موسوعة الآداب الشرعية

تمهيدٌ في أهميَّةِ الطَّهارةِ، وبيانِ فضلِها


اهتَمَّ الإسلامُ الحَنيفُ بأمرِ الطَّهارةِ، وأثنى اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ على المُتَطَهِّرينَ مِن عِبادِه، فقال سُبحانَه: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: 222] ، وقال جَلَّ ثناؤه: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة: 108] ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة: 6] .
والطُّهورُ شَطرُ الإيمانِ، ومِفتاحُ الصَّلاةِ، وشَرطُ صِحَّتِها.
فعن أبي مالِكٍ الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الطُّهورُ شَطرُ الإيمانِ [1] قال ابنُ الجَوزيِّ: (الطُّهورُ هاهنا يُرادُ به التَّطَهُّرُ. والشَّطرُ: النِّصفُ. وكَأنَّ الإشارةَ إلى الصَّلاةِ، وأنَّها لا تَصِحُّ إلَّا بالطَّهارةِ فكَأنَّها نِصفُها. وقد سَمَّى اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ الصَّلاةَ إيمانًا بقَولِه: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة: 143] . ((كشف المشكل)) (4/ 155). وقال النَّوويُّ: (اختُلِف في مَعنى قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «الطُّهورُ شَطرُ الإيمانِ» فقيل: مَعناه أنَّ الأجرَ فيه يَنتَهي تَضعيفُه إلى نِصفِ أجرِ الإيمانِ، وقيل: مَعناه أنَّ الإيمانَ يَجُبُّ ما قَبلَه مِنَ الخَطايا، وكذلك الوُضوءُ؛ لأنَّ الوُضوءَ لا يَصِحُّ إلَّا مَعَ الإيمانِ، فصارَ لتَوقُّفِه على الإيمانِ في مَعنى الشَّطرِ، وقيل: المُرادُ بالإيمانِ هنا الصَّلاةُ، كَما قال اللهُ تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ، والطَّهارةُ شَرطٌ في صِحَّةِ الصَّلاةِ، فصارَت كالشَّطرِ، وليسَ يَلزَمُ في الشَّطرِ أن يَكونَ نِصفًا حَقيقيًّا، وهذا القَولُ أقرَبُ الأقوالِ، ويُحتَمَلُ أن يَكونَ مَعناه أنَّ الإيمانَ تَصديقٌ بالقَلبِ وانقيادٌ بالظَّاهرِ، وهما شَطرانِ للإيمانِ، والطَّهارةُ مُتَضَمِّنةٌ الصَّلاةَ، فهيَ انقيادٌ في الظَّاهرِ. واللهُ أعلمُ). ((شرح مسلم)) (3/ 100، 101). ويُنظر: ((المعلم)) للمازري (1/ 347). ...)) الحَديث [2] أخرجه مسلم (223). ، فالإيمانُ يُطَهِّرُ نَجاسةَ الباطِنِ، والطُّهورُ يُطَهِّرُ نَجاسةَ الظَّاهِرِ [3] يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/ 473). .
وعن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((مِفتاحُ الصَّلاةِ الطُّهورُ [4] المِفتاحُ: ما يُفتَحُ به البابُ، وهو سَبَبُ دُخولِ الدَّارِ، يَعني: سَبَبُ الدُّخولِ في الصَّلاةِ الوُضوءُ. يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (1/ 362، 363). ...)) [5] أخرجه أبو داود (61)، والترمذي (3)، وابن ماجه (275). حَسَّنه البغوي في ((شرح السنة)) (2/184)، وابن العربي في ((القبس)) (1/218)، وابن القطان في ((الوهم والإيهام)) (4/99)، والنووي في ((خلاصة الأحكام)) (1/348)، وابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/230). وذَهَبَ إلى تَصحيحِه القُرطُبيُّ في ((التفسير)) (1/268)، وابن القيم في ((أعلام الموقعين)) (2/215)، وابن الملقن في ((شرح البخاري)) (6/622)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (61). .
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تُقبَلُ صَلاةُ مَن أحدَثَ حتَّى يَتَوضَّأَ)) [6] أخرجه البخاري (135) واللفظ له، ومسلم (225). .
ولا يُحافِظُ على الوُضوءِ إلَّا مُؤمِنٌ؛ فعن ثَوبانَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((استَقيموا ولن تُحصوا [7] لن تُحصوا: أي: لن تُطيقوا أن تَبلُغوا كُنهَ الاستِقامةِ في جَميعِ الأعمالِ ولن تُحَصِّلوا ذلك، ولكِنِ اجتَهِدوا في ذلك مَبلَغَ الوُسعِ والطَّاقةِ، وقيل: لن تُطيقوا جَميعَ أعمالِ البرِّ، وقيل: لن تُحصوا ما لكم في الاستِقامةِ مِنَ الثَّوابِ العَظيمِ. يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (2/ 1343)، ((المفردات)) للراغب (ص: 240، 241)، ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (2/ 327، 328)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/ 255، 511). ، واعلَموا أنَّ خَيرَ أعمالِكُمُ الصَّلاةُ، ولا يُحافِظُ على الوُضوءِ إلَّا مُؤمِنٌ)) [8] أخرجه ابن ماجه (277) واللفظ له، وأحمد (22436). صححه الحاكم في ((المستدرك)) (454) وقال: على شرط الشيخين، ومحمد ابن عبد الهادي في ((تنقيح التحقيق)) (4/285)، وابن حجر في ((فتح الباري)) (4/130)، والذهبي في ((ميزان الاعتدال)) (4/220)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (277)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22378). .
وتَبلُغُ الحِليةُ مِنَ المُؤمِنِ يَومَ القيامةِ حَيثُ يَبلُغُ الوُضوءُ.
فعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ خَليلي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((تَبلُغُ الحِليةُ مِنَ المُؤمِنِ حَيثُ يَبلُغُ الوُضوءُ [9] الحِلية: البَياضُ الحاصِلُ للمُؤمِنِ يَومَ القيامةِ في أعضاءِ الوُضوءِ، أي: يَبلُغُ النُّورُ. وقيل: المُرادُ بـ (الحِلية): الزِّينةُ في الجَنَّةِ مِنَ السِّوارِ والخَلخالِ. و"الوَضوءُ" بالفتحِ، أي: ماءُ وُضوئِه مِنَ الأعضاءِ. يُنظر: ((شَرح المَصابيح)) لابنِ المَلكِ (1/ 234). ) [10] أخرجه مسلم (250). .
والوُضوءُ سَبَبٌ لتَكفيرِ الذُّنوبِ التي أصابَتها الجَوارِحُ عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا تَوضَّأ العَبدُ المُسلمُ أوِ المُؤمِنُ، فغَسَل وجهَه خَرَجَ مِن وَجهِه كُلُّ خَطيئةٍ نَظَر إليها بعَينَيه مَعَ الماءِ، أو مَعَ آخِرِ قَطرِ الماءِ، فإذا غَسَل يَدَيه خَرَجَ مِن يَدَيه كُلُّ خَطيئةٍ كان بَطَشَتها يَداه مَعَ الماءِ، أو مَعَ آخِرِ قَطرِ الماءِ، فإذا غَسَل رِجلَيه خَرَجَت كُلُّ خَطيئةٍ مَشَتها رِجلاه مَعَ الماءِ، أو مَعَ آخِرِ قَطرِ الماءِ، حتَّى يَخرُجَ نَقيًّا مِنَ الذُّنوبِ)) [11] أخرجه مسلم (244). .
إلى غَيرِ ذلك مِن فضائِلِ الطَّهارةِ، وهيَ كَثيرةٌ.
وفيما يَلي نَذكُرُ أهَمَّ الآدابِ المُتَعَلِّقةِ بالوُضوءِ والغُسلِ:

انظر أيضا: