أولًا: الرِّفقُ بالحيَوانِ
مِنَ الأدَبِ مِع الحيَوانِ: الرِّفقُ به.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ والآثارِ:أ- مِنَ الكِتابِقال تعالى:
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام: 38] .
قال ابنُ عاشورٍ: (في الآيةِ تَنبيهٌ للمُسلمينَ على الرِّفقِ بالحيَوانِ؛ فإنَّ الإخبارَ بأنَّها أمَمٌ أمثالُنا تَنبيهٌ على المُشارَكةِ في المخلوقيَّةِ وصِفاتِ الحيَوانيَّةِ كُلِّها
[2578] ذَكَر الصَّفديُّ في تَرجَمةِ رُكنِ الدِّينِ أبي عَبدِ اللَّهِ بنِ القوبعِ المالكيِّ أنَّه كان إذا رَأى أحَدًا يَضرِبُ كَلبًا أو يُؤذيه يُخاصِمُه ويَنهَرُه ويَقولُ: ليش تَفعَلُ ذا؟ أما هو شَريكُك في الحيَوانيَّةِ؟! يُنظر: ((أعيان العصر وأعوان النصر)) (5/ 154)، ((الوافي بالوفيات)) (1/ 189). .
وفي قَولِه:
ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ إلقاءٌ للحَذَرِ مِنَ الاعتِداءِ عليها بما نَهى الشَّرعُ عنه مِن تَعذيبِها، وإذا كان يُقتَصُّ لبَعضِها مِن بَعضٍ وهي غيرُ مُكَلَّفةٍ، فالاقتِصاصُ مِنَ الإنسانِ لها أَولى بالعَدلِ)
[2579] ((التحرير والتنوير)) (7/ 218). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ1- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، أنَّها رَكِبَت بَعيرًا، فكانت فيه صُعوبةٌ
[2580] الصَّعبُ مِنَ الإبِلِ وسائِرِ الدَّوابِّ: غَيرُ المُنقادِ، وضِدُّه الذَّلولُ، وهو السَّهلُ الانقيادِ، والأُنثى صَعبةٌ، والجَمعُ صِعابٌ.. يُنظر: ((الألفاظ)) لابن السكيت (ص: 463)، ((المخصص)) لابن سيده (2/ 194)، ((النهاية)) لابن الأثير (3/ 29). ، فجَعَلت تُرَدِّدُه
[2581] تُرَدِّدُه: مِنَ التَّرديدِ، وهو الرَّدُّ بالتَّشديدِ، أي: تَمنَعُه وتَدفعُه بشِدَّةٍ وعُنفٍ. يُنظر: ((شرح الشفا)) للقاري (1/ 287)، ((فتح المنعم)) للاشين (10/ 75). ، فقال لها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((عليكِ بالرِّفقِ؛ فإنَّ الرِّفقَ لا يَكونُ في شيءٍ إلَّا زانَه، ولا يُنزَعُ مِن شيءٍ إلَّا شانَه)) [2582] أخرجه مسلم (2594). .
وفي رِوايةٍ:
((يا عائِشةُ، إنَّ اللَّهَ رَفيقٌ يُحِبُّ الرِّفقَ، ويُعطي على الرِّفقِ ما لا يُعطي على العُنفِ، وما لا يُعطي على ما سِواه)) [2583] أخرجه مسلم (2593). .
2- عن جَريرِ بنِ عَبدِ اللَّهِ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((مَن يُحرَمِ الرِّفقَ يُحرَمِ الخَيرَ)) [2584] أخرجه مسلم (2592). .
3- عن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((مَن أُعطِيَ حَظَّه مِنَ الرِّفقِ فقَد أُعطيَ حَظَّه مِنَ الخَيرِ، ومَن حُرِمَ حَظَّه مِنَ الرِّفقِ فقَد حُرِمَ حَظَّه مِنَ الخَيرِ)) [2585] أخرجه الترمذي (2013) واللفظ له، وأحمد (27553) مُطَوَّلًا دونَ ذِكرِ «ومَن حُرِم...». صححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2013)، وقال الترمذي: حسن صحيح. .
4- عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((كُنَّا إذا نَزَلْنا مَنزِلًا لا نُسَبِّحُ حتَّى تُحَلَّ الرِّحالُ)) [2586] أخرجه أبو داود (2551)، والبزار (7545). صحَّحه ابنُ دقيق العيد في ((الاقتراح)) (113)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2551)، وصحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2551)، وقال النووي في ((رياض الصالحين)) (354): إسنادُه على شَرطِ مُسلِمٍ. .
قال الخَطَّابيُّ: (يُريدُ: لا نُصَلِّي سُبحةَ الضُّحى حتَّى تُحَطَّ الرِّحالُ، ويُجَمَّ المَطِيُّ.
وكان بَعضُ العُلماءُ يَستَحِبُّ أن لا يَطعَمَ الرَّاكِبُ إذا نَزَل المَنزِلَ حتَّى يَعلِفَ الدَّابَّةَ.
وأنشَدَني بَعضُهم فيما يُشبِهُ هذا المَعنى:
حَقُّ المَطيَّةِ أن يُبدَا بحاجَتِها
لا أُطعِمُ الضَّيفَ حتَّى أعلِفَ الفَرَسا)
[2587] ((معالم السنن)) (2/ 248، 249). .
5- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إذا سافرتُم في الخِصبِ فأعطُوا الإبِلَ حَظَّها مِنَ الأرضِ، وإذا سافرتُم في السَّنةِ فأسرِعوا عليها السَّيرَ، وإذا عَرَّستُم باللَّيلِ فاجتَنِبوا الطَّريقَ؛ فإنَّها مَأوى الهَوامِّ باللَّيلِ)) [2588] أخرجه مسلم (1926). .
وفي رِوايةٍ:
((إذا سافَرتُم في الخِصبِ فأعطُوا الإبِلَ حَظَّها مِنَ الأرضِ، وإذا سافَرتُم في السَّنةِ فبادِروا بها نِقْيَها، وإذا عَرَّستُم فاجتَنِبوا الطَّريقَ؛ فإنَّها طُرُقُ الدَّوابِّ، ومَأوى الهَوامِّ باللَّيلِ)) [2589] أخرجها مسلم (1926). .
قال النَّوويُّ: (الخِصبُ -بكَسرِ الخاءِ: وهو كَثرةُ العُشبِ والمَرعى، وهو ضِدُّ الجَدبِ، والمُرادُ بالسَّنةِ هنا القَحطُ، ومِنه قَولُه تعالى:
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ [الأعراف: 130] أي: بالقُحوطِ.
ونِقْيَها -بكَسرِ النُّونِ وإسكانِ القافِ: وهو المُخُّ.
ومَعنى الحَديثِ الحَثُّ على الرِّفقِ بالدَّوابِّ ومُراعاةُ مَصلحَتِها، فإن سافروا في الخِصبِ قَلَّلوا السَّيرَ وتَرَكوها تَرعى في بَعضِ النَّهارِ وفي أثناءِ السَّيرِ فتَأخُذُ حَظَّها مِنَ الأرضِ بما تَرعاه مِنها، وإن سافروا في القَحطِ عَجَّلوا السَّيرَ ليَصِلوا المَقصِدَ وفيها بَقيَّةٌ مِن قوَّتِها، ولا يُقَلِّلوا السَّيرَ فيَلحَقَها الضَّرَرُ؛ لأنَّها لا تَجِدُ ما تَرعى فتَضعُفُ ويَذهَبُ نِقْيُها، ورُبَّما كَلَّت ووَقَفَت.
قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «وإذا عَرَّستُم فاجتَنِبوا الطَّريقَ؛ فإنَّها طُرُقُ الدَّوابِّ، ومَأوى الهَوامِّ باللَّيلِ» قال أهلُ اللُّغةِ: التَّعريسُ: النُّزولُ في أواخِرِ اللَّيلِ للنَّومِ والرَّاحةِ... وهذا أدَبٌ مِن آدابِ السَّيرِ والنُّزولِ، أرشَدَ إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ الحَشَراتِ ودَوابَّ الأرضِ مِن ذَواتِ السُّمومِ والسِّباعَ تَمشي في اللَّيلِ على الطُّرُقِ لسُهولتِها، ولأنَّها تَلتَقِطُ مِنها ما يَسقُطُ مِن مَأكولٍ ونَحوِه، وما تَجِدُ فيها مِن رمَّةٍ ونَحوها، فإذا عَرَّس الإنسانُ في الطَّريقِ رُبَّما مَرَّ به مِنها ما يُؤذيه؛ فيَنبَغي أن يَتَباعَدَ عنِ الطَّريقِ)
[2590] ((شرح مسلم)) (13/ 69). .
6- عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إذا سِرتُم في أرضٍ خِصبةٍ فأعطوا الدَّوابَّ حَقَّها أو حَظَّها، وإذا سِرتُم في أرضٍ جَدبةٍ فانجوا عليهم، وعليكُم بالدُّلجةِ [2591] قال الخَطابيُّ: (الدُّلجةُ: سيرُ اللَّيلِ، إلَّا أنَّهم قالوا: أدلجَ اللَّيلَ: إذا سارَ أوَّلَ اللَّيلِ، وادَّلجَ: إذا سارَ آخِرَه). ((أعلام الحَديثِ)) (1/ 171). ؛ فإنَّ الأرضَ تُطوى باللَّيلِ، وإذا عَرَّستُم فلا تُعَرِّسوا على قارِعةِ الطَّريقِ؛ فإنَّها مَأوى كُلِّ دابَّةٍ)) [2592] أخرجه البزار (6521) واللفظ له، والمخلص في ((المخلصيات)) (2764)، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (2118). وقَولُه: "عَليكُم بالدُّلجةِ؛ فإنَّ الأرضَ تُطوى باللَّيلِ" أخرجه أبو داود (2571)، وابن خزيمة (2555)، والحاكم (2571). حسنه لشواهده الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1357)، ووثق رجاله الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/260). .
قال المُناويُّ في مَعناه: (إذا سِرتُم في أرضٍ خِصبةٍ فأعطوا الدَّوابَّ حَظَّها مِن نَباتِ الأرضِ، وحَظُّها الرَّعيُ مِنه، وإذا سِرتُم في أرضٍ مُجدِبةٍ ولم يكُنْ مَعَكُم ولا في الطَّريقِ عَلفٌ «فانجوا عليها» أي: أسرِعوا عليها السَّيرَ لتُبَلِّغكُمُ المَنزِلَ قَبلَ أن تَضعُفَ، «وإذا عَرَّستُم» أي: نَزَلتُم آخِرَ اللَّيلِ «فلا تُعَرِّسوا على قارِعةِ الطَّريقِ» أي: أعلاها أو وسَطِها «فإنَّها مَأوى كُلِّ دابَّةٍ» أي: مَحَلُّها الذي تَأوي إليه ليلًا)
[2593] ((التيسير بشرح الجامع الصغير)) (1/ 105). .
7- عن وهَبِ بنِ كيسانِ -وكان وهبٌ أدركَ عَبدَ اللَّهِ بنَ عُمَرَ- أنَّ ابنَ عُمَرَ رَأى راعيًا وغَنَمًا في مَكانٍ قَبيحٍ، ورَأى مَكانًا أمثَلَ مِنه، فقال له: ويحَكَ! يا راعي، حَوِّلْها؛ فإنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((كُلُّ راعٍ مسؤولٌ عن رَعيَّتِه)) [2594] أخرجه أحمد (5869)، والطبراني (12/338) (13284)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (416) واللفظ له. صحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (8/136)، وقال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1/68): إسنادُه حَسَنٌ، والمرفوعُ منه متَّفَقٌ عليه. وقَولُه: ((كُلُّ راعٍ مسؤولٌ عَن رَعيَّتِه)) أخرجه البخاري (893)، ومسلم (1829) باختلافٍ يسيرٍ. .
ج- مِنَ الآثارِعن عُبَيدِ اللهِ بنِ زيادٍ، عنِ ابنَي بُسرٍ السُّلَميَّينِ، قال: (دَخَلتُ عليهما فقُلتُ: رَحِمَكُما اللهُ، الرَّجُلُ مِنَّا يَركَبُ دابَّتَه فيَضرِبُها بالسَّوطِ، ويَكفَحُها باللِّجامِ
[2595] قال ابنُ سِيدَه: (أكفحَ الدَّابَّةَ: تَلقَّى فاها باللِّجامِ يَضرِبُه به. وكَفَحَها باللِّجامِ كَفحًا: جَذَبَها). ((المحكم والمحيط الأعظم)) (3/ 47). ، هل سَمِعتُما مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ذلك شيئًا؟ قالا: لا، ما سَمِعنا مِنه في ذلك شيئًا، فإذا امرَأةٌ قَد نادَت مِن جَوفِ البيتِ: أيُّها السَّائِلُ، إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ يَقولُ:
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] ، فقالا: هذه أختُنا، وهي أكبَرُ مِنَّا، وقد أدرَكَت رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
[2596] أخرجه أحمد (17685) واللفظ له، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (11066)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (37/431). صحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17685)، ووثق رجاله الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/109). .
فائدةٌ:قال الألبانيُّ بَعدَ أن ذَكَرَ عِدَّةَ آثارٍ في الرِّفقِ بالحيَوانِ: (تلك هي بَعضُ الآثارِ التي وقَفتُ عليها حتَّى الآنَ، وهي تَدُلُّ على مَبلغِ تَأثُّرِ المُسلمينَ الأوَّلينَ بتَوجيهاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الرِّفقِ بالحيَوانِ، وهي في الحَقيقةِ قُلٌّ مِن جُلٍّ ونُقطةٌ مِن بَحرٍ، وفي ذلك بيانٌ واضِحٌ أنَّ الإسلامَ هو الذي وضَعَ للنَّاسِ مَبدَأَ (الرِّفقِ بالحيَوانِ)، خِلافًا لِما يَظُنُّه بَعضُ الجُهَّالِ بالإسلامِ أنَّه مِن وَضعِ الكُفَّارِ الأورُبِّيِّينَ، بَل ذلك مِنَ الآدابِ التي تَلقَّوها عنِ المُسلمينَ الأوَّلينَ، ثُمَّ تَوسَّعوا فيها، ونَظَّموها تَنظيمًا دَقيقًا، وتَبَنَّتها دُوَلُهم حتَّى صارَ الرِّفقُ بالحيَوانِ مِن مَزاياهمُ اليَومَ، حتَّى تَوهَّمَ الجُهَّالُ أنَّه مِن خُصوصيَّاتِهم! وغَرَّهم في ذلك أنَّه لا يَكادُ يُرى هذا النِّظامُ مُطبَّقًا في دَولةٍ مِن دُوَلِ الإسلامِ، وكانوا هم أحَقَّ بها وأهلَها!)
[2597] ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1/ 69). .