحِكمةَ اقتَضَت تَرتيبَ المُسَبَّباتِ على الأسبابِ، مَعَ الاستِغناءِ عَنها؛ إظهارًا للقُدرةِ، وإتمامًا لعَجائِبِ الصَّنعةِ، وتَحقيقًا لما سَبَقَت به المَشيئةُ وحَقَّت به الكَلمةُ وجَرى به القَلَمُ.
وفي التَّوصُّلِ إلى الولَدِ قُربةٌ مِن أربَعةِ أوجُهٍ، هيَ الأصلُ في التَّرغيبِ فيه عِندَ الأمنِ مِن غَوائِلِ الشَّهوةِ، حَتَّى لَم يُحِبَّ أحَدُهم أن يَلقى اللَّهَ عَزَبًا [1417] عَنِ ابنِ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: (لَو لَم أعِشْ -أو لَم أكُنْ- في الدُّنيا إلَّا عَشرًا، لَأحبَبتُ أن يَكونَ عِندي فيهنَّ امرأةٌ). رواه ابن أبي شيببة في ((المصنف)) (3/ 453). وفي رِوايةٍ: (لَو لَم يَبقَ مِنَ الدَّهرِ إلَّا لَيلةٌ لأحبَبتُ أن يَكونَ لي في تلك اللَّيلةِ امرأةٌ). رواه ابن أبي شيببة في ((المصنف)) (3/ 454). :
الأوَّلُ: مُوافَقةُ مَحبَّةِ اللَّهِ بالسَّعيِ في تَحصيلِ الولَدِ لإبقاءِ جِنسِ الإنسانِ.
والثَّاني: طَلَبُ مَحَبَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في التَّكثيرِ مِن مُباهاتِه.
والثَّالِثُ: طَلَبُ التَّبَرُّكِ بدُعاءِ الولَدِ الصَّالحِ بَعدَه.
والرَّابعُ: طَلَبُ الشَّفاعةِ بمَوتِ الولَدِ الصَّغيرِ إذا ماتَ قَبلَه) [1418] ((إحياء علوم الدين)) (2/ 24). .
2- عن عَمرِو بنِ دينارٍ، قال: (أرادَ ابنُ عُمَرَ أن لا يَتَزَوَّجَ، فقالت له حَفصةُ: أي أخي، لا تَفعَلْ، تَزَوَّجْ؛ فإن وُلِدَ لَك وَلدٌ فماتوا كانوا لَك أجرًا، وإن عاشوا دَعَوا اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ لَك) [1419] أخرجه سعيد بن منصور في ((السنن)) (508). .
3- قال ابن الجوزي: (وقد طَلَب الأنبياءُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ الأولادَ، فقال تعالى حكايةً عنهم: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران: 38] ، رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم: 40] إلى غيرِ ذلك من الآياتِ، وتسَبَّب الصَّالحون إلى وجودِهم، ورُبَّ جِماعٍ حدَث منه وَلَدٌ مِثلُ الشَّافِعيِّ وأحمدَ بنِ حَنبَلٍ، فكان خيرًا من عبادةِ ألفِ سَنةٍ، وقد جاءت الأخبارُ بإثابةِ المُباضَعةِ والإنفاقِ على الأولادِ والعيالِ، ومَن يموتُ له وَلَدٌ ومَن يُخَلِّفُ وَلَدًا بعدَه، فمن أعرَضَ عن طلَبِ الأولادِ والتَّزوُّجِ فقد خالف المسنونَ والأفضَلَ، وحُرِم أجرًا جسيمًا) [1420] ((تلبيس إبليس)) (ص: 263، 264) .

انظر أيضا: