موسوعة الآداب الشرعية

فوائِدُ ومَسائِلُ


حكمُ التَّداوي
اختَلَف أهلُ العِلمِ في حُكمِ التَّداوي على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: يُباحُ التَّداوي [2323] وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: الحَنَفيَّةِ، والمالكيَّةِ، والحَنابِلةِ. ينظر: ((الهداية)) للمرغيناني (4/381)، ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (2/490)، ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (2/194). .
القَولُ الثَّاني: يُستَحَبُّ التَّداوي [2324] وهو مَذهَبُ الشَّافِعيَّةِ، وقَولُ ابنِ بازٍ. ينظر: ((المجموع)) للنووي (5/106)، ((فتاوى نور على الدرب)) لابن باز (4/23) (21/437). يُنظر بَيانُ ذلك مَعَ أدِلَّتِه في ((المَوسوعة الفِقهيَّة بمَوقِعِ الدُّرَرِ السَّنيَّة)) https://dorar.net/feqhia .
قولُ المريضِ: أنا شَديدُ الوجَعِ ونحو ذلك
يَجوزُ للمَريضِ أن يَقولَ: أنا شَديدُ الوجَعِ، أو مَوعوكٌ، أو أرى إساءةً ونَحوَ ذلك، ولا كَراهةَ في ذلك إذا لم يَكُنْ شَيءٌ مِن ذلك على سَبيلِ التَّسَخُّطِ وإظهارِ الجَزَعِ [2325] يُنظر: ((رياض الصالحين)) للنووي (ص: 287)، ((الأذكار)) للنووي (ص: 137). وقد قال البخاريُّ في كِتابِ المَرضى مِن ((صحيحِه)): (بابُ قَولِ المَريضِ: إنِّي وَجِعٌ، أو وا رَأساه، أوِ اشتَدَّ بي الوجَعُ. وقَولِ أيُّوبَ عليه السَّلامُ: أَنِّي مَسَّنيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء: 83] ). ((صحيح البخاري)) (7/ 119). وفي بَعضِ نَسخِ البخاريِّ: (بابُ ما رُخِّصَ للمَريضِ أن يَقولَ: إنِّي وَجِعٌ...). يُنظر: ((صحيح البخاري- رواية أبي ذر الهروي)) (3/ 350)، ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (8/ 351). قال ابنُ حَجَرٍ: (وأمَّا قَولُ أيُّوبَ عليه السَّلامُ، فاعتَرَضَ ابنُ التِّينِ ذِكرَه في التَّرجَمةِ، فقال: هذا لا يُناسِبُ التَّبويبَ؛ لأنَّ أيُّوبَ إنَّما قاله داعيًا ولم يَذكُره للمَخلوقينَ. قُلتُ: لعَلَّ البخاريَّ أشارَ إلى أنَّ مُطلقَ الشَّكوى لا يَمنَعُ رَدًّا على مَن زَعَمَ مِنَ الصُّوفيَّةِ أنَّ الدُّعاءَ بكَشفِ البَلاءِ يَقدَحُ في الرِّضا والتَّسليمِ، فنَبَّه على أنَّ الطَّلبَ مِنَ اللهِ ليسَ مَمنوعًا بَل فيه زيادةُ عِبادةٍ؛ لِما ثَبَتَ مِثلُ ذلك عنِ المَعصومِ، وأثنى اللهُ عليه بذلك، وأثبَتَ له اسمَ الصَّبرِ مَعَ ذلك... فكَأنَّ مُرادَ البخاريِّ أنَّ الذي يَجوزُ مِن شَكوى المَريضِ ما كان على طَريقِ الطَّلَبِ مِنَ اللهِ، أو على غَيرِ طَريقِ التَّسَخُّطِ للقَدَرِ والتَّضَجُّرِ. واللهُ أعلمُ. قال القُرطُبيُّ: اختَلف النَّاسُ في هذا البابِ، والتَّحقيقُ أنَّ الألمَ لا يَقدِرُ أحَدٌ على رَفعِه، والنُّفوسُ مَجبولةٌ على وِجدانِ ذلك، فلا يُستَطاعُ تَغييرُها عَمَّا جُبِلَت عليه، وإنَّما كُلِّف العَبدُ أن لا يَقَعَ مِنه في حالِ المُصيبةِ ما له سَبيلٌ إلى تَركِه، كالمُبالغةِ في التَّأوُّهِ والجَزَعِ الزَّائِدِ، كَأنَّ مَن فَعَل ذلك خَرَجَ عن مَعاني أهلِ الصَّبرِ، وأمَّا مُجَرَّدُ التَّشَكِّي فليسَ مَذمومًا حتَّى يَحصُلَ التَّسَخُّطُ للمَقدورِ، وقدِ اتَّفقوا على كَراهةِ شَكوى العَبدِ رَبَّه، وشَكواه إنَّما هو ذِكرُه للنَّاسِ على سَبيلِ التَّضَجُّرِ. واللهُ أعلمُ). ((فتح الباري)) (10/ 124). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ:
أ- من الكتابِ
قال تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ [2326] قال ابنُ تيميَّةَ في قَولِه تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء: 83] : (وصَف نَفسَه ووصَف رَبَّه بوصفٍ يَتَضَمَّنُ سُؤالَ رَحمَتِه بكَشفِ ضُرِّه، وهيَ صيغةُ خَبَرٍ تَضَمَّنَتِ السُّؤالَ. وهذا مِن بابِ حُسنِ الأدَبِ في السُّؤالِ والدُّعاءِ؛ فقَولُ القائِلِ لمَن يُعَظِّمُه ويَرغَبُ إليه: أنا جائِعٌ، أنا مَريضٌ، حُسنُ أدَبٍ في السُّؤالِ، وإن كان في قَولِه: أطعِمْني وداوِني ونَحوِ ذلك مِمَّا هو بصيغةِ الطَّلَبِ طَلَبٌ جازِمٌ مِنَ المَسئولِ، فذاكَ فيه إظهارُ حالِه، وإخبارُه على وَجهِ الذُّلِّ والافتِقارِ المُتَضَمِّنِ لسُؤالِ الحالِ، وهذا فيه الرَّغبةُ التَّامَّةُ والسُّؤالُ المَحضُ بصيغةِ الطَّلَبِ). ((الفتاوى الكبرى)) (5/ 224). وقال ابنُ القَيِّمِ: (جَمَعَ في هذا الدُّعاءِ بَينَ حَقيقةِ التَّوحيدِ وإظهارِ الفَقرِ والفاقةِ إلى رَبِّه، ووُجودِ طَعمِ المَحَبَّةِ في المُتَمَلَّقِ له، والإقرارِ له بصِفةِ الرَّحمةِ وأنَّه أرحَمُ الرَّاحِمينَ، والتَّوسُّلِ إليه بصِفاتِه سُبحانَه وشِدَّةِ حاجَتِه، وهو فقرُه، ومَتى وجَدَ المُبتَلى هذا كشف عنه بَلواه). ((الفوائد)) (ص: 201). وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء: 83-84] .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عنِ القاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ، قال: قالت عائِشةُ: ((وا رَأساه... فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: بَل أنا وا رَأساه)) [2327] أخرجه البخاري (5666) .
2- عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((دَخَلتُ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يُوعَكُ [2328] الوَعكُ: الألمُ، وقيل: ألمُ الحُمَّى، وقيل: تَمريغُ الحُمَّى، يُقالُ: وعكَته الحُمَّى تَعِكُه وَعكًا، فهو مَوعوكٌ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (9/ 581)، ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (6/ 544). ، فمَسِسْتُه بيَدي، فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّك لتُوعَكُ وَعكًا شَديدًا! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أجَلْ، إنِّي أُوعَكُ كما يُوعَكُ رَجُلانِ مِنكُم. قال: فقُلتُ: ذلك أنَّ لك أجرَينِ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أجَلْ، ثُمَّ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما مِن مُسلمٍ يُصيبُه أذًى مِن مَرَضٍ فما سِواه إلَّا حَطَّ اللهُ به سَيِّئاتِه، كَما تَحُطُّ الشَّجَرةُ وَرَقَها)) [2329] أخرجه البخاري (5660)، ومسلم (2571) واللفظ له. .
3- عن كَعبِ بنِ عُجرةَ رَضِيَ اللهُ عنه: ((مَرَّ بي النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا أوقِدُ تَحتَ القِدرِ، فقال: أيُؤذيك هَوامُّ رَأسِك؟ قُلتُ: نَعَم، فدَعا الحَلَّاقَ فحَلقَه، ثُمَّ أمَرَني بالفِداءِ)) [2330] أخرجه البخاري (5665) واللفظ له، ومسلم (1201). .
4- عن سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((جاءَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعودُني مِن وجَعٍ اشتَدَّ بي، زَمَنَ حَجَّةِ الوداعِ، فقُلتُ: بَلَغَ بي ما تَرى، وأنا ذو مالٍ، ولا يَرِثُني إلَّا ابنةٌ لي، أفأتَصَدَّقُ بثُلُثَي مالي؟...)) الحَديث [2331] أخرجه البخاري (5668) واللفظ له، ومسلم (1628). .
5- عن فاطِمةَ الخُزاعيَّةِ، قالت: ((عادَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم امرَأةً مِنَ الأنصارِ وهيَ وَجِعةٌ، فقال لها: كَيف تَجِدينَك؟ قالت: بخَيرٍ، إلَّا أنَّ أُمَّ مِلدَمٍ [2332] أمُّ مِلدَمٍ: كُنيةُ الحُمَّى، والعَرَبُ تَقولُ: قالتِ الحُمَّى: أنا أمُّ مِلدَم، آكُلُ اللَّحمَ وأمُصُّ الدَّم. يُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (14/ 95). قد بَرَّحَت [2333] بَرَّحَ به الأمرُ تَبريحًا، أي: جَهدَه وشَقَّ عليه وأضَرَّ به ولقيَ مِنه شِدَّةً، ويُقالُ: لَقِيتُ مِنه بَرْحًا بارِحًا، أي: شِدَّةً شَديدةٍ، وبُرَحاءُ الحُمَّى وغَيرِها: شِدَّةُ الأذى. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (1/ 355)، ((الغريبين)) للهروي (1/ 162)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (8/ 234). بي -يَعني: الحُمَّى-، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اصبري؛ فإنَّها تُذهِبُ خَبَثَ ابنِ آدَمَ كَما يُذهِبُ الكيرُ خَبَثَ الحَديدِ)) [2334] أخرجه عبد الرزاق (20306)، والطبراني (24/405) (984) واللفظ له، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (9380) حسنه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (3440) .
أنينُ المريضِ
 لا يُكرَهُ الأنينُ للمَريضِ [2335] نَصَّ عليه الشَّافِعيَّةُ، وهو رِوايةٌ عن أحمَدَ، واختارَه ابنُ بازٍ. يُنظر: ((المجموع)) للنووي (5/128)، ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص 271)، ((فتاوى نور على الدرب)) لابن باز (13/428). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
عنِ القاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ، قال: ((قالت عائِشةُ رَضِيَ اللهُ عنه: وا رَأساه! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ذاكِ لو كان وأنا حَيٌّ فأستَغفِرَ لك وأدعوَ لكِ. فقالت عائِشةُ رَضِيَ اللهُ عنه: واثُكْلِياه [2336] واثُكْلِياه: بَعدَ الألفِ هاءٌ للنُّدبةِ، وأصلُ الثُّكلِ: فَقدُ الوَلَدِ، أو مَن يَعِزُّ على الفاقِدِ، وليسَت حَقيقَتُه هنا مُرادةً، بَل هو كَلامٌ كان يَجري على ألسِنَتِهم عِندَ حُصولِ المُصيبةِ أو تَوقُّعِها. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/125). ! واللهِ إنِّي لأظُنُّك تُحِبُّ مَوتي، ولو كان ذاكَ لظَلِلتَ آخِرَ يَومِك مُعَرِّسًا [2337] مُعَرِّسًا: يُقالُ: أعرَس وعَرَّس: إذا بَنى على زَوجَتِه، ثُمَّ استُعمِل في كُلِّ جِماعٍ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/125). ببَعضِ أزواجِك، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: بَل أنا وا رَأساه! لقد هَمَمتُ -أو أرَدتُ- أن أُرسِلَ إلى أبي بَكرٍ وابنِه وأعهَدَ؛ أن يَقولَ القائِلونَ -أو يَتَمَنَّى المُتَمَنُّونَ- ثُمَّ قُلتُ: يَأبى اللهُ ويَدفَعُ المُؤمِنونَ، أو يَدفَعُ اللهُ ويَأبى المُؤمِنونَ)) [2338] أخرجه البخاري (5666) واللفظ له، ومسلم (2387). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَكا وجَعَه وألَمَه [2339] ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (9/385). .
وأمَّا التَّعليلُ فللآتي:
1- لأنَّه لم يَثبُتْ فيه نَهيٌ مَقصودٌ [2340] ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (1/295). .
2- ولأنَّ الأنينَ مِن ألمِ العِلَّةِ والتَّأوُّهَ قد يَغلبانِ الإنسانَ، ولا يُطيقُ كَفَّهما عنه، واللَّهُ تعالى لا يُكَلِّفُ نَفسًا إلَّا وُسعَها، وليس في وُسعِ ابنِ آدَمَ تَركُ الاستِراحةِ إلى الأنينِ عِندَ الوجَعِ يَشتَدُّ به، والألمِ يَنزِلُ به [2341] ((شرح صحيح البخارى)) لابن بطال (9/385). .

انظر أيضا: