حادي عشر: عَدَمُ اتِّخاذِه غَرَضًا
يَحرُمُ اتِّخاذُ الحيَوانِ غَرَضًا يُرمى إليه كالهَدَفِ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:1- عن عَبدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لا تَتَّخِذوا شيئًا فيه الرُّوحُ غَرَضًا)) [2700] أخرجه البخاري (1957). .
2- عن سَعيدِ بنِ جُبَيرٍ، قال: مَرَّ ابنُ عُمَرَ بنَفرٍ قَد نَصَبوا دَجاجةً يترامونها، فلمَّا رَأوا ابنَ عُمَرَ تَفرَّقوا عنها، فقال ابنُ عُمَرَ: مَن فَعلَ هذا؟!
((إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعَنَ مَن فَعلَ هذا)) [2701] أخرجه البخاري (5515)، ومسلم (1958) واللفظ له. .
وفي رِوايةٍ: مَرَّ ابنُ عُمَرَ بفِتيانٍ مِن قُريشٍ قَد نَصَبوا طيرًا وهم يَرمونَه، وقد جَعَلوا لصاحِبِ الطَّيرِ كُلَّ خاطِئةٍ مِن نَبلِهم، فلمَّا رَأوا ابنَ عُمَرَ تَفرَّقوا، فقال ابنُ عُمَرَ: مَن فَعَل هذا؟! لعَنَ اللهُ مَن فعَل هذا!
((إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شيئًا فيه الرُّوحُ غَرَضًا)) [2702] أخرجه مسلم (1958). .
وفي أخرى: عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّه دَخَل على يَحيى بنِ سَعيدٍ، وغُلامٌ مِن بَني يَحيى رابطٌ دَجاجةً يَرميها، فمَشى إليها ابنُ عُمَرَ حتَّى حَلَّها، ثُمَّ أقبَلُ بها وبالغُلامِ مَعَه، فقال: ازجُروا غُلامَكُم عن أن يَصبِرَ هذا الطَّيرَ للقَتلِ؛
((فإنِّي سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى أن تُصبَرَ بَهيمةٌ [2703] أي: أن تُحَبسَ للرَّميِ، وكانوا يَحبسونَها ويَرمونَها بالنَّبلِ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (3/ 198). وقال ابنُ بَطَّالٍ في نَهيِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن تُصبَرَ البَهائِمُ: (هو الطَّائِرُ وغيرُه مِن ذَواتِ الرُّوحِ، يُصبَرُ حيًّا ثُمَّ يُرمى حتَّى يُقتَلَ، وأصلُ الصَّبرِ: الحَبسُ، وكُلُّ مَن حَبَسَ شيئًا فقَد صَبرَه. ومِنه قيل للرَّجُلِ يُقَدَّمُ فيُضرَبُ عُنُقُه: قُتِل صَبرًا. عَنى: أُمسِكَ للمَوتِ). ((شرح صحيح البخاري)) (5/ 427). وقال الخَطَّابيُّ: (أصلُ الصَّبرِ الحَبسُ، ومنه قيل: قُتِل فُلانٌ صَبرًا، أي: قَهرًا أو حَبسًا على المَوتِ. وإنَّما نُهيَ عَن ذلك لِما فيه مِن تَعذيبِ البَهيمةِ). ((معالم السنن)) (4/ 277). أو غيرُها للقَتلِ)) [2704] أخرجها البخاري (5514). .
3- عن جابِرِ بنِ عَبدِ اللَّهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال:
((نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُقتَلَ شيءٌ مِنَ الدَّوابِّ صَبرًا)) [2705] أخرجه مسلم (1959). .
4- عن هِشامِ بنِ زَيدِ بنِ أنَسِ بنِ مالكٍ، قال: دَخَلتُ مَعَ جَدّي أنَسِ بنِ مالِكٍ دارَ الحَكَمِ بنِ أيُّوبَ، فإذا قَومٌ قَد نَصَبوا دَجاجةً يَرمونَها، قال: فقال أنَسٌ:
((نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن تُصبَرَ البَهائِمُ)) [2706] أخرجه البخاري (5513)، ومسلم (1956) واللفظ له. .
قال النَّوويُّ: (قال العُلماءُ: صَبرُ البَهائِمِ أن تُحبَسَ وهي حيَّةٌ لتُقتَلَ بالرَّميِ ونَحوِه، وهو مَعنى: «لا تَتَّخِذوا شيئًا فيه الرُّوحُ غَرَضًا» أي: لا تَتَّخِذوا الحيَوانَ الحيَّ غَرَضًا تَرمونَ إليه كالغَرَضِ مِنَ الجُلودِ وغيرِها، وهذا النَّهيُ للتَّحريمِ؛ ولهذا قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في رِوايةِ ابنِ عُمَرَ: «لعَنَ اللهُ مَن فَعَل هذا»)
[2707] ((شرح مسلم)) (13/ 108). .
وقال ابنُ بَطَّالٍ: (في نَهيِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن صَبرِ البَهائِمِ الإبانةُ عن تَحريمِ قَتلِ ما كان حَلالًا أكلُه مِنَ الحيَوانِ إذا كان إلى تَذكيَتِه سَبيلٌ، وذلك أنَّ راميَ الدَّجاجةِ بالنَّبلِ ومُتَّخِذَها غَرَضًا قَد تُخطِئُ رَميَتُه مَوضِعَ الذَّكاةِ، فيَقتُلُها، فيُحرَمُ أكلَها، وقاتِلُه كذلك غيرُ ذابحِه ولا ناحِرِه، وذلك حَرامٌ عِندَ جَميعِ الأمَّةِ)
[2708] ((شرح صحيح البخاري)) (5/ 428، 429). .
5- عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما
((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عنِ المُجَثَّمةِ [2709] قال ابنُ الأثيرِ عَنِ المُجَثَّمةِ: (هي كُلُّ حيَوانٍ يُنصَبُ ويُرمى ليُقتَلَ، إلَّا أنَّها تَكثُرُ في الطّيَرِ والأرانِبِ وأشباهِ ذلك مِمَّا يَجثُمُ في الأرضِ، أي: يَلزَمُها ويَلتَصِقُ بها، وجَثَمَ الطَّائِرُ جُثومًا، وهو بمَنزِلةِ البُروكِ للإبِلِ). ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) (1/ 239). ) [2710] أخرجه أبو داود (3719، 3786) مفرقا، والترمذي (1825) واللفظ له، والنسائي (4448). صححه ابن حبان في ((صحيحه)) (5399)، والحاكم على شرط البخاري في ((المستدرك)) (2281)، والنووي في ((المجموع)) (9/28)، وابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (107)، وقال الترمذي: حسن صحيح والنَّهيُ عَنِ الشُّربِ مِن في السِّقاءِ أخرجه البخاري (5629). .
قال الخَطَّابيُّ: (المُجَثَّمةُ: هي المَصبورةُ، وذلك أنَّها قَد جُثِمَت على المَوتِ، أي: حُبِسَت عليه، بأن تُوثَقَ وتُرمى حتَّى تَموتَ، وأصلُ الجُثومِ في الطَّيرِ، يُقالُ: جَثَمَ الطَّائِرُ، وبَرَك البَعيرُ، ورَبَضَتِ الشَّاةُ، وبينَ الجاثِمِ والمُجَثَّمِ فَرقٌ؛ وذلك أنَّ الجاثِمَ مِنَ الصَّيدِ يَجوزُ لك أن تَرميَه حتَّى تَصطادَه، والمُجثَّمُ: هو ما مَلكْتَه فجَثَّمتَه وجَعَلتَه غَرَضًا تَرميه حتَّى تَقتُلَه، وذلك مُحَرَّمٌ)
[2711] ((معالم السنن)) (4/ 273). ويُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (5/ 429). .
وأمَّا التَّعليلُ: فلأنَّه تَعذيبٌ للحيَوانِ وإتلافٌ لنَفسِه، وتَضييعٌ لماليَّتِه وتَفويتٌ لذَكاتِه إن كان مُذَكًّى، ولمَنفعَتِه إن لم يكُنْ مُذَكًّى
[2712] ((شرح مسلم)) (13/ 108). .
فوائِدُ مُتَفرِّقةٌ:جملةٌ مِن آدابِ التَّعاملِ معَ الحيوانِ1- (يَنبَغي لكُلِّ مُؤمِنٍ عاقِلٍ أن يَرغَبَ في الأخذِ بحَظِّه مِنَ الرَّحمةِ، ويَستَعمِلَها في أبناءِ جِنسِه وفي كُلِّ حيَوانٍ، فلم يَخلُقْه اللهُ عَبَثًا، وكُلُّ أحَدٍ مسؤولٌ عَمَّا استُرعيَه ومَلَكه مِن إنسانٍ، أو بَهيمةٍ لا تَقدِرُ على النُّطقِ وتَبيينِ ما بها مِنَ الضُّرِّ.
وكذلك يَنبَغي أن يَرحَمَ كُلَّ بَهيمةٍ وإن كانت في غيرِ مِلكِه، ألَا تَرى أنَّ الذي سَقى الكلبَ الذي وجَدَه بالفَلاةِ لم يكُنْ له مِلكًا، فغَفرَ اللهُ له بتَكلُّفِه النُّزولَ في البئرِ، وإخراجِه الماءَ في خُفِّه وسَقيِه إيَّاه
[2713] لفظُه: عَن أبي هُرَيرةَ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((بينَما رَجُلٌ يَمشي بطَريقٍ، اشتَدَّ عَليه العَطَشُ، فوجَدَ بئرًا فنَزَل فيها فشَرِبَ، ثُمَّ خَرَجَ. فإذا كَلبٌ يَلهَثُ يَأكُلُ الثَّرى مِنَ العَطَشِ! فقال الرَّجُلُ: لقَد بَلغَ هذا الكَلبَ مِنَ العَطَشِ مِثلُ الذي كان بَلَغ منِّي! فنَزَل البِئرَ فمَلأ خُفَّه ماءً، ثُمَّ أمسَكه بفيه حتَّى رَقِي، فسَقى الكَلبَ. فشَكرَ اللَّهُ له فغَفرَ له. قالوا: يا رَسولَ اللهِ، وإنَّ لنا في هذه البَهائِمِ لأجرًا؟ فقال: في كُلِّ كَبِدٍ رَطبةٍ أجرٌ)). أخرجه البخاري (2363)، ومسلم (2244) واللفظ له. .
وكذلك كلُّ ما في مَعنى السَّقيِ مِنَ الإطعامِ؛ ألَا تَرى قَولَه عليه السَّلامُ: «ما مِن مُسلمٍ غَرَسَ غَرسًا فأكَل مِنه إنسانٌ أو دابَّةٌ، إلَّا كان له صَدَقةً»
[2714] أخرجه البخاري (6012) واللفظ له، ومسلم (1553). .
ومِمَّا يَدخُلُ في مَعنى سَقيِ البَهائِم وإطعامِها: التَّخفيفُ عنها في أحمالِها، وتَكليفُها ما تُطيقُ حَملَه، فذلك مِن رَحمَتِها والإحسانِ إليها.
ومِن ذلك: تَركُ التَّعَدِّي في ضَربِها وأذاها، وتَسخيرِها في اللَّيلِ وفي غيرِ أوقاتِ السُّخرةِ، وقد نُهينا في العَبيدِ أن نُكلِّفَهمُ الخِدمةَ في اللَّيلِ؛ فإنَّ لهمُ اللَّيلَ ولواليهمُ النَّهارَ، والدَّوابُّ وجَميعُ البَهائِمِ داخِلونَ في هذا المَعنى)
[2715] ((شرح صحيح البخاري)) (9/ 219). .
2- (أمَّا نَفقةُ الحيَوانِ: فيَجِبُ على المالِكِ إطعامُ بَهائِمِه ولو مَرِضَت، وسَقيُها وريُّها؛ لقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((عُذِّبَتِ امرَأةٌ في هِرَّةٍ حَبَسَتها حتَّى ماتَت جوعًا، لا هي أطعَمَتها، ولا هي أرسَلَتها تَأكُلُ خَشاشَ الأرضِ)) [2716] أخرجه البخاري (3482)، ومسلم (2242) باختِلافٍ يَسيرٍ مِن حَديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، ولفظُ البُخاريِّ: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: عُذِّبَتِ امرَأةٌ في هرَّةٍ سَجَنَتها حتَّى ماتَت، فدَخَلت فيها النَّارَ؛ لا هي أطعَمَتها ولا سَقَتها إذ حَبَسَتها، ولا هي تَرَكَتها تَأكُلُ مِن خَشاشِ الأرضِ)). .
ويَحرُمُ عليه أن يُحمِّلَها ما لا تُطيقُ؛ لأنَّ الشَّارِعَ مَنَعَ تَكليفَ العَبدِ ما لا يُطيقُ، فوجَبَ أن تَكونَ البَهيمةُ مِثلَه، ولأنَّ فيه تَعذيبًا للحيَوانِ الذي له حُرمةٌ في نَفسِه، وإضرارًا به.
ويَحرُمُ أن يَحلُبَ مِن لبَنِها ما يَضُرُّ بولَدِها؛ لأنَّه غِذاءٌ للوَلَدِ، فلا يَجوزُ مَنعُه، ولأنَّ كِفايَتَه واجِبةٌ على مالكِه.
ويُسَنُّ أن يُقَلِّمَ أظفارَه؛ لئَلَّا يُؤذيَها عِندَ الحَلبِ.
كما يَجِبُ إبقاءُ شَيءٍ مِنَ العَسَلِ في الخَليَّةِ بقَدرِ حاجةِ النَّحلِ إذا لم يَكفِه غيرُه.
وإنِ امتَنَعَ المالكُ مِنَ الإنفاقِ على بَهيمةٍ أُجبِرُ عليه عِندَ الجُمهورِ قَضاءً وديانةً، كما يُجبَرُ على نَفَقةِ زَوجَتِه. وإن لم يكُنْ له مالٌ أُكرِيَ عليه إن أمكنَ كِراؤُه، فإن لم يُمكِنْ بِيعَ عليه. وقال الحَنَفيَّةُ: لا يُجبَرُ قَضاءً على نَفقةِ البَهائِمِ، في ظاهرِ الرِّوايةِ، ولكِنَّه يُفتى فيما بينَه وبينَ اللهِ تعالى -أي: ديانةً- أن يُنفِقَ عليها. ولا يُجبَرُ أيضًا على نَفقةِ الجَماداتِ، كالدُّورِ والعَقارِ، ولا يُفتى أيضًا بالوُجوبِ، لكِن يُكرَهُ له تَحريمًا تَضييعُ المالِ...
ويَحرُمُ على المالِكِ التَّحريشُ بينَ الدِّيَكةِ أوِ الثِّيرانِ أو غيرِها؛ لِما فيه مِن تَعذيبِها.
ويَحرُمُ عليه تَكليفُ الدَّابَّةِ ما لا تُطيقُ مِن ثِقلِ الحَملِ، أو إدامةِ السَّيرِ، أو نَحوِهما...
ولا يَجوزُ قَتلُ البَهيمةِ ولا ذَبحُها للإراحةِ؛ لأنَّها مالٌ ما دامَت حيَّةً، وذَبحُها إتلافٌ لها، وقد نُهيَ عن إتلافِ المالِ، وكذلك يحرُمُ قَتلُ الآدَميِّ المُتَألِّمِ بالأمراضِ الصَّعبةِ أوِ المَصلوبِ بنَحوِ حَديدٍ؛ لأنَّه مَعصومٌ ما دامَ حيًّا.
ويَحسُنُ قَتلُ ما يُباحُ قَتَلُه مِنَ الحيَواناتِ المُؤذيةِ
[2717] عَن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((خَمسُ فواسَقَ يُقتَلنَ في الحِلِّ والحَرَمِ: الحيَّةُ، والغُرابُ الأبقَعُ، والفأرةُ، والكَلبُ العَقورُ، والحُدَيَّا)). أخرجه مسلم (1198). وفي رِواية: ((خَمسُ فواسِقَ يُقتَلنَ في الحَرَمِ: الفأرةُ، والعَقرَبُ، والغُرابُ، والحُدَيَّا، والكَلبُ العَقورُ)). أخرجها البخاري (1829)، ومسلم (1198) واللفظ له. وعَن عَبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((خَمسٌ لا جُناحَ على مَن قَتَلَهنَّ في الحَرَمِ والإحرامِ: الفأرةُ، والعَقرَبُ، والغُرابُ، والحِدَأةُ، والكَلبُ العَقورُ)). أخرجه البخاري (1828)، ومسلم (1199) واللفظ له. وعَن حَفصةَ زَوجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((خَمسٌ مِنَ الدَّوابِّ كُلُّها فاسِقٌ لا حَرَجَ على مَن قَتَلَهنَّ: العَقرَبُ، والغُرابُ، والحِدَأةُ، والفأرةُ، والكَلبُ العَقورُ)). أخرجه البخاري (1828)، ومسلم (1200) واللفظ له. وعَن زيدِ بنِ جُبَيرٍ، ((أنَّ رَجُلًا سَأل ابنَ عُمَرَ: ما يَقتُلُ المُحرِمُ مِنَ الدَّوابِّ؟ فقال: أخبَرَتني إحدى نِسوةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه أمَرَ -أو أُمِرَ- أن يَقتُلَ الفأرةَ، والعَقرَبَ، والحِدَأةَ، والكَلبَ العَقورَ، والغُرابَ)). أخرجه البخاري (1827) مختصَرًا باختلافٍ يسيرٍ، ومسلم (1200) واللفظ له. وفي رِوايةٍ: ((حَدَّثَتني إحدى نِسوةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه: كان يَأمُرُ بقَتلِ الكَلبِ العَقورِ، والفأرةِ، والعَقرَبِ، والحُدَيَّا، والغُرابَ، والحيَّةَ، قال: وفي الصَّلاةِ أيضًا)). أخرجها مسلم (1200). وعَن سَعيدِ بنِ المُسيِّبِ أنَّ أمَّ شَريكٍ رَضِيَ اللهُ عنها أخبَرَته ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَرَها بقَتلِ الأوزاغِ)). أخرجه البخاري (3307)، ومسلم (2237). وعَن عامِرِ بنِ سَعدٍ، عَن أبيه رَضِيَ اللهُ عنه، ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَرَ بقَتلِ الوَزغِ، وسَمَّاه فُوَيسِقًا)). أخرجه مسلم (2238). وفي حَديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ إبراهيمَ لمَّا أُلقيَ في النَّارِ لم تَكُنْ في الأرضِ دابَّةٌ إلَّا أطفأتِ النَّارَ عَنه غيرَ الوَزغِ؛ فإنَّها كانت تَنفُخُ عليه، فأمَر رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقَتلِه. أخرجه ابن ماجه (3231) واللفظ له، وأحمد (24534). صححه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2979) وعَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن قَتَل وزَغةً في أوَّلِ ضَربةٍ فله كذا وكذا حَسَنةً، ومَن قَتَلها في الضَّربةِ الثَّانيةِ فله كذا وكذا حَسَنةً، لدونِ الأولى، وإن قَتَلَها في الضَّربةِ الثَّالثةِ فله كذا وكذا حَسَنةً، لدونِ الثَّانيةِ)). أخرجه مسلم (2240). وفي رِوايةٍ: ((مَن قَتَل وَزَغًا في أوَّلِ ضَربةٍ كُتِبَت له مِائةُ حَسَنةٍ، وفي الثَّانيةِ دونَ ذلك، وفي الثَّالثةِ دونَ ذلك)). أخرجها مسلم (2240). وعَن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اقتُلوا ذا الطُّفيَتينِ؛ فإنَّه يَلتَمِسُ البَصَر، ويُصيبُ الحَبَلَ)). أخرجه البخاري (3308) واللفظ له، ومسلم (2232). وفي رِوايةٍ: ((أمر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقَتلِ الأبتَرِ، وقال: إنَّه يُصيبُ البَصَرَ، ويُذهِبُ الحَبَلَ)). أخرجها البُخاريُّ (3309). ؛ كالكَلبِ العَضوضِ)
[2718] ((الفقه الإسلامي وأدلته)) (10/ 7346-7348). .
موازنةٌ بينَ الحَضارَةِ الإسلاميَّةِ وغيرِها مِنَ الحضاراتِ في التَّعاملِ معَ الحيَوانِ 3- ("جِنايةُ العَجماءِ جُبارٌ" هذه القاعِدةُ الفِقهيَّةُ مَبنيَّةٌ على قَولِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((العَجماءُ جَرحُها جُبارٌ [2719] العَجماءُ: مِنَ العُجمةِ، وهي عَدَمُ الإفصاحِ. والعَجماءُ: كُلُّ حيَوانٍ سِوى الآدَميِّ، وسُمِّيَتِ البَهيمةُ عَجماءَ؛ لأنَّها لا تَتَكلَّمُ. جَرْحُها: ما يَصدُرُ عنها مِن ضَرَرٍ أو إضرارٍ بالنَّفسِ أوِ المالِ. والجِنايةُ هنا تُنسَبُ إلى الحيَوانِ، وهو غيرُ مُدرِكٍ؛ ولذلك لا يُؤاخَذُ على فِعلِه. جُبارٌ: أي: هَدَرٌ وباطِلٌ لا مُؤاخَذةَ فيه، ولا ضَمانَ على صاحِبِه، إذا لم يكُنْ مُنبَعِثًا عن فِعلِ فاعِلٍ مُختارٍ؛ كسائِقٍ أو ضارِبٍ أو راكِبٍ أو فاعِلٍ للإخافةِ. يُنظر: ((فقه الإحسان إلى الحيوان)) (ص: 109). ) الحَديثَ
[2720] أخرجه البخاري (6912)، ومسلم (1710) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ...
والمُرادُ بالقاعِدةِ: أنَّ ما تَفعَلُه البَهائِمُ مِن تِلقاءِ نَفسِها، كما لو قَطَعَت رِباطَها وشَرَدَت، وانفلتَت مِن صاحِبِها أو جَفلَت، أو نَفحَت برِجلِها فأضَرَّت أحَدًا، أو أصابَت شيئًا وأتلفَته؛ فلا ضَمانَ على صاحِبِها، وما يَنشَأُ عن جِنايَتِها هَدَرٌ لا يَنبَني عليها أيُّ شيءٍ.
وكذلك لوِ اغتالت هِرَّةُ شَخصٍ طائِرَ غَيرِه، أو رَبَطَ شَخصانِ دابَّتَيهما في مَكانٍ مَأذونٍ بالرَّبطِ فيه، فأتلَفَت إحداهما الأخرى؛ فلا ضَمانَ على أحَدٍ.
أمَّا لو كانت جِنايةُ العَجماءِ مُنبَعِثةً عن فِعلِ إنسانٍ، فإنَّ التَّحَرُّزَ هنا مُمكِنٌ، وفي مَقدورِ الإنسانِ مَنعُ جِنايةِ الحيَوانِ، كما لو كان شَخصٌ راكِبًا الدَّابَّةَ ولو في أرضِه، فداسَت شيئًا للغيرِ، فإنَّه ضامِنٌ؛ لأنَّه يُعتَبَرُ مُباشِرًا للإضرارِ.
إذَن بُطلانُ الضَّمانِ مُقيَّدٌ بما إذا كانتِ العَجماءُ وَحدَها، أمَّا إذا كان مَعَها صاحِبُها يَركبُها أو يَسوقُها، أو يَراها وهي تُباشِرُ الإتلافَ؛ فإنَّ جَرحَها وجِنايَتَها يَكونُ كأنَّه صادِرٌ عنه.
إنَّ القاعِدةَ الفِقهيَّةَ التي شَرَحناها آنِفًا تَعكِسُ مَظهَرًا مِن مَظاهرِ رَحمةِ الشَّريعةِ بالحيَوانِ؛ فالعَقلُ مَناطُ التَّكليفِ، والحيَوانُ لا عَقلَ له ولا إدراكَ؛ فلا مسؤوليَّةَ عليه، وما دامَ مالكُه لم يُفرِّطْ فإنَّه لا يَضمَنُ جِنايةَ الحيَوانِ.
وإنْ تَعجَبْ فاعجَبْ لقَومٍ أخَذوا الحيَوانَ نَفسَه بجِنايَتِه إذا جَنى، وعامَلوه كمُعامَلةِ الإنسانِ العاقِلِ المُفكِّرِ!
لقَد كان الحيَوانُ في العُصورِ القَديمةِ والوُسطى حتَّى القَرنِ التَّاسِعَ عَشَرَ الميلاديِّ يُحاكَمُ كما يُحاكَمُ الإنسانُ، ويُحكَمُ عليه بالسَّجنِ والتَّشريدِ والمَوتِ كما يُحكَمُ على الإنسانِ الجاني تَمامًا!
يَقولُ مُصطَفى السِّباعي
[2721] يُنظر: ((من روائع حضارتنا)) للسباعي (ص: 90-93). : في شَرائِعِ قُدَماءِ اليونانِ: كانت عِندَهم مَحكَمةٌ خاصَّةٌ لمُحاكَمةِ الحيَواناتِ والجَماداتِ المُتَسَبِّبةِ في هلاكِ إنسانٍ، وكان يُطلَقُ على هذه المَحكَمةِ اسمُ «البريتانيون»، وهو اسمُ المَكانِ الذي كانت تُعقَدُ جَلساتُها فيه.
ومِمَّا ذَكرَه أفلاطون في كِتابِه «القَوانين»: إذا قَتَل حيَوانٌ إنسانًا كان لأسرةِ القَتيلِ الحَقُّ في إقامةِ دَعوى على الحيَوانِ أمامَ القَضاءِ، ويَختارُ أولياءُ الدَّمِ القُضاةَ مِنَ المُزارِعينَ، وفي حالِ ثُبوتِ الجَريمةِ على الحيَوانِ يَجِبُ قَتلُه قِصاصًا، وإلقاءُ جُثَّتِه خارِجَ البلادِ. ويُستَثنى مِن ذلك القَتلُ النَّاشِئُ عن مُبارَزةٍ بينَ الإنسانِ والحيَوانِ في مَسرَحِ الألعابِ العُموميَّةِ؛ فإنَّ هذا لا يَتَرَتَّبُ عليه شيءٌ.
وإذا سَقَطَ جَمادٌ على إنسانٍ فقَتَله، اختارَ أقرَبُ النَّاسِ إلى القَتيلِ قاضيًا مِن جيرانِه؛ ليَحكُمَ على الجَمادِ أن يُنبَذَ خارِجَ الحُدودِ!
ولم تَكُنْ مسؤوليَّةُ الحيَوانِ عندَهم قاصِرةً على حالاتِ القَتلِ، بَل هو مسؤولٌ كذلك في الجِناياتِ التي دونَ القَتلِ، فإذا عَضَّ كلبٌ إنسانًا وجَبَ على صاحِبِ الكَلبِ أن يُسَلِّمَ كَلبَه إلى المَجنيِّ عليه مَكمومًا ومَشدودًا في الوِثاقِ، يَثأرُ لنَفسِه مِنه كما يَشاءُ؛ بالقَتلِ أوِ التَّعذيبِ أو غيرِهما.
وكذلك كان الحيَوانُ عِندَهم يُعاقَبُ على جِنايةِ سيِّدِه أو أسرَتِه في بَعضِ الحالاتِ؛ فمَن حُكِمَ عليه بالإعدامِ لجَريمةٍ ارتَكبَها ضِدَّ الدِّينِ أوِ الدَّولةِ، كان هو وأسرتُه وحيَواناتُه ومُمتَلَكاتُه مَحكومًا عليها بالحَرقِ أوِ التَّدميرِ أوِ المُصادَرةِ!
وأمَّا قُدَماءُ الرُّومانِ: فقَد تَضَمَّنَت شَرائِعُهم مادَّةً تَقضي بعُقوبةِ الإعدامِ على الثَّورِ وصاحِبِه إذا نَقَل الثَّورُ أثناءَ الحَرثِ الحَدَّ الفاصِلَ بينَ الحَقلِ المَحروثِ والحَقلِ المُجاوِرِ له!
وأقَرَّت عُقوبةَ الكَلبِ الذي يَعَضُّ إنسانًا بوُجوبِ التَّخَلِّي عنه للمَعضوضِ يَتَصَرَّفُ فيه كما يَشاءُ، وكذلك إذا رَعى الحيَوانُ عُشبًا غيرَ مَملوكٍ لصاحِبِه!
وكذلك الحالُ عِندَ قُدَماءِ الجرمانِ، مِن عُقوبةِ الحيَوانِ، كما كان عِندَ الرُّومانِ واليونانِ.
أمَّا عِندَ قُدَماءِ الفُرسِ: فالأمرُ أعجَبُ وأطرَفُ؛ ذلك أنَّ الكلبَ المُصابَ بالكَلَبِ (Rabies) إذا عَضَّ خَروفًا فقَتَله، أو إنسانًا فجَرَحَه، تُقطَعُ أذُنُه اليُمنى، فإن تَكرَّر ذلك مِنه قُطِعَت أذُنُه اليُسرى، وفي المَرَّةِ الثَّالثةِ تُقطَعُ رِجلُه اليُمنى، وفي المَرَّةِ الرَّابعةِ تُقطَعُ رِجلُه اليُسرى، وفي الخامِسةِ يُستَأصَلُ ذَنَبُه!
وعِندَ الأمَمِ الأورُبِّيَّةِ في العُصورِ الوُسطى: كانت فرَنسا أوَّلَ أمَّةٍ أوروبِّيَّةٍ نَصرانيَّةٍ أخَذَت في القَرنِ الثَّالثَ عَشَرَ بمَبدَأ مسؤوليَّةِ الحيَوانِ ومُعاقَبتِه بجُرمِه أمامَ مَحاكِمَ مُنَظَّمةٍ بالطُّرُقِ القانونيَّةِ نَفسِها التي يُحاكَمُ بها الإنسانُ!
ثُمَّ أخَذَت به سردينيا في أواخِرِ القَرنِ الرَّابعَ عَشَرَ، ثُمَّ بلجيكا في أواخِرِ القَرنِ الخامِسَ عَشَرَ. وفي هولندا وألمانيا وإيطاليا والسُّويدِ في مُنتَصَفِ القَرنِ السَّادِسَ عَشَرَ. وظَلَّ العَمَلُ به قائِمًا عِندَ بَعضِ شُعوبِ الصَّقالبةِ حتَّى القَرنِ التَّاسِعَ عَشَرَ!
كانت مُحاكَمةُ الحيَوانِ عِندَ الأورُبِّيِّينَ تَقومُ على ادِّعاءِ المَجنيِّ عليه أوِ النِّيابةِ العامَّةِ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ وُكلاءُ الدِّفاعِ عنِ الحيَوانِ المُجرِمِ، وقد تَقضي المَحكمةُ بحَبسِ الحيَوانِ احتياطيًّا! ثُمَّ يَصدُرُ الحُكمُ بَعدَ ذلك، ويُنَفَّذُ على مَلأٍ مِنَ الجُمهورِ كما يُنَفَّذُ في الإنسانِ، وقد يَكونُ الحُكمُ بإعدامِ الحيَوانِ رَجمًا، أو بقَطعِ رَأسِه، أو بحَرقِه، أو بقَطعِ بَعضِ أعضائِه قَبلَ إعدامِه.
ولا يَظُنَّنَّ أحَدٌ أنَّ هذه المُحاكَمةَ كانت هَزليَّةً للتَّسليةِ، بَل كانت جِدِّيَّةً تَمامًا، بدَليلِ ما يَرِدُ للأسبابِ الموجِبةِ للحُكمِ على الحيَوانِ، مِن مِثلِ قَولِهم: «يُحكَمُ بإعدامِ الحيَوانِ؛ تَحقيقًا للعَدالةِ»، أو: «يُقضى عليه بالشَّنقِ؛ جَزاءً لِما ارتَكبَه مِن جُرمٍ وَحشيٍّ فَظيعٍ»!
ومِن طَريفِ ما يُذكَرُ هنا أنَّ مِنَ الأسبابِ التي كانت تَحمِلُ الأورُبِّيِّينَ على رَفعِ القَضايا على الحيَوانِ: تَعَدِّيَه على قَوانينِ الطَّبيعةِ في نَظَرِهم، فكان يُتَّهَمُ بالسِّحرِ، وهي جَريمةٌ كان مُرتَكِبوها يُعاقَبونَ بالإحراقِ بالنَّارِ!
وكانوا يَحتَفِلونَ احتِفالًا كبيرًا بتَنفيذِ العُقوباتِ على الحيَوانِ، فيَأتي الجَلَّادونَ بقِطَعٍ مِنَ الحَطَبِ، ويَضَعونَها في وسَطِ أحَدِ الميادينِ، وتُحضَرُ القِطَطُ المَحكومُ عليها، كُلُّ هِرَّةٍ في قَفصٍ مِن حَديدٍ، وعِندَما يَحينُ وقتُ تَنفيذِ العُقوبةِ يَحضُرُ بَعضُ القَساوِسةِ يَصحَبُهم بَعضُ الحُكَّامِ، فيَتَقَدَّمُ أحَدُهم وفي كِلتا يَديه شُعلتانِ مِن نارٍ لإشعالِ الحَطَبِ، ثُمَّ يَأمُرُ أحَدُ الحُكَّامِ بقَذفِ القِطَطِ في النَّارِ حتَّى تُصبحَ رَمادًا؛ عُقوبةً لها على مُمارَسَتِها السِّحرَ!
.... وبَعدُ فهذه مُقارَناتٌ طَريفةٌ بينَ مَوقِفِ حَضارَتِنا مِنَ الحيَوانِ ومَوقِفِ غيرِنا مِنَ الأمَمِ مِنه، ومِنها يَتَّضِحُ أنَّ حَضارَتَنا امتازَت بأمرينِ لا مَثيلَ لهما عِندَ الأمَمِ القَديمةِ وبَعضِ الأمَمِ الحَديثةِ اليَومَ:
أوَّلُهما: إقامةُ مُؤَسَّساتٍ اجتِماعيَّةٍ للعِنايةِ بالحيَوانِ وتَطبيبِه وتَأمينِ مَعيشَتِه عِندَ العَجزِ والمَرَضِ والشَّيخوخةِ.
ثانيهما: أنَّ حَضارَتَنا خَلَت مِن مُحاكَمةِ الحيَوانِ؛ لأنَّها نادَت برَفعِ المسؤوليَّةِ الجِنائيَّةِ عنه قَبلَ ثَلاثةَ عَشَرَ قَرنًا مِن مُناداةِ الحَضارةِ الحَديثةِ بذلك.
كما أنَّ حَضارَتَنا خَلت مِن مَظاهرِ القَسوةِ والتَّحريشِ بينَ الحيَواناتِ، وهي التي كانت مُعتَرَفًا بها رَسميًّا لدى اليونانِ والرُّومانِ، ولا تَزالُ مُعتَرَفًا بها في إسبانيا؛ حيثُ تُقامُ الحَفَلاتُ الكُبرى لمُصارَعةِ الثِّيرانِ، وهي بلا شَكٍّ وحشيَّةٌ مِن بَقايا وحشيَّةِ الغَربيِّينَ القُدَماءِ وفي العُصورِ الوُسطى، وقد تَنَزَّهَت عنها حَضارَتُنا...
هَكذا كان طابَعُ حَضارَتِنا؛ رِفقًا بالحيَوانِ، وعِنايةً به مِن قِبَلِ الدَّولةِ والمُؤَسَّساتِ الاجتِماعيَّةِ.
أمَّا عِنايةُ الدَّولةِ فليس أدَلَّ على ذلك مِن أنَّ خُلفاءَها كانوا يُذيعونَ البَلاغاتِ العامَّةَ على الشَّعبِ يوصونَهم فيها بالرِّفقِ بالحيَوانِ، ومَنعِ الأذى عنه والإضرارِ به.
ذَكرَ ابنُ عَبدِ الحَكَمِ في «سيرةِ عُمَرَ بنِ عَبدِ العَزيزِ» أنَّه كان يَنهى عن رَكضِ الفرَسِ في غيرِ حَقٍّ.
وأنَّه كَتَبَ إلى صاحِبِ السِّكَكِ ألَّا يُلجِموا واحِدًا مِنها بلجامٍ ثَقيلٍ، ولا يَنخَسوها بمِقرَعةٍ في أسفَلِها حَديدةٌ.
وكتَبَ إلى واليه بمِصرَ:
«إنَّه بلغني أن بمصرَ إبِلًا نقَّالاتٍ، يُحمَلُ على البعيرِ منها ألفُ رِطلٍ، فإذا أتاك كتابي هذا فلا أعرِفَنَّ أنَّه يُحمَلُ على البعيرِ أكثَرُ من ستِّمائةِ رِطلٍ!».
وكان مِن وظيفةِ المُحتَسِبِ -وهي وظيفةٌ تُشبِهُ في بَعضِ صَلاحيَّاتِها وظيفةَ الشُّرطيِّ في عَصرِنا الحاضِر- أن يَمنَعَ النَّاسَ مِن تَحميلِ الدَّوابِّ فَوقَ ما تُطيقُ، أو تَعذيبِها وضَربِها أثناءَ السَّيرِ، فمَن رَآه يَفعَلُ ذلك أدَّبَه وعاقَبَه: «ويُجبرُهمُ المُحتَسِبُ على فِعلِ ذلك؛ لِما فيه مِنَ المَصلحةِ، ولا يُحَمِّلونَ الدَّوابَّ أكثَرَ مِن طاقَتِها، ولا يَسوقونَها سَوقًا شَديدًا تَحتَ الأحمالِ، ولا يَضرِبونَها ضَربًا قَويًّا، ولا يوقِفونَها في العِراصِ -السَّاحاتِ العامَّةِ- وعلى ظُهورِها أحمالُها؛ فإنَّ هذا كُلَّه نَهَتِ الشَّريعةُ المُطَهَّرةُ عن فِعلِه. وعليهم أن يُراقِبوا اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ في عَلفِ الدَّابَّةِ وعُلَّيقِها، ويَكونُ موفَّرًا عليها بحيثُ يَحصُلُ به الشِّبَعُ، ولا يَكونُ مَبخوسًا ولا نَزْرًا».
وكان المُحتَسِبُ يَمنَعُ ذَبحَ العِشارِ الحَوامِلِ، وأن تُسلَخَ شاةٌ مَذبوحةٌ إلَّا بَعدَ أن تَبرُدَ.
وقد أناطَتِ الدَّولةُ الإسلاميَّةُ للمُحتَسِبِ مُهمَّةَ مُراقَبةِ البياطِرةِ أثناءَ مُمارَسَتِهم لمَهامِّهم، ومُعاقَبةِ مَن يَقومُ بالمُعالجةِ وليس هو مِنَ المُختَصِّينَ، فيَذكُرُ ابنُ الإخوةِ القُرَشيُّ (ت 729هـ - 1329م) في كِتابه «مَعالم القُربةِ في أحكامِ الحِسبةِ» أنَّه عِندَ قيامِ البياطِرةِ بفصدٍ أو قَطعٍ أو كيٍّ مِن غيرِ خِبرةٍ، فيَلزَمُ أرْشُ -ديةُ الجِراحِ- ما نَقَصَ مِن قيمةِ الدَّابَّةِ إذا أصابَها عَطبٌ أو هَلَكَت.
ولم يَجِدْ قُضاةُ الدَّولةِ الإسلاميَّةِ حَرَجًا في النَّظَرِ في القَضايا المُتَعَلِّقةِ بحُقوقِ الحيَواناتِ الجِنائيَّةِ؛ إنصافًا لها، وتَعويضًا لأصحابها؛ حيثُ سَنَّت غَراماتٍ ماليَّةً تَتَناسَبُ مَعَ الضَّرَرِ الذي لحِقَ بالدَّابَّةِ؛ فقَد قَضى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في عينِ الفرَسِ برُبعِ ثَمَنِها، فجَرى هذا الحُكمُ سُنَّةً، فقَضى فيه الخَليفةُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه ومَن جاءَ بَعدَه.
فعَن عُروةَ البارقيِّ، قال: كان لي أفراسٌ فيها فحلٌ ثَمَنُه عِشرونَ ألفَ دِرهَمٍ، ففقَأَ عينَه دِهقانٌ، فأتيتُ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، فكتَبَ إلى سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ: أنْ خَيِّرِ الدِّهقانَ بينَ أن يُعطيَه عِشرينَ ألفًا ويَأخُذَ الفَرَسَ، وبَينَ أن يَغرَمَ برُبعِ الثَّمَنِ
[2722] أخرجه لوين في ((جزء له)) (22)، والدمياطي في ((الخيل)) كما في ((التلخيص الحبير)) لابن حجر (3/1026) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُ الدِّمياطيِّ: (كانت لي أفراسٌ فيها فَحل شِراء عِشرونَ ألفَ دِرهَمٍ، ففقَأ عينَه دِهقانٌ، فأتيتُ عُمَرَ فكتَبَ إلى سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ أنْ خَيِّرِ الدِّهقانَ بينَ أن يُعطيَه عِشرينَ ألفَ دِرهَمٍ ويَأخُذَ الفرَسَ، وبينَ أن يَأخُذَ رُبعَ الثَّمَنِ). قوَّى إسنادَه ابنُ حجر في ((التلخيص الحبير)) (3/1026). وأخرجه ابنُ حزم في ((المحلى)) (10/428) عَن عَبدِ المَلكِ بنِ عُمَيرٍ قال: إنَّ دِهقانًا فقَأ عيَن فَرَسٍ لعُروةَ بنِ الجَعدِ، فكَتَب سَعدُ بنُ أبى وقَّاصٍ إلى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ يَسألُه عَن ذلك، فكَتَب عُمَرُ إليه أن خَيِّرِ الدِّهقانَ؛ فإن شاءَ أخَذَ الفرَسَ وأعطى الشَّروى، وإن شاءَ أعطى رُبعَ ثَمَنِه، فقُوِّم الفَرَسُ عِشرينَ ألفًا فغَرِمَ خَمسةَ آلافٍ. ذكَر ثُبوتَه ابنُ حَزمٍ. .
ولقَد تَنَزَّهَتِ الحَضارةُ الإسلاميَّةُ عن مَظاهرِ القَسوةِ مَعَ الحيَواناتِ فيما مَضى وفي العَصرِ الحاضِرِ؛ فمَعَ ادِّعاءِ الغَربِ أنَّه "رائِدُ" فِكرةِ الرِّفقِ بالحيَوانِ، رَأينا في الغَربِ والشَّرقِ صُوَرًا مِنَ الوحشيَّةِ لا تَزالُ تُمارَسُ ضِدَّ الحيَواناتِ؛ ومِنها:
1- مُصارَعةُ الثِّيرانِ:
وهي رياضةٌ مَشهورةٌ في إسبانيا، وما زالت تُقامُ حتَّى الآنَ، ويُشاهدُها الآلافُ؛ حيثُ يَقومُ شَخصٌ مُدَرَّبٌ يُسَمَّى "الماتادور" -وهي تَعني: القاتِلَ في اللُّغةِ الإسبانيَّةِ- بمُصارَعةِ أحَدِ الثِّيرانِ، بأن يَركبَ حِصانًا مَرَّةً، أو يُصارِعَ على قَدَميه أخرى، وغالبًا ما تَكونُ بيَدِه قِطعةٌ مِنَ القُماشِ الأحمَرِ اللَّونِ، وتَنتَهي المُصارَعةُ غالبًا برَشقِ مَجموعةٍ مِنَ الأسِنَّةِ والرِّماحِ بجَسَدِ الثَّورِ، وقد تَنتَهي بحياةِ المُصارِعِ ذاتِه!
وتَجري مُصارَعةُ الثِّيرانِ أيضًا في البُرتُغالِ، وأمريكا اللَّاتينيَّةِ (المكسيك، وبيرو، وكولومبيا، وفِنزِويلا، والأكوادور)، وموزَمبيق، واليونان، وإيطاليا، وغيرها؛ حيثُ يَجتَهدُ المُصارِعُ في أن يَغلِبَ الثَّورَ تَدريجيًّا ليُذيقَه المَوتَ البَطيءَ، وذلك عن طَريقِ رَشقِ السِّهامِ في جَسَدِه، ورُؤيةِ دِمائِه تَتَفجَّرُ مَن كُلِّ جُزءٍ مِن بَدَنِ الثَّورِ، لا لشَيءٍ إلَّا لمُجَرَّدِ التَّسليةِ والاستِمتاعِ!
وتُقامُ هذه المُصارَعاتُ في حَلباتٍ كُبرى يُشاهدُها جُمهورٌ يَستَمتِعُ بتَعذيبِ الثَّورِ بهذه الطَّريقةِ البَشِعةِ، ويَدَّعونَ ذلك ضَربًا مِنَ الرِّياضةِ والتَّسليةَ المُمتِعةَ!
حتَّى إنَّ الإحصائيَّاتِ لتُشيرُ إلى أنَّ ما يَقرُبُ مِن 300000 ثَورٍ يُقتَلُ سَنَويًّا في إسبانيا وحدَها، ويَموتُ 210000 ثَورٍ في أمريكا اللَّاتينيَّةِ سَنَويًّا!
يَقولُ الدُّكتور سَلامة البلوي: إنَّ الحَضارةَ الإسلاميَّةَ التي جَعَلتِ الرَّحمةَ هاديًا ونِبراسًا لها، تَرفُضُ استِخدامَ الحيَواناتِ وسائِلَ للتَّسليةِ عن طَريقِ تَعذيبِها؛ لأنَّ ذلك يَتَناقَضُ مَعَ مَبدَأِ الرَّحمةِ الذي تُنادي به.
عِلمًا بأنَّنا نَرى اليَومَ في بَعضِ الشُّعوبِ المُنتَميةِ إلى الحَضارةِ الغَربيَّةِ التي غَزَتِ الفضاءَ وبَلَغَت مِنَ الرُّقيِّ المادِّيِّ أقصاه، نَراها تَتَلذَّذُ بمَشاهدِ الدَّمِ الثَّاغِبِ مِن جِراحاتِ الثِّيران التي أطلقوا على مَن يَقومُ بقَتلِها في حَلباتِ المُصارَعةِ أرفعَ الأوسِمةِ والألقابِ! لا، بَل إنَّ الجَماهيرَ التي فسَدَ ذَوقُها، وجَفَّت مَعاني الرَّحمةِ عِندَها، نَجِدُها تَهتِفُ بأعلى أصواتِها مُشَجِّعةً للمُصارِعينَ للتَّعجيلِ بجَدعِ آذانِ الثِّيرانِ وهي جَريحةٌ تُصارِعُ المَوتَ! ويَزدادُ التَّصفيقُ عِندَما يَتِمُّ قَطعُ رُؤوسِها!
فأيُّ حَضارةِ تلك التي تَجعَلُ مِنَ العَبَثِ في أراوحَ مَخلوقاتِ اللهِ مَعلمًا مِن مَعالمِ تَقَدُّمِ الرِّياضةِ عِندَها، فتُرَوِّجُ لهذا اللَّونِ الدَّمَويِّ مِنَ الرِّياضاتِ في مُختَلِفِ وسائِلِ الإعلامِ؟! ورُبَّما حَضَرَ هذه المُصارَعاتِ كِبارُ رِجالِ التَّربيةِ والسِّياسةِ والأعمالِ والاقتِصادِ والثَّقافةِ!
وهذا لا يَنطَبقُ فقَط على الإسبانِ الذينَ أنشؤوا هذا اللَّونَ مِنَ الرِّياضاتِ، بَل يَنطَبقُ على بَقيَّةِ الأوروبِّيِّينَ وغيرِهم مِمَّن يَجِدُ مُتعةً في مُصارَعةِ الدُّيوكِ، أوِ الهراشِ بينَ الكِلابِ وغَيرِها مِنَ الحيَواناتِ.
2- مُصارَعةُ الدِّيَكةِ بالتَّحريشِ بينَها:
تُقامُ مُبارياتُ صِراعِ الدِّيَكةِ في حَلبةٍ مُغلَقةٍ في الهَواءِ الطَّلقِ عادةً، ويُراهِنُ المُتَفرِّجونَ على دِيَكَتِهم المُفضَّلةِ.
في بدايةِ المُباراةِ يُمسِكُ المُدَرِّبونَ بدِيَكَتِهم جيِّدًا، ويَدَعونَها يَنقُرُ بَعضُها بَعضًا، وحينَ يَشتَدُّ غَضَبُ الدِّيَكةِ، يُطلِقونَها، ويَبدَأ النِّزالُ.
نَشَأت مُصارَعةُ الدِّيَكةِ في آسيا مُنذُ آلافِ السِّنينَ، وعَرَفتِ اللُّعبةُ طَريقَها إلى روما وبلادِ الإغريقِ عن طَريقِ الهندِ والصِّينِ، ثُمَّ انتَشَرَت في أنحاءِ أوروبَّا. وفي القَرنِ السَّابعَ عَشَرَ الميلاديِّ أصبَحَت لُعبةً شَعبيَّةً في إنجِلتِرا؛ حيثُ صارَت تَربيةُ ديَكةِ المُصارَعةِ وتَدريبُها تِجارةً مُهمَّةً!
ومِثلُ هذا النَّوعِ مِنَ المُصارَعةِ مُحَرَّمٌ شَرعًا؛ لِما رُوِيَ مِنَ النَّهيِ عنِ التَّحريشِ بينَ الحيَواناتِ، ولِما في ذلك مِنَ الوَحشيَّةِ، وعَدَمِ الرِّفقِ بالحيَوانِ، فإذا أضيفَ إلى ذلك الرِّهانُ بينَ المُشاهدينَ كان ذلك أشَدَّ تَحريمًا.
3- ومِنَ المَسالِكِ الوَحشيَّةِ مَعَ الحيَواناتِ: ما يَفعَلُه بَعضُ المُتَوحِّشينَ أكَلةِ دِماغِ القِرَدةِ في الفِلبِّينِ؛ حيثُ يَقومونَ بتَثبيتِ رَأسِ القِردِ في فُتحةٍ خاصَّةٍ بطاوِلةٍ (تَرابيزة) صَغيرةٍ، ثُمَّ يَفتَحونَ قِحْفَ رَأسِ القِردِ بسِكِّينٍ خاصَّةٍ، ويَأكُلونَ دِماغَه بالمِلعَقةِ وهو حيٌّ يَضرِبُ بيَدَيه ورِجلَيه!
وفي اليابانِ يَفخَرُ بَعضُ أصحابِ المَطاعِمِ بتَقديمِ السَّمَكِ المَقليِّ والمَشويِّ -وهو لا يَزالُ يَتَقَلَّبُ حيًّا في الصَّحفةِ- إلى الزَّبونِ المُفتَرِسِ!).
ثُمَّ يَقولُ تَحتَ عُنوانِ: (دين الوسَطيَّةِ):
(إنَّ شَريعةَ الإسلامِ التي تَميَّزَت بالعَدلِ والإحسانِ والرَّحمةِ والوسَطيَّةِ، وحَرَّمَتِ الظُّلمَ والعُدوانَ: أعطَت كُلَّ ذي حَقٍّ حَقَّه.
فهي -كما رَأينا- ضَرَبَت أروعَ الأمثِلةِ في رَحمةِ الحيَوانِ والإحسانِ إليه بما يُناسِبُه، لكِنَّها تَنَزَّهَت عنِ الإفراطِ الشَّائِنِ الصَّادِرِ عن بَعضِ الغَربيِّينَ في مُعامَلةِ الحيَوانِ.
ومِن مَظاهرِ هذا الإفراطِ: الغُلوُّ في الإحسانِ إلى الحيَوانِ إلى حَدِّ أن يوصيَ بَعضُهم بثَروتِه كُلِّها للكَلبِ أوِ القِطِّ! وفي الوقتِ نَفسِه يَحرِمُ أولادَه مِنها!
ورَأينا فنادِقَ خاصَّةً بالكِلابِ والقِطَطِ، ورَأينا مِنَ الغَربيِّينَ مَن يَتَفنَّنُ في شِراءِ أنفَسِ الأطعِمةِ وأغلاها مِمَّا خُصِّصَ للكِلابِ والقِطَطِ، في حينِ يَطرُدُ أمَّه المُسِنَّةَ خارِجَ البيتِ؛ لأنَّه «لا يَقدِرُ على الإنفاقِ عليها»!
وهذا انتِكاسٌ عنِ الفِطرةِ القَويمةِ، وجُحودٌ لتَكريمِ اللهِ تعالى لبَني آدَمَ، فضلًا عن عُقوقِ الوالِدَينِ في أبشَعِ صُوَرِه!
فيا لَلهِ للعَجَبِ مِن حَضارةٍ تَمسَحُ شَعثَ الكَلبِ، وتُدمي قُلوبَ الشُّعوبِ! تُبالغُ في حُقوقِ الحيَوانِ، وتُبالغُ أيضًا في انتِهاكِ حُقوقِ الإنسانِ! وتُذيقُ شُعوبَ البلادِ الفقيرةِ مَراراتِ الحُروبِ والإبادةِ والجوعِ والحِرمانِ!)
[2723] يُنظر: ((فقه الإحسان إلى الحيوان)) (ص: 109-117، 144-152). .
الحكمُ على الحيوانِ بالمعروفِ مِن خُلُقِه عنِ الزُّهريِّ، قال: أخبَرَني عُروةُ بنُ الزُّبَيرِ، عن المِسْوَرِ بنِ مَخرَمةَ ومَروانَ يُصَدِّقُ كُلُّ واحدٍ منهما حديثَ صاحِبِه، قالا:
((خرج رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم زَمَن الحُدَيبيةِ حتَّى إذا كانوا ببَعضِ الطَّريقِ، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ خالدَ بنَ الوليدِ بالغَميمِ [2724] موضعٌ قريبٌ من مكَّةَ بَيْنَ رابغٍ والجُحفةِ. يُنظر: ((إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري)) للقسطلاني (4/ 443). في خَيلٍ لقُرَيشٍ طليعةٌ، فخُذوا ذاتَ اليمينِ، فواللهِ ما شَعَر بهم خالدٌ حتَّى إذا هم بقَتَرةِ [2725] أي: غبارِه الأسوَدِ. يُنظر: ((إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري)) للقسطلاني (4/ 443). الجيشِ، فانطلق يركُضُ نذيرًا لقريشٍ، وسار النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى إذا كان بالثَّنيَّةِ [2726] هي طريقٌ في الجَبَلِ تُشرِفُ على الحُدَيبيَةِ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (5/ 335). التي يُهبَطُ عليهم منها برَكَت به راحلتُه، فقال النَّاسُ: حَلْ حَلْ [2727] زجرٌ للرَّاحِلةِ إذا حملها على السَّيرِ. يُنظر: ((إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري)) للقسطلاني (4/ 443). فألحَّت [2728] أي: تمادت في البُروكِ فلم تبرَحْ من مكانِها. يُنظر: ((إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري)) للقسطلاني (4/ 443). ، فقالوا: خلَأتِ [2729] أي: امتنعَت من المشيِ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 113). القَصواءُ [2730] اسمُ ناقةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (5/ 335). ، خلأتِ القَصواءُ! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما خلأتِ القصواءُ، وما ذاك لها بخُلُقٍ [2731] أي: ما هو من عادتِها. يُنظر: ((كشف المشكل من حديثِ الصحيحين)) لابن الجوزي (4/ 51). ، ولكن حبَسَها حابِسُ الفيلِ [2732] أي: حبسها اللهُ عن دخولِ مكَّةَ كما حبَس الفيلَ عن مكَّةَ؛ لأنهم لو دخلوا مكَّةَ على تلك الهيئةِ وصَدَّهم قريشٌ عن ذلك لوقع بَينَهم ما يُفضي إلى سَفكِ الدِّماءِ ونهبِ الأموالِ، لكن سَبَق في العِلمِ القديمِ أنَّه يدخُلُ في الإسلامِ منهم جماعاتٌ. يُنظر: ((إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري)) للقسطلاني (4/ 444). ...)) الحَديثَ
[2733] أخرجه البخاري (2731، 2732). .
قال ابنُ بَطَّالٍ في فوائِدِ الحَديثِ: (فيه دَليلٌ على أنَّ الأخلاقَ المَعروفةَ مِنَ الحيَوانِ كُلُّها يُحكَمُ بها على الطَّارِئِ الشَّاذِّ مِنها، وكذلك في النَّاسِ إذا نُسِبَ إنسانٌ إلى غيرِ خَلُقِه المَعلومِ في هَفوةٍ كانت مِنه، لم يُحكَمْ بها)
[2734] ((شرح صحيح البخاري)) (8/ 126). .
وقال ابنُ حَجَرٍ: (فيه جَوازُ الحُكمِ على الشَّيءِ بما عُرِف مِن عادَتِه، وإن جازَ أن يَطرَأَ عليه غيرُه، فإذا وقَعَ مِن شَخصٍ هَفوةٌ لا يُعهَدُ مِنه مِثلُها، لا يُنسَبُ إليها، ويُرَدُّ على مَن نَسَبه إليها. ومَعذِرةُ مَن نَسَبَه إليها مِمَّن لا يَعرِفُ صورةَ حالِه؛ لأنَّ خَلاءَ القَصواءِ لولا خارِقُ العادةِ لكان ما ظَنَّه الصَّحابةُ صَحيحًا، ولم يُعاتِبْهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على ذلك لعُذرِهم في ظَنِّهم)
[2735] ((فتح الباري)) (5/ 335، 336). ويُنظر: ((تصنيف الناس بين الظن واليقين)) لبكر أبو زيد (ص: 80، 81). .
استِعمالُ الدَّوابِّ فيما خُلِقَت له:عن أبي هرَيرةَ، رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((بَينَما رَجُلٌ راكِبٌ على بَقَرةٍ التَفتَت إليه فقالت: لم أُخلَقْ لهذا، خُلِقتُ للحِراثةِ! قال: آمَنتُ به أنا وأبو بَكرٍ وعُمَرُ)) [2736] أخرجه البخاري (3284) واللفظ له، ومسلم (2388). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (استُدِلَّ به على أنَّ الدَّوابَّ لا تُستَعمَلُ إلَّا فيما جَرَتِ العادةُ باستِعمالِها فيه، ويُحتَمَلُ أن يَكونَ قَولُها: "إنَّما خُلِقنا للحَرثِ" للإشارةِ إلى مُعظَمِ ما خُلِقَت له، ولم تُرِدِ الحَصرَ في ذلك؛ لأنَّه غَيرُ مُرادٍ اتِّفاقًا؛ لأنَّ مِن أجلِ ما خُلِقَت له أنَّها تُذبَحُ وتُؤكَلُ بالاتِّفاقِ)
[2737] ((فتح الباري)) (6/ 518). .