سادسًا: مظاهِرُ وصُوَرُ حِفظِ اللِّسانِ
فيما يأتي نذكُرُ بعضَ مظاهِرِ وصُوَرِ حِفظِ اللِّسانِ من بعضِ الآفاتِ التي يجِبُ على المُسلِمِ الحَذَرُ من الوقوعِ فيها؛ لِما لها من آثارٍ سَلبيَّةٍ على الفردِ والمجتَمَعِ:
1- اجتنابُ الغِيبةِ والنَّميمةِ:قال
النَّوويُّ: (اعلَمْ أنَّ هاتين الخَصلتينِ من أقبَحِ القبائِحِ وأكثَرِها انتشارًا في النَّاسِ، حتَّى ما يسلَمُ منهما إلَّا القليلُ من النَّاسِ)
[3457] ((الأذكار)) (ص: 336). .
2- حِفظُ اللِّسانِ من الكَذِبِ.3- حِفظُ اللِّسانِ عن بَذيءِ القولِ والفاحِشِ منه.4 - حِفظُ اللِّسانِ عن السَّبِّ والشَّتمِ واللَّعْنِ: وآكَدُ ذلك: حِفظُ اللِّسانِ عن الوقوعِ في أحَدٍ من أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا تَسُبُّوا أصحابي)) [3458] رواه البخاري (3673)، ومسلم (2540). .
وقال العَتبيُّ: (من شريفِ كلامِ بَعضِ السَّلَفِ: لا تَذكُرَنَّ لأحَدٍ من أصحابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم زَلَّةً؛ فإنَّه إن لم يكُنْ في حَسَناتِهم ما يُعفي على سيِّئاتِهم، ففي عظيمِ عَفوِ اللهِ ما يسَعُ سَيِّئاتِهم، واعلَمْ أنَّ اللهَ تعالى لم يأمُرْك باتِّباعِهم وهو يرضى منك بعَيْبِهم!)
[3459] ((البصائر والذخائر)) لأبي حيان (2/ 217). .
5- حِفظُ اللِّسانِ عن الحَلِفِ بغيرِ اللَّهِ، وقد نهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الحَلِفِ بالأمانةِ
[3460] عن بريدة الأسلمي قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((من حَلَف بالأمانةِ فليس منَّا)). أخرجه أبو داود (3253) واللفظ له، وأحمد (22980) مطوَّلًا. صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (4363)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3253)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (176)، وصحَّح إسناده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/124)، والنووي في ((الأذكار)) (456)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3253). ، وعن اليَمينِ الغَموسِ
[3461] عن عبد اللهِ بنِ عَمرٍو، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((الكبائِرُ: الإشراكُ باللهِ، وعقوقُ الوالِدَينِ، وقَتلُ النَّفسِ، واليَمينُ الغَموسُ)). أخرجه البخاري (6675). ، وعن الحَلِفِ باللَّهِ كَذِبًا
[3462] عن أبي هُرَيرةَ قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تحلِفوا بآبائِكم ولا بأمَّهاتِكم ولا بالأندادِ، ولا تحلِفوا إلَّا باللهِ، ولا تحلِفوا باللهِ إلَّا وأنتم صادِقون)). أخرجه أبو داود (3248)، والنسائي (3769). صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (4357)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/455)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3248)، والوادعي على شرط الشيخين في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1294). ؛ ففي حديثٍ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((من حَلَف بغير الِلَّه فقد أشرَكَ)) [3463] أخرجه أبو داود (3251) واللفظ له، والترمذي (1535)، وأحمد (6072) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (4358)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (7814)، وابن تيمية كما في ((المستدرك على مجموع الفتاوى)) لابن قاسم (1/28)، وابن القيم في ((الوابل الصيب)) (189). .
6- حِفظُ اللِّسانِ عن القَذفِ؛ فقد حَرَّم اللَّهُ سُبحانَه عِرْضَ المُسلِمِ، فلا يحِلُّ لأحَدٍ الخَوضُ فيه. وقَذْفُ المُسلِمِ من كبائِرِ الذُّنوبِ، وقد وقَع التَّحذيرُ منه في الكتابِ والسُّنَّةِ.
قال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور: 23] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((اجتَنِبوا السَّبعَ المُوبِقاتِ، قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، وما هُنَّ؟ قال: الشِّركُ باللَّهِ، والسِّحرُ، وقَتلُ النَّفسِ التي حَرَّم اللَّهُ إلَّا بالحَقِّ، وأكلُ الرِّبا، وأكلُ مالِ اليتيمِ، والتَّولِّي يومَ الزَّحفِ، وقَذفُ المُحصَناتِ المُؤمِناتِ الغافِلاتِ)) [3464] أخرجه البخاري (2766) واللفظ له، ومسلم (89). .
(«المُحصَناتُ» العفائِفُ من الفاحشةِ، «المُؤمِناتُ» المتَّصِفاتُ بالإيمانِ بما يجِبُ، «الغافِلاتُ» عن الفاحِشةِ التي لا تخطُرُ ببالِهنَّ)
[3465] ((التنوير)) للصنعاني (1/365). .
وعن
ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمِنًى:
((أتدْرونَ أيُّ يومٍ هذا؟ قالوا: اللهُ ورَسولُه أعلَمُ. قال: فإنَّ هذا يومٌ حرامٌ. أفتدْرونَ أيُّ بَلَدٍ هذا؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلَمُ. قال: بَلَدٌ حرامٌ. أتدْرونَ أيُّ شَهرٍ هذا؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلَمُ. قال: شَهرٌ حرامٌ. قال: فإنَّ اللهَ حَرَّم عليكم دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم كحُرمةِ يَومِكم هذا في شَهرِكم هذا في بَلَدِكم هذا)) [3466] أخرجه البخاري (6043). .
قال
ابنُ حَجَرٍ: (الغَرَضُ منه بيانُ تحريمِ العِرضِ)
[3467] ((فتح الباري)) (10/464). .
7- حِفظُ اللِّسانِ عن السُّخريَّةِ والاستِهزاءِ والتَّحقيرِ للآخَرينَ، وقد حَرَّم اللَّهُ سُبحانَه ذلك كُلَّه.
قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات: 11] . (ومعنى السُّخريَّةِ الاستهانةُ والتَّحقيرُ والتَّنبيهُ على العُيوبِ والنَّقائِصِ على وَجهٍ يُضحَكُ منه، وقد يكونُ ذلك بالمحاكاةِ في الفِعلِ والقَولِ، وقد يكونُ بالإشارةِ والإيماءِ، وإذا كان بحَضرةِ المُستهزَأِ به لم يُسَمَّ ذلك غِيبةً، وفيه معنى الغِيبةِ)
[3468] ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/131). .
وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((بحَسْبِ امرئٍ من الشَّرِّ أن يَحقِرَ أخاه المُسلِمَ)) [3469] أخرجه مسلم (2564) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
قال ابنُ هُبَيرةَ: (فيه تحذيرٌ وأيُّ تحذيرٍ من ذلك؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى لم يحقِرْه إذ خلَقه ورزَقَه، ثمَّ أحسَنَ تقويمَ خَلْقِه، وسَخَّر ما في الأرضِ جميعًا كُلَّه لأجْلِه، وأسجَد له الملائكةَ جميعَهم، ثمَّ إنَّه سُبحانَه سمَّاه مُسلِمًا ومُؤمِنًا وعَبدًا...، وأن يعلَمَ أنَّه بلَغَ مِن قَدرِه إلى أنَّ اللَّهَ عزَّ وجَلَّ جعَل الرَّسولَ إليه منه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فمَن حَقَّر مُسلِمًا من المُسلِمين فقد حَقَّر ما عظَّمه اللَّهُ، وكافيه ذلك حُزنًا)
[3470] ((الإفصاح)) (7/276، 277). .
7- حِفظُ اللِّسانِ عن الخَوضِ في الباطِلِ؛ فالعاقِلُ يجنِّبُ نفسَه الهلاكَ بالخوضِ في أمورٍ باطلةٍ لا تعودُ عليه إلَّا بالضَّرَرِ في دينِه، بل يحفَظُ لِسانَه عن الخوضِ إلَّا في حَقٍّ وإلَّا سكت، فرُبَّ كَلِمةٍ يُلقيها وهو لا يعبَأُ بخَطَرِها، تكونُ سببًا في هلاكِه.
يقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((وإنَّ العبدَ ليتكَلَّمُ بالكَلِمةِ مِن سَخَطِ اللَّهِ لا يُلقي لها بالًا، يهوي بها في جَهنَّمَ)) [3471] أخرجه البخاري (6478)، ومسلم (2988) بنحوه من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
قال
أبو حامِدٍ الغَزاليُّ: (أنواعُ الباطِلِ لا يمكِنُ حَصرُها؛ لكثرتِها وتفَنُّنِها، فلذلك لا مَخلَصَ منها إلَّا بالاقتِصارِ على ما يعني من مُهِمَّاتِ الدِّينِ والدُّنيا، وفي هذا الجِنسِ تَقَعُ كَلِماتٌ يَهلِكُ بها صاحِبُها وهو يستحقِرُها)
[3472] ((إحياء علوم الدين)) (3/115). .
8- حِفظُ اللِّسانِ عن المراءِ والجَدَلِ؛ فإنَّه من آفاتِ اللِّسانِ التي قد يخفى خَطَرُها على صاحبِها، مع ما قد يَقَعُ بسَبَبِه من الكلامِ المذمومِ الذي يحمِلُ عليه محبَّةُ الانتصارِ للنَّفسِ، وما قد يصاحِبُه من الغَضَبِ الذي يحمِلُ على انفلاتِ اللِّسانِ؛ ولذلك نهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنه.
يقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أنا زعيمٌ ببَيتٍ في رَبَضِ الجنَّةِ لِمَن تَرَك المراءَ وإن كان مُحِقًّا...)) [3473] أخرجه أبو داود (4800)، والطبراني (8/117) (7488)، والبيهقي (21708) من حديثِ أبي أُمامةَ الباهليِّ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه النووي في ((رياض الصالحين)) (ص216)، وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4800)، وحسَّن إسنادَه المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/50)، وابن باز في ((حاشية بلوغ المرام)) (810)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4800). .
فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يدعو المحِقَّ إلى تَركِ الجِدالِ، فكيف بمن يخوضُه انتصارًا للنَّفسِ ولا يحمِلُه عليه سوى الغَضَبِ وحُبِّ الثَّأرِ؟! لا شَكَّ أنَّ ذلك أَولى أن يَترُكَه سلامةً لدينِه وحِفظًا للِسانِه.
9- حِفظُ اللِّسانِ عن الإفراطِ في المُزاحِ؛ فإنَّ الإفراطَ فيه مذمومٌ؛ لِما قد يترَتَّبُ عليه من حصولِ الضَّغينةِ في بعضِ الأحوالِ وسُقوطِ المهابةِ والوَقارِ، كما أنَّه قد يُفضي إلى السُّخريَّةِ والاستهزاءِ وغيرِهما من المحرَّماتِ.
10- حِفظُ اللِّسانِ عن التَّقعُّرِ في الكلامِ بالتَّشدُّقِ وتكَلُّفِ السَّجعِ، وكُلُّ ذلك من التَّصنُّعِ المذمومِ ومن التَّكَلُّفِ الممقوتِ.
عن عبدِ اللَّهِ، قال:
((قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هَلَك المتنَطِّعون. قالها ثلاثًا)) [3474] أخرجه مسلم (2670). .
وعن
عبدِ اللَّهِ بنِ عَمرٍو، قال:
((قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ اللَّهَ عزَّ وجَلَّ يُبغِضُ البليغَ من الرِّجالِ الذي يتخَلَّلُ بلِسانِه تَخلُّلَ الباقِرةِ [3475] أي: البَقَرة. يُنظَر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (5/ 168). بلِسانِها)) [3476] أخرجه أبو داود (5005) واللفظ له، والترمذي (2853)، وأحمد (6543). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (5005)، وقال الترمذي: حسن غريب، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (10/53)، وحسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (5005). .
قال
المُناويُّ: («إنَّ اللَّهَ تعالى يُبغِضُ البليغَ من الرِّجالِ» أي: المُظهِرَ للتَّفصُّحِ تِيهًا على الغيرِ وتفاصُحًا واستعلاءً، ووسيلةً إلى الاقتدارِ على تصغيرِ عَظيمٍ أو تعظيمِ حَقيرٍ، أو بقَصدِ تعجيزِ غيرِه أو تزيينِ الباطِلِ في صورةِ الحَقِّ أو عَكسِه)
[3477] ((فيض القدير)) (2/ 283). .
وهذه ليست إلَّا نماذِجَ ومظاهِرَ لآفاتِ اللِّسانِ التي ينبغي أن يحرِصَ المُسلِمُ على اجتنابِها؛ فآفاتُ اللِّسانِ لا تكادُ يَشمَلُها حَصرٌ، وفيما ذُكِر كفايةٌ في تذكيرِ المُسلِمِ الحريصِ على سلامةِ دينِه بضرورةِ حِفظِ لِسانِه إلَّا عن خيرٍ ونَفعٍ، ومصلحةٍ في دينِه ودُنياه.